فصل: في بيان بعض عوامل التكبر
اعلم إن من عوامل التكبر، فضلاً عمّا سبق ذكره من الأسباب، ھو صغر العقل، وضعف القابلية، والضعة، وقلة
الصبر. فالإنسان لضيق أُفقه ما أن يجد في نفسه خصلة مميّزه حتى يتصور لھا مقاماً ومركزاً خاصاً. ولكنه لو نظر
بعين العدل والإِنصاف إلى كل أمر يتقنه وكل خصلة يتميز بھا، لأدرك أن ما تصوره كمالاً يفتخر به ويتكبر بسببه، إمّا
أنه ليس كمالاً أصلاً، وإمّا أنه إذا كان كمالاً فإنه لا يكاد يساوي شيئاً إزاء كمالات الآخرين، وأنه كمن صفع وجھه
ليحسب الناس احمرار وجھه نتيجة النشاط والحيوية. كما قيل: «اِسْتَسْمَنَ ذا وَرَمٍ» 65 .فعلى سبيل المثال أن
العارف الذي ينظر من خلال عرفانه إلى الناس جميعاً بعين الازدراء متكبّرا، أو يقول عنھم أنھم قشريون
وسطحيون. ترى أنه لا يملك شيئاً من المعارف الإلھية، سوى حفنة من المفاھيم التي لا تعدو جميعا من أن تكون
حُجُباً تغطي الحقائق، أو مطبات في الطريق، ومجموعة من المصطلحات ذات البريق الخادع مما لا علاقة لھا
بالمعارف الإلھية، وبعيدة كل البعد عن معرفة االله وعن العلم بأسمائه وصفاته؟ إن المعرفة صفة القلب. وكاتب
ھذه السطور يعتقد أن جميع ھذه العلوم ھي علوم عملية، لا مجرد معرفة نظرية وحياكة مصطلحات. لقد رأينا
خلال ھذا العمر القصير والمعرفة القليلة ضمن من يسمون بالعرفاء والعلماء في سائر العلوم، أشخاصا ـ أقسم
بالعرفان والعلم ـ إنھم لم يتأثروا قلبيا بھذه الاصطلاحات، بل كان لھا تأثير معكوس عليھم.
أيھا العزيز! إن العرفان باالله، كما تعلم، يحيل القلب إلى محل تتجلى فيه أسماء االله وصفاته وينزل فيه
السلطان الحقيقي الذي يمحو آثار التلوث ويطرد التعيّن:
{... إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوھَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَھْلِھَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}66 .إنه يجعل القلب أحدياً
أحمدياً، فلماذا صار قلبك والھاً بجمالك، وزاد في تلونك، وضاعف في تعيناتك وإضافاتك وأبعدك عن الحق تعالى
وتجليات أسمائه، وجعل قلبك موطناً للشيطان فتنظر عباد االله، وأصحاب أبواب الحق، ومظاھر جمال المحبوب،
نظرة تحقير وازدراء؟ إنك تتكبر على االله، وتتفرعن في حضرة ذات االله وأسمائه وصفاته.
يا طالب المفاھيم، ويا مضيّع الحقائق! تمھل، أنظر إلى ما لديك من المعارف فما الأثر الذي تراه من الحق
وصفاته في نفسك؟ ولعل علم الموسيقى والإِيقاع أدق من علمك، واصطلاحات العلوم الأخرى كالفلك والميكانيك
وسائر العلوم الطبيعية والرياضية، تساوي اصطلاحات علمك ودقته تماماً، فكما أن تلك العلوم ليس لھا عرفان باالله،
فكذلك علمك الذي حجبته الاصطلاحات وسجف المفاھيم والاعتبارات، لا يرجى منه تغير في نفس ولا حال، 67
بل إن تلك العلوم لدى منطق العلوم الطبيعية والرياضية أفضل مما ھو لديك من العلم، لأن تلك العلوم تنتج شيئاً،
وليس لعلمك ناتج، أو أن ناتجة معكوس. فالمھندس ينال نتيجة ھندسته والصائغ نتيجة صنعته، أمّا أنت فقد قصرت
يدك عن النتائج الدنيوية، ولم تصل إلى نتائج عرفانك. فحجابك أثقل وأسمك، وما أن يدور الكلام عن الأحديّة حتى
يغشاك ظلام غير متناه، وما أن تسمع عن حضرة أسماء االله وصفاته حتى تتصور كثرة غير متناھية. إذاً لم تعثر
64
سورة النحل، آية: 28.
فوائد الأدب في تاج العروس (ج1 9 ص249 (في مادة (سمن). 65
66
النمل: 34.
إشارة الى الشطر الثاني من ھذا البيت: 67
" العلم الرسمي ھو الاشتغال بالقيل والقال فلم تحصل منه على كيفية ولا حال ". كشكول البھائي, ج1 ص209.
