ويؤيد ھذا الاحتمال أولاً: أنه المشھور بین الفقھاء ـ رضوان االله علیھم ـ وثانیاً أه الأظھر من الروايات حیث
تحظى بخصائص زائدة على الصلوات الأخرى. وثالثاً أنھا الصلاة الأولى التي أنزلھا الحق سبحانه بواسطة جبرائیل
على آدم أبي البشر على نبینا وله وعلیه الصلاة والسلام.
والظاھر أن اھتمام رسول االله صلّى االله علیه وآله وسلم بھا حیث يوصي قائلاً: (علیك بصلاة الزوال) لأجل
المحافظة على شروطھا وحدودھا ونوافلھا وأوقاتھا، ولیس لأجل التأكید على صلاة الظھر. ويستفاد ذلك من الأمر
بالمحافظة على الصلوات وخاصة صلاة الظھر أيضاً. وقد وردت أحاديث كثیرة مأثورة عن أھل بیت العصمة علیھم
السّلام، تأمرا بالمحفاظة على أوقات الصلوات، والإتیان بھا في وقت فضیلتھا، بل قد يسبب تأخیر الصلاة عن وقت
الفضیلة من دون مبرر، التھاون في الصلاة. وخاصة إذا استمر على مثل ھذا التھاون، وتكرّر على مدى الأيام
اللاحقة.
٥٧٦
وسیائل الشیعة، ج٦ الباب ٤٢ من أبوب الصدقة، ٣٢٣ الحديث ٤.
الحديث ١٢ ،ص٢٣١ ،فصل " في فضیلة صلاة اللیل ". ٥٧٧
٥٧٨
وسائل الشیعة، ج٥ الباب ٣٩ من أبواب بقیة الصلاة المندوبة، ص٢٦٨ الأحاديث ٢ ،٣.
٥٧٩ وسائل الش
یعة، ج٥ الباب ٣٩ من أبوب بقیة الصلاة المندوبة، ص٢٦٨ الأحاديث ٢ ،٣.
٥٨٠
وسائل الشیعة، ج٥ الباب ٣٩ من أبواب بقیة الصلاة المندوبة، ص٢٧٦ الأحاديث ٣٤ ،٣٥.
٥٨١
وسائل الشیعة، ج٥ الباب ٣٩ من أبواب بقیة الصلاة المندوبة، ص٢٧٦ الأحاديث ٣٤ ،٣٥.
٥٨٢
سورة البقرة، آية: ٢٣٨.
٢١٤
ومن الواضح جداص أن من يعتني بشيء، أنجزه في أسرع وقت وفي أفضل صورة. وعلى العكس ما إذا لم
يحفل به ورآه أمراً ھیّناً، لتھاون فیه وتماھل، ونعوذ باالله من أن ينتھي أمر الإنسان إلى الاستخفاف بالصلاة،
والتھاون بھا.
عن أبي جعفر علیه السّلام قال بَیْنَا رَسُولُ االلهِ صَلَّى االلهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وَسَلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِد إذْ دَخَلَ رَجُلٌ
فَقَامَ يُصَلِّي فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَلاَ سُجُودَهُ فَقَالَ عَلَیْهِ السَّلاَم نَقُرٌ كَنَقْرِ الغُرَابِ لَئِنْ مَاتَ ھذَا وَھكَذَا صَلاَتُهُ لَیَمُوتُنَّ
بل قد يفضي الأمر بالإنسان من جراء الاستخفاف بالصلاة، إلى تركھا. ومن الطبیعي أن ٥٨٣ عَلَى غَیْرِ دِينِي
الإنسان إذ لم يبد اھتماماً بشيء، لسقط من عینه ولانتھي إلى النسیان.
