الشرح:
قال الجوھري أن السَخَط على وزن الفرس، والسُخط على وزن قُفل معناه خلاف الرضا. وقَدْ سَخِطَ أي غَضِبَ
فَھُو ساخِطٌ. الْقِسْطُ: بكسر القاف بمعنى العدل ويكون عطفه على العدل في قوله (إنَّ االله بِعَدْلِه وَقِسْطِهِ) من
العطف التفسیري. الرَّوْحُ وَالرّاحَةُ: ھما بمعنى واحد وھو الاستراحة، كما يقول الجوھري فیكون عطف الراحة على
الروح عطفاً تفسیرياً. أو أن «الرَوْح» بمعنى راحة القلب و«الراحة» بمعنى استراحة البدن. كما يقول المجلسي.
وَالْھَمُّ وَالْحُزْنُ: قال الجوھري أنھما بمعنى واحد فیكون عطف الثاني على الأول عطفاً تفسیرياً. قال المجلسي
«الھمُّ اضطراب النفس عند تحصیله. والحزن جزعھا واغتمامھا بعد فواته»
٦٦٤
.
فصل: شرح قوله علیه السّلام ولا يلومھم على ما لو يؤته االله
قوله علیه السَلام: «وَلا يَلومَھُمْ عَلى ما لَمْ يُؤْتِهِ االلهُ» في ھذه العبارة احتمالان: «أحدھما: لا يذمھم ـ الناس ـ
ولا يشكرھم على ترك صلتھم إياه بالمال وغیره فإنه يعلم صاحب الیقین أن ذلك شيء لم يقدره االله له ولا يرزقه
إياه لعدم كون صلاحه فیه مطلقاً أو في كونه بید ھذا الرجل وبتوسطه، بل يوصله إلیه من حیث لا يحتسب فلا
. لقد أبدى المحقق الفیض الكاشاني رحمه االله ھذا الاحتمال. وأيّده أيضاً المحدث الخبیر ٦٦٥ يلوم أحد بذلك»
المجلسي. ثانیھما: ما أحتمله أيضاً الفیض رحمه االله وھو: «أنه لا يلومھم ـ الناس ـ على ما لم يؤته االله إياھم
فإن االله خلق كل واحد على ما ھو علیه وكل میّسر لما خلق له فیكون كقوله علیه السّلام لو علم الناس كیف
. قال المحدث المجلسي رحمه االله «ولا يخفى بعده لاسیما بالنظر إلى ٦٦٦ خلق االله ھذا الخلق لم يَلُم أحد أحداً»
. يقول الكاتب أن الاحتمال الثاني أفضل بكثیر من الاحتمال الأول، خاصة ٦٦٧ التعلیل بقوله فَإنَّ الرِّزْق لاَ يَسوقُهُ»
بالنسبة إلى التعلیل المذكور ـ فإن الرزق لا يسوقه ـ لأنه يصح تأنیب الناس على فقرھم وعسر معیشتھم فیما
إذا تمكنوا باختیارھم تحصیل الرزق، وتمكنوا من خلال السعي وبذل الجھد، الترفیه على النفس والتوسعة علیھا،
فیصح حینئذٍ أن يخاطب المرء صاحبه قائلاً: إنني سعیت وجاھدت، ولكنك لم تتحرك ولم تجھد فأصبت بالضائقة
المعیشیة: ولكن أھل الیقین يعلمون بأن الحرص والاكتساب لا يجلبان الرزق، فلا يلومونھم على لم يؤته االله. ولابد
من معرفة أن أمثال ھذه الأحاديث الشريفة الظاھرة في أن الرزق مقسوم ومقدر، كما ھو المستفاد من الآيات
القرآنیة المباركة، ھذه الأحاديث لا تتنافى مع الأخبار التي تحث على طلب الرزق وتؤكد على الكسب والتجارة،
والتي ترى كراھة شرعیة في ترك العمل والإحجام عن تحصیل الرزق، وتلوم على التخلي عن الكسب، وجاعلة
التارك للاشتغال بالعمل التجاري ممن لا يستجاب دعاءه، ولا يبعث االله رزقه. والأحاديث بھذا الصدد كثیرة. ونحن
نقتصر على حديث واحد منھا: عن محمّد بن الحسن شیخ الطائفة ـ قُدِّسَ سِرُّهُ ـ بإسناده عن عليّ بن عبد العزيز
٦٦٢
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب المصافحة، ح١٤.
(أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل الیقین، ح٢ .(٦٦٣
(مرآة العقول، المجلد ٧ ،ص٣٥٩ ط دار الكتب الإسلامیة ـ طھران). ٦٦٤
(مرآة العقول، المجلد ٧ ،ص٣٥٦ ط دار الكتب الإسلامیة ـ طھران). ٦٦٥
(مرآة العقول، المجلد ٧ ،ص٣٥٦ ط دار الكتب الإسلامیة ـ طھران). ٦٦٦
(مرآة العقول، المجلد ٧ ،ص٣٥٧ ط دار الكتب الإسلامیة ـ طھران). ٦٦٧
٢٣٩
قال: قال أبو عبد االله علیه السّلام: «ما فَعَلَ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ؟ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِداكَ أقْبَلَ عَلى الْعِبادَةِ وَتَرَكَ التِّجارَةَ.
فَقالَ: وَيْحَهُ، أما عَلِمَ أنَّ تارِكَ الطَّلَبِ لا يُسْتَجابُ لَهُ دَعْوَةٌ؟ إنَّ قَوْماً مِنْ أصْحابِ رَسُولِ االلهِ صلّى االله علیه وآله
وسلم لَمّا نَزَلَتْ [وَمَنْ يَتَّقِ االلهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَیْثُ لا يَحْتَسِبُ] أغْلَقُوا الأبْوابَ وَأقْبَلُوا عَلَى الْعِبَادَةِ
وَقالُوا: قَدْ كُفینا، فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبِيِّ صلّى االله علیه وآله وسلم فَأَرْسَلَ إلَیْھِمْ فَقالَ: ما حَمَلَكُمْ عَلى ما صَنَعْتُمْ؟
٦٦٨ فَقالُوا: يا رَسولَ االلهِ تَكَفَّلَ االلهُ بِأرْزاقِنا فَأقْبَلْنا عَلَى الْعِبَادَةِ، فَقالَ: مَنْ فَعَل ذلِكَ لَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ، عَلَیْكُمْ بِالطَّلَبِ»
.
ووجه عدم المنافاة بین الأخبار ھو أن طلب الرزق، من الإنسان وأما بعده من الأرزاق والأمور الأخرى التي تحف
بالرزق ففي يد قدرة الحق المتعالي ولا يكفي طلبنا لوحده مستقلاً في جلب الرزق، فإن طلب الرزق من وظیفة
العباد، وأما تنظیم الأمور وترتیب الأسباب الظاھرية وغیر الظاھرية التي تخرج عن اختیار العباد غالباً فیكون بتقدير
من الباري تعالى. فالإنسان الذي يتمتع بیقین صحیح، والذي يكون واقفاً على مجاري الأمور، يجب علیه في
اللحظة التي لا يفتر فیھا عن طلب الرزق، بل ينھض بوظائفه العقلیة والشرعیة في الاكتساب، ولا يوصد أبواب
الطلب على نفسه، يعرف إن كل شيء من الذات المقدس الحق المتعالي، وأنّه لا يؤثر موجود آخر في الوجود ولا
في كمالات الوجود، إن الطالب والطلب والمطلوب، منه سبحانه. وأما ما ورد في ھذا الحديث الشريف «وَلا يَلُومَھُمْ
عَلى ما لَمْ يُؤْتَهِ االله» فمعناه إذا كان ھناك طلب بالقدر المتعارف فلا يلومھم على ما لم يؤته االله، وھذا لا يتنافى
مع رجحان توبیخ طائفة وملامتھم إذا تقاعسوا عن الطلب حتى يدفعھم نحو الرزق، كما ورد مثیله في الأخبار
المباركة. وملخّص الكلام أن ھذا الموضوع من فروع بحث الجبر والتفويض، فمن تضلّع في ذلك البحث، يستطیع أن
يقف ويطلع على المغزى والجوھر من ھذا الموضوع. وتفصیله أوسع من مسؤولیتنا ووظیفتنا ھنا.