42
على الطريق إلى الحقائق والمعارف من ھذه الاصطلاحات، بل صارت مدعاة للتفاخر والتكبر على العلماء
الحقيقيين. إن المعارف التي تزيد من كدر القلب ليست بمعارف، والويل لمعارف تجعل عاقبة صاحبھا وارثاً
للشيطان!
إن الكبر من أخلاق الشيطان الخاصة. فقد تكبّر على أبيك آدم، فطرد من حضرة االله، وأنت أيضاً مطرود لأنك
تتكبر على كل الآدميين من أبناء آدم. ومن ھنا أيضاً يجب أن تفھم حال سائر العلوم الأخرى. إن الحكيم إذا كان
حكيما وعرف نسبته إلى الخلق وإلى الحق، خرج الكبرياء من قلبه واستقام أمره. ولكن ھذا المسكين الذي
يركض وراء المصطلحات والمفاھيم يظن أنھا ھي الحكمة، وأنھا ھي التي تصنع العالم والحكيم، فمرة يرى نفسه
متصفة بالصفات الواجبة، فيقول: «الحكمةُ ھِيَ التَشَبُّهُ بِالإِله ِ68 «ومرة يحسب نفسه في زمرة الأنبياء
والمرسلين، فيقرأ: {وَيُعَلِّمُھُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}69 ،وأحيانا يقرأ: «الحِكْمَةُ ضالَةُ المُؤْمِنِ» 70} .وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}71 ،ولكن ما أجھله بالحكمة وما أبعده عنھا وعن خيراتھا؟!
يقول الحكيم المتألّه وفيلسوف الإسلام الكبير، المحقق الداماد72 ،رضوان االله عليه: «الحكيم من كان جسده
كالرداء له، متى ما شاء خلعه». فانظر إلى ما يقوله ھو وما نقوله نحن! وما أدركه ھو من الحكمة وما أدركنا نحن
منھا! إذاً، فأنت الذي تتباھى ببضعة اصطلاحات ومفاھيم وتتكبر على الناس، إنما ذلك دليل ضيق نفسك وقلة
صبرك وعدم أھليتك!.
إن من يرى نفسه مرشد الخلائق وھاديھم، ويجلس على كرسي التصوف والتوجيه، يكون أسوأ حالا من
المسعف والمتصوف، وأكثر دلالاً منھما. إنه سرق المصطلحات منھما وأسبغ بعض المظاھر على بضاعته في
السوق، وصرف قلوب الناس عن االله ووجّھھا نحو نفسه ودفع بذلك الإنسان الطيّب النقي السريرة، على إساءة
الظن بالعلماء وعامة الناس. ولكن يعطي أسواقھم شيئاً من الرواج، يطعمون الناس، عن وعي أو بدون وعي،
بعضا من مصطلحاتھم الجذّابة، ظانّين أن ألفاظاً مثل «مجذوب علي» أو «محبوب علي» سوف تمنحھم حقا حالاً
من الانجذاب والحب!.
نتيجة ھذه الأسماء التي يستعملھا الدراوشة والمدعون للعرفان. أنت يا طالب الدنيا وسارق المفاھيم، إن
عملك ھذا كما تظنه لا يدعو إلى الفخر والتكبر! إن المسكين لقلة صبره وصغر عقله ينخدع حتى بنفسه، فيرى
لنفسه مقاما، وقد امتزج فيه حب النفس وحب الدنيا مع المفاھيم المسروقة والإضافات والاعتبارات، فأصبح
مولوداً مشوھاً، إذ نشأ عن تجمعھا مزيج عجيب وخليط غريب. وعلى الرغم من كل ھذه العيوب يحسب نفسه
مرشد الخلائق وھادي الأمة إلى النجاة، ومالك سر الشريعة! بل قد تتجاوز وقاحته الحدود، فيرى نفسه في مقام
الولاية الكلية. وھذا ناشئ أيضاً من صغر العقل وضيق القلب والصدر وقلة الاستعداد والأھلية.
وأنت أيضاً يا طالب علوم الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية، لا تملك من علمك أكثر من حفنة من
الاصطلاحات الخاصة بالأصول والحديث، فإذا لم يضف إليك علمك ھذا الذي كله عمل، شيئاً ولم يستطع إصلاحك،
بل أنتج المفاسد الأخلاقية والعملية، فإن عملك أحط من عمل علماء العلوم الأخرى وأتفه بل أقل عمل كل العوام.
إن ھذه المفاھيم العرضية والمعاني الحرفية والدخول في منازعات لا طائل وراءھا ولا علاقة لمعظمھا بدن االله
بالعلوم حتى تسميھا بالثمرة العلمية، أن ھذه المفاھيم لا تستوجب كل ھذا الابتھاج والتكبر. واالله يشھد وكفى
باالله شھيدا أنه لو كانت ھذه ھي نتيجة العلم، دون أن تستطيع ھدايتك، ودون أن تبعد عنك المفاسد الأخلاقية
والسلوكية، فإن أحط الأعمال خير من عملك لأن تلك نتائجھا عاجلة ومفاسدھا الدنيوية والأخروية اقل. وأنت أيھا
68
الأسفار الأربعة, ج1 ص23.