إننا قلّما يعترينا النسیان تجاه أمر دنیوي سیّما في الأمور المھمّة منھا، وذلك لاستعظام النفس لھا، وتعلّقھا
بھا، وتذكّرھا الدائم، ومن الطبیعي أن لا يُنسى مثل ھذا الأمر. فإذا قال لك شخص صادق في وعوده، إنني لدى
الظھر من يوم كذا، أدفع لك مبلغاً يعدّ كبیراً ومھمّاً عندك، فإنك لا تنسى ذلك الیوم والموعد بل تحصي الساعات
والدقائق حتى يقترب الوقت لكي تستقبل الموعد بكل توجه وحضور قلب، كل ذلك نتیجة أن حبّ النفس لذلك
الشيء وإكبارھا له، قد شغلك به، فلا تتھاون فیه أبداً. وھكذا يتم الاھتمام من جانب الإنسان في كل الأمور
الدنیوية حسب وضعه وشؤونه، وأما إذا كان الشيء تافھاً لدى الإنسان، لتوجھت النفس لحظة واحدة ثم غفلت
عنه.
إذن: ھل تعرف المسّوغ لفتورنا ھذا في الأمور الدينیة؟ إنه لأجل عدم إيماننا بالغیب وأن مرتكزات عقائدنا
واھیة، وإيماننا بالوعود الإلھیة والأنبیاء مھتزاً ومتزلزلاً، وتكون النتیجة أن جمیع الأمور الدينیة والشرائع الإلھیة عندنا
تافھة وموھونة، ويفضي ھذا الوھن شیئاً فشیئاً إلى الغفلة فإما أن ھذه الغفلة تھیمن علینا، وتخرجنا كلیاً من
ھذا الدين الشكلي الصور ي الذي نعتنقه، أو تبعث على الغفلة لدى أھوال نزع الروح وشدائد اللحظات الأخیرة من
حیاة الإنسان.
إن من الأمور المھمة التي تتوّفر في ھذه الصلوات الخمسة التي تعتبر عمود الدين، والقاعدة الصلبة للإيمان
والتي لا يرقى إلى مستواھا شيء في الأھمیة بعد الإيمان، وبعد التوجھات النورية الباطنیة، والصور الغیبیة
الملكوتیة، حیث لا يعلم أحد عظمتھا إلا الحق سبحانه والخواص في حالات من الأدب الخاص الروحاني الإلھي،
الذي يدفع بالإنسان إلى توثیق الأواصر بینه من جھة والحق المتعالي والعوالم الغیبیة من جھة أخرى. ويبعث
على ملكه الخضوع الله سبحانه في الفؤاد، ويقوي الشجرة الطیبة التي ھي التوحید والتفريد، ويجذّرھا في
النفس على نحو لا يمكن اقتلاعھا. كما أنه يفلح في الاختبار العظیم الذي يحصل له من قبل الحق المتعالي لدى
سكرات الموت وأھوال المطّلع ومشاھدة شيء من عالم الغیب، ويوجب استقرار دينه وثباته، من دون أن يكون
مستودعاً وقابلاً للزوال حتى يصاب بالنسیان، لدى أقل ضغط.
فیا أيھا العزيز: إيّاك ثُمَّ إيّاك وَاللَّهُ مُعینُكَ فِي أولیكَ وَأُخْرَاكَ إن تتھاون في أمورك الدينیة وخاصة الصلوات
الخمسة، وتبدي الفتور والإھمال تجاھھا. ويعلم االله بأن الأنبیاء والأولیاء وأئمة الھدى علیھم السّلام قد دفعوا
بالناس نحو الصلوات وحذّروھم من التخلّف عنھا، نتیجة العطف والحنان منھم على العباد، إذ أنھم لا ينتفعون من
إيماننا ولا تجديھم أعمالنا شیئاً.
فصل: في فضل تلاوة القرآن
إن من وصايا الرسول الأكرم صلّى االله علیه وآله وسلم الأمر بتلاوة القرآن (وَعَلَیْكَ بِتَلاَوَةِ القُرْآنِ عَلَى كُلِّ حَال)
وإن عقلنا القاصر لا يستوعب فضیلة تلاوة القرآن وحملة وَتَعَلُّمِهِ والتمسّك به وملازمتَه والتدبَّر في معانیه وأسراره.