فصل: في علامات حجة الیقین
جعل الإمام الصادق علیه السّلام في ھذا الحديث الشريف، علامتین على صحة الیقین وسلامته ھي:
أحدھما: لا يُرضي الناس بسخط االله. الآخر: لا يلوم الناس على ما لم يؤته االله. وھاتان العلامتان من نتائج كمال
الیقین. كما أن ما يقابلھما يكون من آثار ضعف الیقین وسقم الإيمان ومرضه. ونحن قد أتینا في ھذا الكتاب، لدى
المناسبات المختلفة، على شرح الإيمان، والیقین، وثمارھما، حسب القدر المستطاع. كما وأننا نأتي الآن أيضاً
بصورة مختصرة على ذكر ھاتین العلامتین على صحة الیقین وسلامته وما يقابلھما الدالان على سقم الیقین
وضعفه. لابد وأن نعلم بأن الراغب في تحصیل رضا الناس، والباذل جھده للھیمنة على قلوبھم وعقولھم، إنما يقوم
بھذه المحاولات لأجل أنه مقتنع بأن لھؤلاء دوراً إيجابیاً ومؤثراً في مطعمه ومطمحه، فالذين يحبون المال ويعبدون
الدينار يخضعون أمام أصحاب الثروات ويتذللون بین أيديھم ويتزلفون لھم. والذين يطلبون الرئاسة والاحترامات
الظاھرية، يتملقون أمام الرؤساء، ويتواضعون لھم تحسّباً منھم بأن ھذه الأسالیب تستملیھم وتبعث على كسب
قلوبھم، وھكذا تدور ھذه العجلة، فالمستضعفون يستذلون ويتملقون بین يدي أرباب الرئاسة، وطالبوا الزعامة
والوجاھة يخضعون ويتزلفون أمام الطبقة المستضعفة، ويخرج من ھذه الدائرة التي تدور بین الرؤساء والمرؤوسین،
خصوص الذين ھذّبوا نفوسھم من خلال ترويض النفس في كل من الجانبین وبذلوا ما في وسعھم لأجل تحصیل
رضا الحق سبحانه، ولم يتزلزلوا أمام الدنیا وزخارفھا بل كانوا يفتشون في فترة رئاستھم عن رضا الحق جلّ وعزّ،
ويبحثون عن الحق والحقیقة أيّام مرؤوسیتھم المستضعفة. وعلى أي حال فإن الناس ينقسمون في ھذه الدنیا
إلى ھاتین الطبقتین: إمّا يقودھم يقینھم إلى الاعتقاد بأن الأسباب الظاھرية، والمؤثرات الشكلیة مسخرة تحت
الإرادة الألیة الكاملة الوجوبیة، فلا يجدون دوراً لغیر الحق، ولا يلتمسون من غیره شیئاً. فھم آمنوا بأنه المالك
والمؤثر في الدنیا والآخرة، واعتنقوا بكل إيمان ويقین غیر مشوب بالنقص والترديد، آية من الآيات المباركة القرآنیة
وھي: {قُلْ اللَّھُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} (آل عمران/٢٦ .(حیث يرون بأن االله
سبحانه ھو مالك ملك الوجود، وأن جمیع العطايا من ذاته المقدس، وأن القبض والبسط في الوجود وكمالاته منه
سبحانه حسب ترتیب النظام والمصالح الكامنة. ومن البديھي أن أبواب المعارف تنفتح على ھؤلاء الأشخاص،