69
النمل: 34.
نھج البلاغة ـ قصار الحكم ـ 80 ـ (الشيخ صبحي الصالح). 70
71
البقرة: 269.
مير محمد باقر بن شمس الدين محمد المعروف بالداماد (ـ1041ھـ. ق) ولد في اصفھان ودفن في النجف, من علماء الإمامية الأفذاذ 72
وفيلسوف تحرير جمع المعقول والمنقول تفرّد في حل العديد من المعضلات الفقھية والحديثية, وان رواج فلسفة أبي علي " ابن سينا "
والاشراقيين في القرن الحادي عشر وتھيئة الارضية الملائمة لظھور الحكمة المتعالية لملا صدرا (تلميذ المير داماد) مديونة لجھود ھذا
الفيلسوف الكبير. من تأليفاته : القبسات, التقديسات, سدرة المنتھى حاشية على كتاب من لا يحضره الفقيه اختار لنفسه في أشعاره اسم
" اشراق ".
43
المسكين لا تنال سوى الوزر والوبال، ولا تحصد غير المفاسد الأخلاقية والأعمال القبيحة. وعليه، فإن عملك من
حيث الاعتبار العلمي ليس فيه ما يدعو إلى التكبر، بل كل ما في الأمر إنك أفقك العلمي، ما أن تضع اصطلاحاً
فوق اصطلاح حتى تحسب نفسك عالما وسائر الناس جھلاء وتفترش أجنحة الملائكة تحت أقدامك وكأنھا تطير
بك، وتضيّق على الناس في المجالس وفي الطرقات. وتقدح بالعلم وعلمائه وتحتقر نظرائك في النوع.
ولكن الأحطَّ من ھذا والأحقر مكانة ھو ذلك الذي يتكبّر ويتباھى بالأمور الخارجية، مثل المال، والجاه، والخدم،
والحشم والقبيلة. فھذا المسكين بعيد عن الخلق البشري والأدب الإنساني فارغ اليد من كل العلوم والمعارف.
ولكن بما أن ملابسه من أجود الأصواف، وأباه فلان ابن فلان، فھو يتكبّر على الناس. فما أضيق عقله وأشد ظلام
قلبه! إنه يقتنع من كل الكمالات باللباس الجميل، ومن كل جمال بالقبعة والرداء! يرتضي المسكين مقام الحيوانية
ويقبل بحظھا، ويقتنع من جميع المقامات السامية الإنسانية بالصورة الخالية من كل شكل ومضمون، والفارغة من
الحقيقة، ظانّاً نفسه بھذا أنه ذو مقام. وفي الواقع إنه على درجة من الضعة ومن عدم اللياقة، بحيث أنه إذا
شاھد أحداً أعلى منه مرتبة واحدة دنيوية تخضّع له كما يتخضّع العبد لسيده. لا شك أن من لا ھمّ له سوى
الدنيا، لا يكون إلاّ عبداً للدنيا ولأھلھا. وأن يغدو ذليلا لدى من يتزلف ويستذل لديھم.
وعلى كل حال، يعتبر ضيق أُفق الفكر وانحطاط القابلية من ھم عوامل الكِبرٍ، لذلك فمن يتصف بھذا يتأثر
بالأمور التي ليست من الكمال، أو ليست من الكمالِ اللائق، تأثراً شديداً يدفع به إلى العُجْب والكبر. وكلما كثر
حبه للنفس وللدنيا، ازداد تأثرا بھذه الأمور.
فصل: في بيان معالجة الكبر
بعد ما عرفت مفاسد الكبر، حاول أن تعالج نفسك مشمّراً عن ساعد الجد للبحث عن العلاج، واشحذ ھمّتك
لتطھير القلب من ھذا الدرن، وأزل الغبار والأتربة عن مرآته. فإذا كنت ممن قويت نفوسھم، واتسعت صدورھم،
ولم يتجذر حب الدنيا في قلبك، ولم يبھرك زبرجھا وزخرفھا، وكانت عين إنصافك مفتوحة، فإن الفصل السابق خير
علاج علمي لك. وإذا لم تكن قد دخلت ھذه المرحلة، ففكّر قليلا في حالك، فلعل قلبك يصحو.