وما نقل عن أھل بیت العصمة علیھم السّلام في ذلك أكثر من طاقة ھذا الكتاب على استیعابه. ونحن نقتصر
على ذكر بعضھا:
٥٨٣
وسائل الشیعة، المجلد ٣ ،الباب ٨ من أبواب أعداد الفرائض وأوقاتھا، ح٢ ص ٢١.
٢١٥
الكافي: بإسناده عن أبي عبداالله علیه السّلام قالَ: «القُرْآنُ عَھْدُ اللَّهِ إِلَى خَلْقِهِ فَقَدْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ المُسْلِمِ أَنْ
٥٨٤ يَنْظُرَ فِي عَھْدِهِ وَأَنْ يَقْرَأَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسِینَ آيَةً»
.
وبإسناده عن الزُّھريِّ قالَ: سَمِعْتُ عَلَيَّ بنَ الحسینِ علیھما السّلام يَقولُ: آياتُ القُرْآنِ خَزَائِنُ فَكُلَّمَا فُتِحَتْ
٥٨٥ خَزِينَةٌ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْظُرَ فِیھَا)
.
والمستفاد من ھذين الحديثین أنه حريّ بقرّاء القرآن التدبّر في آياته والتفكّر في معانیه، وأن التمعّن والتأمل
في الآيات الكريمة الإلھیة، واستیعاب المعارف والحِكَم والتوحید من القرآن العظیم، لا يكون من التفسیر بالرأي
المنھي عنه الذي يلتجأ إلیه أصحاب الرأي والأھواء الفاسدة، الذين لا يتمسكون برأي أھل بیت الوحي،
المخاطبین بالكلام الإلھي، كما ثبت ذلك في محلّه، ولا داعي للولوج في ھذا الموضوع والإسھاب فیه. ويكفینا
٥٨٦ قوله تعالى: (أفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلوبٍ أَقْفَالھا)
.
ووردت أحاديث كثیرة تأمرنا بالرجوع إلى القرآن والتعمّق في آياته. فقد نقل عن الإمام أمیر المؤمنین علیه
٥٨٧ السّلام أنه قال: (أَلاَ لاَ خَیْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَیْسَ فِیھَا تَدَبُّرٌ)
.
وبإسناده عن أبي جعفر علیه السّلام قال: قالَ رسول االله صلّى االله علیه وآله وسلم: «مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آياتٍ فِي
لَیْلَةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِینَ، وَمَنْ قَرَأَ خَمْسِینَ آيَةً كُتِبَ مِنَ الذّاكِرِينَ، وَمَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِینَ، وَمَنْ قَرَأَ
مِائتي آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الخَاشِعِینَ، وَمَنْ قَرَأَ ثَلاَثْمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الفَائِزِينَ، وَمَنْ قَرَأَ خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ
المُجْتَھِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ كُتِبَ لَهُ قِنْطَارٌ مِنْ بِرِّ، القِنْطَارُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ مِثْقَالٍ مِنْ َذَھٍب، وَالمِثْقَالُ أَرْبَعَةٌ
٥٨٨ وَعِشْرُونَ قِیراطاً أصْغَرُھَا مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ وَأَكْبَرُھَا مَا بَیْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»
.
وجاء في الأحاديث الكثیرة أن قراءة القرآن تتمثّل في صورة بھیّة جمیلة تشفع لأھله وقرّائه. وقد أعرضھا عن
ذكرھا.