(وسائل الشیعة، المجلد ١٢ ،الباب ٥ ،من أبواب مقدمات التجارة، ح٧ .(٦٦٨
٢٤٠
وتتحوّل قلوبھم إلى قلوب إلھیة، لا يعبأون برضا الناس ولا بسخطھم، ولا يرمون إلاّ رضا الحق المتعالي، ولا
يطمعون إلاّ فیه ولا يطلبون إلاّ منه، ولا تترنم قلوبھم إلاّ بھذا الكلام: إلھي إنْ أعْطَیْتَني فَمَن ذا الَّذِي يَمْنَعُني؟ وَإنْ
مَنَعْتَنِي فَمَن ذَا الَّذِي يُعْطِینِي. إنھم يغمضون أعینھم عن الناس وعطاياھم ودنیاھم، ويحدّقَون في الحق جل
جلاله بكل حاجة وفقر، وھؤلاء الأشخاص لا يبیعون رضا العالم بأسره، بسخط الحق المتعالي. كما قال أمیر
المؤمنین علیه السّلام. وفي نفس الوقت الذي لا يعبأون بأحد غیر الحق المتعالي، ويرون أن الكائنات بأسرھا
فقیرة إلى االله، ينظرون إلى كل شيء بعین ملؤھا العظمة والرحمة والحنان، ولا يلومون أحداً على شيء إلاّ من
أجل إصلاح وضعه وتربیته. كما أن الأنبیاء علیھم السّلام كانوا كذلك، لأنھم يعتبرون الناس من المرتبطین بالحق
ومن مظاھر جماله وجلاله، ولا يسمحون لأنفسھم إلاّ بالنظر إلى عباد االله بكل لطف ومحبة. ولا يؤنبون في
قلوبھم أحداً على نقصه أو فتوره، وإذا لاموا أحداً بألسنتھم فلأجل المحافظة على المصالح العامة وإصلاح أحوال
العائلة البشرية. وھذا من نتائج وثمرات الشجرة الطیبة للیقین والإيمان، والمعرفة بالحدود والشريعة الإلھیة. وأما
الطائفة الثانیة فھم لا يعرفون عن الحق شیئاً، وإذا علموا شیئاً لكانت معرفتھم ناقصة وإيمانھم غیر تام، وحیث أن
انتباھھم إلى الكثرات والأسباب الظاھرية قد أغفلھم عن مسبّب الأسباب، فظلّوا يسعون لكسب رضا المخلوق،
وقد ينتھي بھم الأمر إلى شراء رضا المخلوق الضعیف جداً، بسخط وغضب االله سبحانه: بأن يعلنوا موافقتھم
لمعصیة العصاة، أو يتركوا الأمر بالمعروف والنھي عن المنكر في الوقت المناسب للأمر بالمعروف أو النھي عن
المنكر، أو يفتوا بالباطل، أو يدعموا من لیس بأھل للتأيید أو يكذّبوا مَنْ لیس من شأنه الدجل والكذب. أو يغتابوا
المؤمنین ويَفْتروا علیھم لأجل كسب مودّة أھل الدنیا، ورعاية أصحاب المناصب الظاھرية. بل كل ذلك ينشأ من
ضعف الإيمان، بل إنه مرتبة من مراتب الشرك. وتُفضى مثل ھذه المواقف بالإنسان إلى المھالك الكثیرة التي منھا
ما ورد في ھذا الحديث الشريف من إساءة نظر مثل ھذا الإنسان إلى عباد االله ومعاداتھم وتأنیبھم وملامتھم
على أعمالھم إلى غیر ذلك.