فيا أيھا الإنسان الذي لم تكن شيئاً في أول أمرك، وكنت كامنا دھور العدم والآباد غير المتناھية، ما ھو الأقل
من العدم واللاشيء على صفحة الوجود؟ ثم لمّا شاءتْ مشيئة االله أن يظھرك، إلى عالم الوجود فمن جرّاء قلة
قابليتك الناقصة وتفاھتك وضعتك وعدم أھليتك لتقبل الفيض، أخرجك من ھيولى العالم ـ المادة الأولى ـ التي لا
تكون سوى القوة المحضة والضعف الصرف، إلى صورة الجسمية والعنصرية، التي ھي أخسّ الموجودات وأحطّ
الكائنات، ومن ھناك أخرجك نطفة لو مسّتھا يدك لاستقذرتھا وتطھّرت منھا، ووضعك في منزل ضيق رجس ھو
خصيتي الأب، وأخرجك من مجرى البول في حالة مزرية قبيحة، وأدخلك في رحم الأم من مكان تنفر من ذكر
أسمه. وحوّلك ھناك إلى علقة ومضغة، وغذّاك بغذاء يزعجك سماع أسمه ويخجلك. ولكن بما أن الجميع ھذا ھو
حالھم وتلك ھي بليتھم، زال الخجل «والبَلِيَّةُ إِذا عَمَّتْ طابَتْ».
في كل ھذه التطورات كنت أرذل الموجودات وأذلھا وأحطھا، عاريا عن إدراك ظاھري وباطني، بريئا من كل
الكمالات. ثم شملتك رحمته وجعلك قابلا للحياة، فظھرت فيك الحياة رغم كونك في أشد حالات النقص، بحيث
أنك كنت أحط من الدودة في أمور حياتك، فزادت برحمته تدريجيا قابليتك على إدارة شؤون حياتك، إلى أن أصبحت
جديرا بالظھور في محيط الدنيا، أظھرك في ھذه الدنيا من خلال أشد المجاري ضعة، وفي أوطأ الحالات، وأنت
أضعف في الكمالات وشؤون الحياة، وأدنى من جميع مواليد الحيوانات الأخرى. وبعد أن منحك بقدرته قواك
الظاھرية والباطنية، ما زلت ضعيفاً وتافھاً بحيث أن أيّاً من قواك ليست تحت تصرفك، فلست بقادر على المحافظة
على صحتك، ولا على قواك ولا على حياتك، ولست بقادر على الاحتفاظ بشبابك وجمالك. وإذا ما ھاجمتك آفة أو
انتابك مرض فلست بقادر على دفعھما عنك. وعلى العموم، ليس تحت تصرفك شيء من ذلك. لو جعت يوما
لتنازلت حتى لأكل الجيفة، ولو غلبك العطش لما امتنعت عن شرب أي ماء آسن. وھكذا أنت في شؤونك الأخرى
عبد ذليل مسكين لا قدرة لك على شيء. ول وقارنت حظك من الوجود ومن الكمالات بما لسائر الموجودات،
44
لوجدت أن ك وكل الكرة الأرضية، بل وكل المنظومة الشمسية، لا قيمة لكم مقابل ھذا العالم الجسماني الذي
ھو أدني العوالم وأصغرھا.
أيھا العزيز! إنك لم تر سوى نفسك، والذي رأيته لم تضعه موضع الاعتبار والمقارنة. حاول أن تنظر إلى نفسك
وما تملك من شؤون الحياة وزخارف الدنيا وقارنھا بمدينتك. وقارن مدينتك بوطنك، ووطنك بسائر الدول في الدنيا
التي لم تسمع بأكثر من واحدة بالمائة منھا، وقارن كل الدول بالكرة الأرضية، والأرض بالمنظومة الشمسية،
وبالكرات الواسعة التي تعيش على فتات أشعة الشمس المنيرة، وقارن كل المنظومة الشمسية الخارجة عن
محيط فكري وفكرك، بالمنظومات الشمسية الأخرى التي تعد شمسنا وجميع سياراتھا، واحدة من سيارات إحدى
تلك المنظومات التي لا يمكن أن تقارن شمسنا معھا، والتي يقال أن ما اكتشف منھا حتى الآن يبلغ عدة ملايين
من المجّرات، وأن في ھذه المجرة القريبة الصغيرة عدة ملايين من المنظومات الشمسية التي تكبر أصغر
شمسھا على شمسنا ملايين المرات وتسطع نور أكثر. ھذه كلھا من العوالم الجسمانية التي لا يعرفھا إلاّ
خالقھا، وإن ما اكتشفت منھا لا يبلغ الجزء الضئيل منھا. وكل عوالم الأجسام ھذه لا تكون شيئاً بالقياس إلى
عالم ما وراء الطبيعة، فھناك عوالم لا يمكن للعقل البشري أن يتخيلھا.