وفي الحديث عن أبي عبد االله علیه السّلام قالَ مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وَھُوَ شَابٌّ مُؤْمِنٌ اخْتَلَطَ القُرْآنُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ
وَجَعَلَهُ االلهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ السَّفَرَةَ الكِرَامِ البَرَرَةِ وَكَانَ القُرْآنُ حَجِیزاً عَنْهُ يَوْمَ القِیَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ كُلَّ عَامِل قَدْ أَصَابَ
أَجْرُ عَمَلِهِ غَیْرَ عَامِلِي فَبَلَّغ بِهِ أَكرَمَ عَطَايَاكَ قَالَ فَیَكْسُوهُ االلهُ العَزِيزُ الجَبَّاُر حُلَّتَیْنِ مِنْ حُلَّلِ الجَنَّةِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ
تَاجُ الكَرَامَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ ھَلْ أَرْضَیْنَاكَ فِیهِ؟ فَیَقُولُ القُرْآنُ يَا رَبِّ قَدْ كُنْتُ أَرْغَبُ لَهُ فِیمَا ھُوَ أَفْضَلُ مِنْ ھذَا فَیُعْطِي
الأَمْنَ بِیَمِینِهِ وَالخُلْدَ بِیَسَارِهِ ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّة فَیُقَالُ لَهُ إِقْرَأْ وَاصْعَدْ دَرَجَةً ثُمَّ يُقَالُ لَهُ ھَلْ بَلَغَنَا بِهِ وَأَرْضَیْنَاكَ فَیَقُولُ
. وفي نفس الحديث عن الإمام الصادق علیه السّلام (وَمَنْ قَرَأَهُ كَثِیراً وَتَعَاھَدَهُ بِمَشَقَّةً مِنْ شِدَّةِ حِفْظِه ٥٨٩ نَعَمْ
٥٩٠ أَعْطَاهُ االلهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجْرَ ھذَا مَرَّتَیْنِ)
.
وتبین من ھذا الحديث الشريف أن المطلوب من تلاوة القرآن الكريم ھو تأثیره في أعماق قلب الإنسان،
وصیرورة باطنه صورة كلام االله المجید، وتحويل ما ھو ملكة القلب من القرآن الكريم إلى التحقق والفعلیة وذلك
حسب ما ورد في الحديث المذكور (مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وَھُوَ شَابٌ مُؤْمِنٌ اخْتَلَطَ القُرْآنُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ) حیث يكون كناية
عن استقرار صورة القرآن في فؤاده، بدرجة يتحول باطن الإنسان حسب استعداده وأھلیته، إلى كلام االله المجید
والقرآن الكريم.
وفي حَمَلَةِ القرآن من تحوّل تمام باطنه إلى حقیقة الكلام الجامع الإلھي، والقرآن الجامع والفرقان القاطع،
وذلك مثل الإمام علي بن أبي طالب والمعصومین من أولاده الطاھرين علیھم السّلام، حیث يكون وجودھم آيات
طیبات وآيات االله العظمى، والقرآن التامّ والتمام. بل إن ھذا ھو المطلوب من جمیع العبادات كما أنه من الأسرار
٥٨٤
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب فضل القرآن، باب في قراءته ح١ ،٢.
٥٨٥
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب فضل القرآن، باب في قراءته ح١ ،٢.
٥٨٦
سورة محمد صلى االله علیه وآله وسلم، آية: ٢٤.
٥٨٧
بحار الأنوار ـ المجلد ٩٢ ص ٢١١.
٥٨٨
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب فضل القرآن، باب ثواب قراءة القرآن، ح ٥.
٥٨٩
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، ح٤ ص٦٠٣.
٥٩٠
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، ح٤ ص٦٠٣.
٢١٦
الھامة للعبادات، وأن تكرار الصلاة من أجل تحقیق ھذه الحقائق العبادية، وتحويل ذات الإنسان وقلبه إلى صورة
العبادة.
٥٩١ وفي الحديث (أَنَّ عَلِّیاً عَلَیْهِ السَّلاَمِ صَلاَةُ المُؤْمِنِیَن وَصِیَامُھم)
.
في بیان أن العبادة تؤثر في الشباب
ويتم بالقرآن الكريم التأثر القلبي والتحوّل الباطني بصورة أفضل فترة الشباب، لأن قلب الفتى لطیف وبسیط
وذو نقاء وصفاء أكثر. وأن وارداته قلیلة، وتضارب الأفكار وتھافتھا فیه قلیل. فیكون شديد الانفعال والتأثر وسريع
التقبّل.