فصل: في نقل كلام المعتزلة والأشاعرة وإشارة إلى مذھب الحق سبحانه
إعلم: لقد عقد المحدث المجلسي رحمه االله في كتابه (مرآة العقول) عند ھذا الحديث فصلاً للبحث عن أن
الرزق المقسوم، من قبل الحق المتعالي ھل يعم الحلال والحرام أو أنه يختص بالحلال؟ ونقل رضوان االله تعالى
علیه عن كتاب (تفسیر الفخر الرازي) اختلاف الأشاعرة والمعتزلة في ذلك، مع نقله للأحاديث والأخبار التي
تمسك بھا كل واحد من الطرفین على وجھة نظره، وجعل موقف الإمامیة متطابقاً مع المعتزلة في عدم الكون
الرزق المقسوم من الحرام بل يختص بالحلال. ونقل أدلة المعتزلة على موقفھم ذلك من ظواھر الآيات والأخبار،
وظاھر كلمة الرزق حیث تكون ھذه الأمور مصدر الاحتجاج للطرفین. واختار رحمه االله موقف المعتزلة، لأنه موافق
مع المذھب المشھور للإمامیة، وارتضى براھینھم على ذلك، ولكن لابد من معرفة أن ھذه المسألة من فروع
بحث الجبر والتفويض الذي لا يتوافق مذھب الإمامیة فیه مع كل واحد من المعتزلة والأشاعرة، بل أن كلام
المعتزلة أوھى وأوھن من كلام الأشاعرة. وإذا نزع بعض المتكلمین من الإمامیة رضوان االله تعالى علیھم نحو رأي
المعتزلة، فإنه نتیجة الغفلة عن حقیقة الحال والمآل. وقد قلنا قبل قلیل بأن مسألة الجبر والتفويض المطروح على
بساط أبحاث معظم العلماء لا يزال غامضاً لدى الفريقین ولم يتطرّق إلیه حسب مقايیس علمیة صحیحة. ولھذا لا
يجد العلماء غالباً ارتباطاً بین ھذه المسألة وبحث الجبر والتفويض، مع أنه من النقاط الدقیقة جداً. ومجمل القول
أنه إذا ارتأى الأشاعرة بأن الحلال والحرام من الرزق المقسوم انطلاقاً من التزامھم بالجبر، أو المعتزلة بأن الحرام
لیس من الرزق المقسوم لإيمانھم بالتفويض، لكان كلا المذھبین باطلاً، وقد ثبت فساده في محلّه. ونحن على
ضوء المبادئ الثابتة لدينا بالدلیل والبرھان نؤمن بأن الحلال والحرام من الرزق المقسوم من قبل الحق المتعالي،
كما نرى الآثام بتقدير من االله وقضائه من دون أن يستلزم ذلك الجبر والفساد. وقد آلینا (وحیث أن االله سبحانه ھو
الذي يدبر الأمور، قمنا بدراسة مختصرة لھذه المسألة في شرح حديث التاسع والثلاثین عرفت االله بفسخ الغرائم
ونقض الھمم (منه عفى عنه). ) على أنفسنا أن لا نغور في الأبحاث العلمیة التي لا نعرف شیئاً عن مغزاھا
٢٤١
الحقیقي. مضافاً على أن ھذا الكتاب لا يكون في مستوى عرض الأدلة والبراھین على المواقف المختارة. ولھذا
نقتنع بھذه الإشارة. واالله الھادي. كما أن المرحوم المحدث المجلسي أورد أيضاً في نھاية شرحه لھذا الحديث في
كتابه مرآة العقول بحثاً آخر ھو أنه يجب على االله أن يرزق عباده بصورة مطلقة، أو عندما يسعى العبد في سبیل
تحصیله وكسبه؟ إن ھذا بحث يتناسب مع المبادئ التي يؤمن بھا علماء الكلام، ولابد من اتخاذ طريقة أخرى في
كافة ھذه الأبحاث عندما تعالج على أساس البراھین والمقايیس الفلسفیة. والأولى ترك الكلام في أمثال ھذه
الأبحاث التي لا تجدي نفعاً تاماً. وقد أسفلنا الإشارة إلى أن تقسیم الأرزاق على ضوء القضاء الإلھي، لا تتنافى
مع السعي والجھد في طلب الرزق.