ھذه شؤون حياتك وحياتي وھذه حظوظنا ونصيبنا من عالم الوجود. وعندما تشاء إرادة االله أن تتوفاك وتنقلك
من ھذه الدنيا، فإنه يأمر جميع قواك بالاتجاه نحو الضعف وجميع حواسك بالتوقف عن العمل، فتختل أجھزة
وجودك، ويذھب سمعك وبصرك وتضمحل قواك وقدراتك، فتصبر قطعة جماد تزكم بعد أيام رائحتك العفنة، أنوف
الناس وتؤذي مشامّھم، ويھربون من صورتك وھيئتك، وما أن تمضي عليك أيام أخر حتى تھترأ أعضاؤك وتتفسخ.
ھذه ھي أحوال جسمك، أما أحوال أموالك وثروتك فأمرھا معروف.
أما عالم برزخك: فإنك إن انتقلت من ھذه الدنيا ـ لا سمح االله ـ قبل أن تصلحه فاالله يعلم كيف تكون صورتك،
وكيف تكون أحوالك، إذ أن قوى الإدراك في ھذا العالم عاجزة عن أن تسمع أو ترى أو تشم شيئاً من ذلك العالم.
إن ما تسمعه عن ظلمة القبر ووحشته وضيقه إنما تقيسه على ما في ھذا العالم من ظلمة ووحشة وضيق، مع
أن ھذا القياس وھذه المقارنة باطلة. نسأل االله أن ينجينا مما أعددنا لأنفسنا بأنفسنا!.
إن عذاب القبر أنموذج من عذاب الآخرة والمستفاد من بعض الأحاديث أن أيدينا تقصر عن الوصول إلى شفاعة
الشفعاء في القبر73 ،فيا له من عذاب! إن نشأة الآخرة أشد وأفظع من جميع الحالات السابقة. إنه يوم تبرز فيه
الحقائق، وتنكشف فيه السرائر، وتتجسد فيه الأعمال والأخلاق. يوم تصفيه الحساب، يوم الذلة في المواقف. تلك
ھي أحوال يوم القيامة!.
أما حال جھنم التي تكون بعد يوم القيامة فأمرھا معلوم أيضاً. إنك تسمع أخباراً عن جھنم! إن النار ليست
وحدھا عذاب جھنم. فلو أن باباً منھا انفتحت على عينيك وعلى ھذا العالم لھلك أھلھا خوفا. وكذلك لو انفتحت
باب أخرى على أذنيك، وأخرى على خياشيمك، لو أن أيّاً منھا فتح على أھل ھذا العالم لھلكوا جميعا من شدة
العذاب.
يقول أحد علماء الآخرة: مثلما أن حرارة جھنم أشد ما تكون، كذلك برودتھا أشد ما تكون. واالله تعالى قادر على
أن يجمع الحرارة والبرودة74 .ھكذا ھي نھاية حالك.
إذاً، فالذي أوله عدم غير متناه، وھو منذ أن يضع قدمه في الوجود تكون جميع تطوراته قبيحة وغير جميلة، وكل
حالاته مخجلة، وكل من دنياه وبرزخه وآخرته أفجع من الأخرى، بم يتكبر؟ بأي جمال أو كمال يتباھى؟ إن من كان
جھله أكبر وعقله أصغر كان تكبره أكثر ومن كان علمه أكثر وروحه أكبر وصدره أوسع، كان تواضعه أكثر.
إشارة للحديث : " قلت لأبي عبد االله " ع " : " أني سمعتك وانت تقول كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيھم " قال " ع " : " صدقت 73
كلھم واالله في الجنة, قال : قلت: جعلت فداك أن الذنوب كثير, كبار, فقال " ع " : أما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع أو
وصي النبي ولكني واالله أتخوف عليكم في البرزع, قلت وما البرزخ؟ قال : القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة.
فروع الكافي, ج3 ص242 : كتاب الجنائر, باب ما ينطق به موضع القبر " الحديث 3.
74
الفتوحات المكية, ج1 فصل 1 الباب 61.
45
النبي الكريم صلى االله عليه وآله وسلم الذي كان علمه من الوحي الإلھي، وكانت روحه من العظمة بحيث
أنھا بمفردھا غلبت نفسيات كل البشر، إن ھذا النبي قد وضع جميع العادات الجاھلية والأديان تحت قدميه،
ونسخ جميع الكتب، واختتم دائرة النبوة بشخصه الكريم، وكان ھو سلطان الدنيا والآخرة والمتصرف في جميع
العوالم بإذن االله، ومع ذلك كان تواضعه مع عباد االله أكثر من أي شخص آخر. كان يكره أن يقوم له أصحابه احتراما،
وإذا دخل مجلسا لم يتصدر ويتناول الطعام جالسا على الأرض قائلا: إنني عبد، أكل مثل العبيد وأجلس مجلس
العبيد75.