إذن يجب على الشباب حتى إذا كانت قلوبھم مطمئنة بالإيمان، أن ينتبھوا إلى كیفیة تفاعلھم وعِشرتھم مع
الآخرين، ويتورّعوا عن الاختلاط مع السیئین. بل أن الصداقة والاختلاط مع العصاة وذوي الخلق الفاسد والسلوك
المنحرف مسيء لجمیع الناس من أي طبقة كانوا، ويجب أن لا يكون أحد مطمئناً بنفسه ومغروراً بإيمانه أو أخلاقه
وأعماله. كما ورد في الأحاديث الشريفة الأمر بالابتعاد عن معاشرة أھل المعصیة.
في آداب تلاوة القرآن
وملخص القول أن المبتغى من خلال تلاوة القرآن ھو ارتسام صورة القرآن في القلب، وتأثیر الأوامر والنواھي
فیه، وتثبیت الأحكام والتعالیم الإلھیة. ولا يتحقق ھذا إلا في ظل مراعاة آداب القراءة. ولیس الھدف من الآداب ما
ھو المعروف لدى بعض القُرّاء من الاھتمام البالغ بمخارج الألفاظ، وأداء الحروف، ھذا الاھتمام الباعث مضافاً إلى
الغفلة عن المعاني والتدبر فیھا، إبطال التجويد بعض الأحیان، فإن كثیراً من الكلمات القرآنیة نتیجة مثل ھذا
التجويد، تفقد صورتھا الخلاّبة الأصیلة، وتتحول إلى صورة أخرى، ذات صورة ومادة تختلف عما أرادھا االله تعالى. إن
ھذا يُعتبر من مكائد الشیطان حیث يلتھي الإنسان المؤمن إلى آخر عمره بألفاظ القرآن، وينسى نھائیاً استیعاب
سرِّ نزول القرآن، وحقیقة الأوامر والنواھي، والدعوة إلى المعارف الحقة، والخلق الفاضل الحسن، بل ينكشف لديه
بعد مضي خمسین عاماً أنه من جرّاء تغلیظ بعض الحروف، والتشديد فیھا، قد أخرج صورة بعض الكلمات كلیاً عن
حالتھا الطبیعیة وأصبحت ذات صورة غريبة.
بل الھدف المنشود من وراء آداب قراءة القرآن، تلك الآداب التي وردت في الشريعة المقدسة والتي يعدّ من
أفضلھا وأعظمھا التفكر والتدبر في آيات القرآن كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
في الكافي الشريف بسنده إلى الإمام الصادق علیه السّلام قال: «إنَّ ھذاَ القُرْآنَ فِیهِ مَنَارُ الھُدى وَمَصَابِیحُ
الدُّجى، فَلْیَجُلْ جَالٍ بَصَرَهُ وَيَفْتَحْ لِلضِّیَاءِ نَظَرَهُ، فَإِنَّ التَّفَكُّر حَیاةُ قَلْبِ البَصِیرِ كَمَا يَمْشى المُسْتَنِیرُ فِي الظُّلُمَاتِ
٥٩٢ بِالنُّورِ»
.
وفي المجالس بإسناده عن أمیر المؤمنین علیه السّلام في كلامٍ طويلٍ في وَصْفِ المتَّقِینَ: وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِیھَا
تَخْويفٌ أَصْغَوْا إِلَیْھَا مَسَامِعَ قُلُوبِھِمْ وَأَبْصَارِھِمْ فَاقَشَعَرَّتْ مِنْھَا جُلُودُھُمْ وَوَجِلَتْ قُلُوبُھُمْ فَظَنُّوا أَنَّ صَھِیلَ جَھَنَّمَ
وَزَفِیرَھَا وَشَھِیقَھَا فِي أصولِ آذَانِھِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِیھَا تَشْويقٌ رَكَنُوا إِلَیْھَا طَمَعاً وَتَطَلَّعَتْ أَنْفُسُھُمْ إِلَیْھَا شَوْقاً
. ومن الواضح أن من يتمعّن ويتدبر في معاني القرآن الكريم، يتأثر قلبه، ويبلغ مقام ٥٩٣ وَظَنُّوا أَنَّھَا نُصْبَ أَعْیُنِھِمْ
المتقین شیئاً فشیئاً. وإن حظي بتوفیق وسداد من االله، لَتجاوز ھذا المقام أيضاً ولَتحوّل كل عضو وجارحة وقوة
منه إلى آية من الآيات الإلھیة، ولعلّ جَذَوَاتَ خطاب االله وجذباته، ترفعه وتبلغ به إلى مستوى إدراك حقیقة اقْرَأْ
في ھذا العالم وانتھى إلى مرحلة سماع الكلام من المتكلم من دون واسطة، وتحوّل إلى موجود لا ٥٩٤ واصْعَدْ
يسع الإنسان فھمه واستیعابه.