فصل: الراحة في الیقین والقلق في الشك
في بیان أن الحق المتعالي قد جعل الرَوْحَ والراحة في الیقین والرضا، والھمّ والحزن في الشك والسخط، وذلك
على أساس القسط والعدل. ولا بد أن نعرف أن الرَوْحَ والراحة في ھذا الحديث الشريف، وكذلك الھمّ والحزن تعود
إلى الأمور الدنیوية وكسب العیش، وطلب الرزق، نتیجة وقوعھا إثر تقدير الأرزاق وتقسیمھا. وإن كان إراجعھما
إلى الأمور الأخروية على أساس بیان آخر، أيضاً صحیحاً. ونحن نكون فعلاً بصدد بیان ھذا الحديث الشريف. وعلیه
إعلم أن الإنسان الذي يعتقد بالحق وتقديره اعتقاداً يقینیاً، ويعتمد على الركن الركین الذي يتمتع بالقدرة
المطلقة، والذي يقرر الأمور بأسرھا على ضوء المصالح الغیبیة، والذي له الرحمة الكاملة المطلقة والجود المطلق،
من المعلوم أن مثل ھذا الیقین. تتذلل الصعاب عنده وتھون أمامه المصائب، ويختلف كثیراً في طلبه للمعیشته
عن أھل الدنیا وأھل الشك والشرك. إن الذين يعتمدون على الأسباب الظاھرية، يعیشون دائماً عند طلب الرزق
في حالة من القلق والاضطراب، ولو اصطدموا بمشكلة، لعظمت عندھم وضاقت الحیاة في أعینھم لأنھم لا
يجدونھا محفوفة بالمصالح الغیبیة التي يعلمھا االله ويجھلھا الإنسان. وخلاصة الكلام إن من يرى سعادته، في
تحصیل ھذه الدنیا، يواجه في طلبه ھذا الآلام والعَناء، وتُسلب عنه الراحة والبھجة، وتستنزف قواه وطاقاته في
ھذا الطلب. كما نرى أن أھل الدنیا دائماً في تعب ونصب، وأنھم لم يتمتعوا باطمئنان في الروح واستقرار في
الجسم، وإذا حلّت بھم مصیبة، خارت قواھم وحیويتھم وزال جلدھم وصبرھم أمام الحوادث التي تداھمھم. وھذا
لا يكون إلاّ نتیجة شكھم وعدم إيمانھم بالقضاء الإلھي وعدله، فتكون ھذه الأمور من الحزن والھم والتعب. نتیجة
لھذا التزلزل. وقد سبق منا شرح مسھب في ھذا الموضوع، ولھذا لا ينبغي تكراره. وأما بیان ترتب الروح والراحة
على الیقین والرضا، وترتب الھمّ والحزن على الشك والسخط، من الجعل الإلھي، وإن ھذا الجعل يكون عادلاً، فھو
متوقف على بیان تطرق فاعلّیة الحق المتعالي في جمیع مراتب الوجود من دون أن يستلزم جبراً باطلاً
ومستحیلاً، وعلى بیان البرھان اللمي ـ الاستدلال من المعلول على العلة ـ من أن نظام الوجود أتم وأكمل نظام
متصور. وھذان الأمران خارجان عن وظیفة ودور ھذا الكتاب وَالحمد الله أوّلاً وآخراً.
الحَديث الثَالِث وَالثَلاثون: ولاية أھل البیت علیھم السلام
بالسَّند المتَّصل إلى الشّیخ الأقدم محمّد بن يعقوب الكلینيّ ـ رضوان االله علیه ـ عن أحمد بن محمّد، عن
الحسین بن سعید، عمَّن ذكره، عن عبید بن زرارةَ، عن محمَّد بن مارد قال: قُلْتُ لِأبي عَبْدِ االلهِ علیه السّلام:
«حَديثٌ رُويَ لَنا أنَّكَ قُلْتَ: إذا عَرَفْتَ فَاعْمَلْ ما شِئْتَ، فَقالَ: قَدْ قُلْتُ ذلِكَ، قالَ: قُلْتُ: وَإنْ زَنَوْا وَإنْ سَرَقُوا وَإنْ
شَرِبُوا الْخَمْرَ؟ فَقَالَ لي: إنّا لِلّهِ وَإنّا إلَیْهِ راجِعُونَ، وَااللهِ ما أنْصَفُونا أنْ نَكُونَ أُخِذْنا بِالْعَمَلِ وَوُضِعَ عَنْھُمْ! إنَّما قُلْتُ: إذا
٦٦٩ عَرَفْتَ فَاعْمَلْ ما شِئْتَ مِنْ قَلیلِ الْخَیْرِ وَكَثِیرِهِ فَإنَّهُ يُقْبَلُ مِنْكَ»
.