لقد نقل عن الإمام الصادق عليه السلام أن رسول االله صلى االله عليه وآله وسلم كان يحب أن يركب الحمار
من دون سرج، وأن يتناول الطعام مع العبيد على الأرض، وكان يعطي الفقراء بكلتا يديه. كان ذلك الإنسان العظيم
يركب الحمار مع غلامه أو غيره، ويجلس على الأرض مع العبي، وفي سيرته أن ه كان يشترك في أعمال المنزل،
ويحتلب الأغنام، ويرقع ثيابه ويخصف نعله بيده، ويطحن مع خادمه ويعجن، يحمل متاعه بنفسه، ويجالس الفقراء
والمساكين ويأكل معھم76 .ھذه وأمثالھا، نماذج من سيرة ذلك الإنسان العظيم وتواضعه، مع أنه فضلا عن مقامه
المعنوي كان في أكمل حالات الرئاسة الظاھرية.
وھكذا قد اقتدى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، إذ كانت سيرته من سيرته صلى االله
عليه وآله وسلم77.
فيا أيھا العزيز! إذا كان التكبر بالكمال المعنوي، فقد كان الرسول الأعظم صلى االله عليه وآله وسلم والإمام
علي عليه السلام أرفع شأناً، وإذا كان بالرئاسة والسلطان، فقد كانت لھما الرئاسة الحقة. ومع ذلك، كانا أشد
الناس تواضعا. فاعلم، أن التواضع وليد العلم والمعرفة، والكبر وليد الجھل وانعدام المعرفة، فامسح عن نفسك عار
الجھل والانحطاط، وأتصف بصفات الأنبياء، واترك صفات الشيطان، ولا تنازع االله في ردائه ـ الكبرياء ـ فمن ينازع
الحق في ردائه فھو مغلوب ومقھور بغضبه، ويُكَبُّ على وجھه في النار.
وإذا عزمت على إصلاح نفسك، فطريقه العملي، أمر يسير مع شيء من المثابرة، وإنه طريق لو اتصفت بھمة
الرجال وحرية الفكر وعلو النظر، فلن تصادفك أية مخاطر. فإن الأسلوب الوحيد على النفس الأمّارة، وقھر الشيطان،
ولإتّباع طريق النجاة، ھو العمل بخلاف رغباتھما. إنه لا يوجد سبيل أفضل لقمع النفس من الاتصاف بصفة التواضع
ومن السير وفق مسيرة المتواضعين فحيثما تكن درجة التكبر عندك، ومھما تكن طريقتك في العلم والعمل، أعمل
قليل بخلاف ھوى نفسك، فإن مع الإلتفات إلى الملاحظات العلمية تجاه التكبر، والانتباه إلى النتائج المطلوبة. إذا
رغبت بأن تتصدر المجلس متقدما على أقرانك، فخالفھا وأعمل عكس ما ترغب فيه. وإذا كانت نفسك تأنف من
مجالسة الفقراء والمساكين، فمرِّغ أنفھا في التراب وجالسھم، وآكلھم، ورافقھم في السفر، ومازحھم وقد
تجادلك نفسك فتقول لك: إن لك مقاماً ومنزلة، وإن عليك أن تحافظ على مقامك من أجل ترويج الشريعة والعمل
في سبيلھا، فمجالستك الفقراء تذھب بمنزلتك من القلوب، وإن المزاح مع مَنْ ھو دونك، يقلل من عظمتك،
وجلوسك في ذيل المجلس يحط من ھيبتك، فلا تقدر أن تؤدي واجبك الشرعي على خير وجه!! اعلم، أن ھذه
كلھا من مكائد الشيطان والنفس الأمارة. لقد كان مقام رسول االله صلى عليه وآله وسلم في الدنيا من حيث
الرئاسة والمركز أرفع منك، ومع ذلك كانت سيرته ھي التي قرأت عنھا وسمعت بھا.
لقد عاصرت شخصيا من العلماء من كانت لھم الرئاسة والمرجعية الدينية كاملة في دولة واحدة، بل ولكل
الشيعة في العالم وكانت سيرتھم تلي سيرة رسول االله صلى االله عليه وآله وسلم.
في روايات متعددة أشير إلى خُلق وسلوك رسول االله " ص " بعضھا وردت في ھذا الكتاب. عن أنس بن مالك قال : لم يكن شخص 75
أحب إليھم من رسول االله " ص " وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعرفون من كراھيته " ".
" وعن ابن عباس قال : كان رسول االله " ص " يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويعتقل الشاة ويجيب دعوة المملوك ويقول " ص " :
أنا عبد اكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس ا لعبد " كتاب مكرام الأخلاق, ص12 الفصل الثاني.
كان يجلس على الأرض وينام عليھا ويأكل عليھا وكان يخصف النعل ويرفع الثوب ويفتح الباب ويحلب الشاة ويعقل البعير فيحلبھا ويطحن 76
مع الخادم إذا اعيى... ويخدم في مھنه أھله ويقطع اللحم, وإذا جلس على طعام جلس مُحقّراً... يركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو حمار
ويركب الحمار بلا سرج وعليه العذار.. يجالس الفقراء والسماكين ويؤاكل المساكين ويناولھم بيده.