الإخلاص في القراءة
يضاھي ھذا الحديث ما ورد في البحار، المجلد ٢٤ ،ح ١٤ ص ٣٠٣ ،عن داوود بن كثیر قال قُلْتُ أبي عَبْدِااللهِ عَلَیْهِ السَّلام، أَنْتُمُ الصَّلاَةُ ٥٩١
فِي كِتَابِ االلهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْتُمُ الزَّكَاةُ وَأَنْتُمُ الْحَجُّ؟ فَقَالَ يَا دَاوُوُدُ نَحْنُ الصَّلاَةَ فِي كِتَابِ االلهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَحْنُ الزّكَاةَ وَنَحْنُ الصِّیَامَ وَ....
٥٩٢
أصول الكافي، المجلد ٢ ،كتاب فضل القرآن، ح ٥.
٥٩٣
وسائل الشیعة، المجلد ٤ ،الباب ٣ من أبواب قراءة القرآن، ح٦.
٥٩٤
أصول الكافي المجلد الثاني كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، ح٤.
٢١٧
ومن الآداب اللازمة في قراءة القرآن، والتي لھا دور أساسي في التأثیر في القلب والتي لا يكون من دونھا
لأي عمل أھمیة وشأن، بل يعتبر ضائعاً وباطلاً وباعثاً على السخط الإلھي. وھو الإخلاص، فإنه ركن أصیل
للانطلاق إلى المقامات الأُخروية، ورأس مال في التجارة الأخروية.
وقد ورد في ھذا الباب أيضاً أخبار كثیرة من أھل بیت العصمة علیھم السّلام: منھا ما حدثنا الشیخ الكلیني
رضوان االله تعالى علیه:
بإسناده عن أبي جعفر علیه السّلام قالَ: «قُرّاءُ القُرْآنِ ثَلاَثَةٌ: رَجُلٌ قَرَأَ القرآنَ فَاتَّخَذَهُ بِضَاعَةً وَاسْتَدَرَّّ بِهِ المُلُوكَ
وَاسْتَطَال بِهِ عَلَى النَّاسِ. وَرَجُلٌ قَرَأَ القُرْآنُ فَحَفِظَ حُرُوفَهُ وَضَیَّعَ حُدُودَهُ وَأَقَامَهُ إِقَامَةُ القَدَحِ، فَلاَ كَثَّر اللَّهُ ھؤُلاَءِ مِنْ
حَمَلَةِ القُرْآنِ. وَرَجُلٌ قَرَأَ القُرْآنَ فَوَضَعَ دَوَاءَ القُرْآنِ عَلَى دَاءِ قَلْبِهِ فَأَسْھَرَ بِهِ لَیْلَهُ وَأَظْمَأَ بِهِ نَھَارَهُ وَقَامَ بِهِ فِي مَسَاجِدِهِ
وَتَجَافَى بِهِ عَنْ فِرَاشِهِ، فَبِأُوْلئِكَ يَدْفَعُ اللَّهُ العَزِيزُ الجَبّارُ البَلاَءَ، وَبِأُولئِكَ يُدِيلُ اللَّهُ مِنَ الأَعْدَاءِ، وَبِأُلئِكَ يُنْزِلُ اللَّهُ الغَیْثَ
٥٩٥ مِنَ السَّمَاءِ، فَوَاللَّهِ لَھؤُلاَءِ فِي قُرّاء القُرْآنِ أَعَزُّ مِنَ الكِبْرِيتِ الأَحْمَرِ»
.