بحار الأنوار, ج16 ص226 " تاريخ نبينا " ص " , باب مكارم أخلاقه " الحديث: 34.
كشف الغمة في معرفة الأئمة ج1 ص162ـ172 " في وصف زھده في الدنيا ". 77
46
منھم، الأستاذ المعظم والفقيه المكرم الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي78 حيث كانت له رئاسة
الشيعة ومرجعيتھم من 1340ھـ79 حتى 1355ھـ80 .كان سيرته عجيبة، كان يرافق الخدم في السفر، ويؤاكلھم،
ويفترش الأرض، ويمازح صغار الطلبة. وخلال أيام مرضه في أواخر حياته، كان يخرج بعد المغرب يتمشى في
الشارع وقد لفّ رأسه بقطعة قماش بسيطة متنعلاً حذاءاً بسيطاً من دون أي اھتمام بالمظھر، وكان ھذا يزيد من
وقعة في القلوب، من دون أن تصاب ھيبته بأي اھتزاز أو وھن.
وكان ھناك آخرون من علماء قم ممن لم يلتفتوا أبدا إلى ھذه التقيدات التي يحيكھا لك الشيطان. كانوا
يشترون حاجياتھم من السوق بأنفسھم، ويحملون الماء من مخازن المياه إلى بيوتھم، ويشتغلون في منازلھم.
وكان صدر المجلس وذيله سواء عندھم. وكانوا على درجة من التواضع بحيث تبعث على التعجب ومع ذلك كله
كان مقامھم محفوظا بل كانت منزلتھم تسمو في قلوب اناس أكثر فأكثر.
وعلى أي حال، إن صفة النبي الأكرم صلى االله عليه وآله وسلم وصفة علي بن أبي طالب عليه السلام لا
تقلل من قدر الإنسان إذا اتصف بھا. ولكن لا بُدَّ من ينتبه الإنسان إلى مكائد النفس في ھذه الحالات، لأنھا كثيرا
ما تكون قد أعدت لك فخّاً آخر لتوقعك فيه. فقد يجلس ـ أحدھم من يريد التخلص من الكبيرـ في ذيل المجلس
بھيئة من يريد أن يقول أن مقامه أرفع من مقامات الحاضرين، ولكنه لتواضعه جلس حيث. وإذا التبس على الناس
الأمر وقدّموا عليه من يشك في أفضليته عليه، فإنه ـ من يھرب من صفة التكبر ـ يقدم على نفسه من لا يشك
في تأخره عنه لكي يزيل ذلك الالتباس بالإيحاء بأن تأخيره في الدخول على المجالس وتقديم الآخرين على
نفسه يكون من باب التواضع. ھذه ومئات الأمثلة الأخرى من ھذا القبيل ھي من مكائد النفس التي تريد للإنسان
التكبر والرياء.
فلا بُدَّ من المجاھدة الخالصة الصادقة وبھا يمكن إصلاح النفس. إن جميع الصفات النفسانية قابلة للإصلاح، إلاّ
أن الأمر في البداية يتطلب بعض العناء، ولكن ما أن يضع قدمه على طريق الإصلاح حتى يسھل عليه الأمر. إنما
المھم ھو أن يشرع في التفكير في تطھير نفسه وإصلاحھا، والاستيقاظ من النوم.
إن المرحلة الأولى من مراحل الإنسانية ھي «اليقظة» وھي الاستيقاظ من نوم الغفلة، والصحوة من سكر
الطبيعة، والإدراك بأن الإنسان مسافر، وأنه لا بُدَّ للمسافر من زاد وراحلة. وزاد الإنسان خصاله، وراحلته في ھذه
المرحلة الخطيرة المخيفة، وفي ھذه الطريق الضيقة، على الصراط الذي ھو أحدَّ من السيف وأدق من الشعرة81 ،
الشعرة81 ،ھي ھمّة الرجال وعزمھم. والنور الذي ينير ظلام ھذا الطريق، ھو نور الإيمان والخصال الحميدة. فإذا
تقاعس الإنسان ووھنت ھمته أخفق في العبور، وانكب على وجھه في النار، وساوى تراب الذل، وانقلب في
ھاوية الھلاك. فمن لم يستطع اجتياز ھذا الصراط لا يستطيع اجتياز صراط يوم القيامة أيضاً.
فيا أيھا العزيز، أشدد عزيمتك، ومزّق عن نفسك سجف الجھل، وانج بنفسك من ھذه الورطة المھلكة! كان
إمام المتقين وسالك طريق الحقيقة ينادي في المسجد بأعلى صوته حتى يسمعه الجيران: «تَجَھَّزُوا رَحِمَكُمُ االلهُ
فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحيلِ»82 !وما زادٌ ينفعك سوى الكمالات النفسانية، وتقوى القلب، والأعمال الصالحة، وصفاء
الباطن، وخلوص النية من كل عيب وغش.
آية االله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (1376ـ1355ھـ. ق) من الفقھاء الكبار ومراجع التقليد لدى الشيعة في القرن 78
الرابع عشر الھجري فھو وبعد أن أنھى دراسة المقدمات سافر إلى النجف وسامراء ودرس ھناك على أيدي كبار العلماء كالميرزا الشيرازي
الكبير والميرزا محمد تقي الشيرازي والآخوند الخراساني والسيد كاظم اليزدي والسيد محمد الاصفھاني القشاركي. عاد إلى آراك عام
1332ھـ. ق, وفي عام 1340 قدم إلى قم وبعد إلحاح أعينان الناس عليه آنذاك وبعد الاستخارة ألقى برحله في مدينة قم وأسس فيھا الحوزة
العلمية, وقد تربى في حوزة درسه علماء كبار في مقدمتھم الإمام الخميني (ره) من آثاره: درر الفوائد في الأصول, الصلوة في الفقه, النكاح,
الرضاع, والمواريث.
1920م (المترجم). 79
1935م (المترجم). 80
كما جاء في الحديث النبوي (ص) : " الصراط ادق من الشعر واحدّ من السيف وأظلم من الليل " علم اليقين, ج2 ص969 " .المقصد 81
الرابع في معنى الصراط " وبنفس ھذا المعنى جاء في الرواية المروية عن الإمام الصادق " ع " في آمالي الصدوق, ص177 " المجلس " 33
الحديث 4 وكذلك في بحار الأنوار, ج8 ص65 " كتاب العدل والمعاد " الباب 22.
1935م (المترجم). 82
47
فإذا كنت من أھل الإيمان الناقص والصوري، فعليك أن تطھّر نفسك من ھذا الغش حتى تنضم إلى زمرة
السعداء والصالحين. والغش يزول بنار التوبة والندم، وبإدخال النفس في أتون العذاب واللوم، وصھرھا في حرارة
الندامة والعودة إلى االله. عليك أن تعمل في ھذا العالم، وإلاّ فإن {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}83.
سوف تذيب قلبك. واالله أعلم كم قرن من قرون الآخرة يستغرق إصلاحك ھذا!! إن التطھر في ھذه الدنيا سھل
يسير، فالتغّيرات والتصورات سريعة الوقوع فيھا، أما في العالم الآخر فالتغيير يكون بشكل آخر، فزوال صفة من
صفات النفس قد يستغرق قرونا عديدة.
إذاً، أيھا الأخ، ما دمت في مقتبل عمرك، وزھرة شبابك، وأوج قوتك، وحرية إرادتك، سارع لإصلاح نفسك، ولا
تلق بالاً لھذا الجاه والمقام، وطأ على ھذه الاعتبارات بقدميك إنك إنسان، فأبعد نفسك عن صفات الشيطان،
فلعلّ الشيطان يھتم بھذه الصفة اھتماماً كبيراً لكونھا صفة من صفاته. وھي التي أدت إلى طرده من حضرة االله،
ولذلك فھو يريد أن يوقع الإنسان، عارفاً أو عاميّاً عالماً أو جاھلا، في مثل ھذه الرذيلة، حتى إذا ما لقيك يوم
القيامة شَمَتَ بك قائلاً: «ويا أبن آدم، ألم يخبرك الأنبياء بأن أتكبر على أبيك قد طردني من حضرة الحق. لقد نزلت
عليّ لعنة االله لأني احتقرت مقام آدم واستعظمت مقامي، فلماذا أوقعتك نفسك في ھذه الرذيلة» ؟.
وعندئذ تصبح، أيھا المسكين!موضع شماتة أرذل مخلوقات االله وأحطھا، فضلاً عن عذابك وابتلاءاتك وندامتك
وحسرتك مما يعجز الكلام عن وصفه. إن الشيطان لم يكن قد تكبّر على االله، بل على أدم وھو من مخلوقات
الحق، فقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}84 .فاستعظم نفسه واستحقر آدم. وأنت تستصغر بني آدم
وتستكبر بنفسك عليھم، فأنت أيضاً تعصي أوامر االله. لقد قال لك تعالى: كن متواضعاً مع عباد االله، ولكنك تتكبر
وتتعالى عليھم. فلماذا، تلعن الشيطان وحده؟ أشرك نفسك الخبيثة معه في اللعن أيضاً، مثلما أنت شريكه في
ھذه الرذيلة. إنك من مظاھر الشيطان، بل إنك تجسّد الشيطان. ولربما كانت صورتك في البرزخ وفي يوم القيامة
صورة شيطانية. فإن المقياس في صورة الإنسان في الآخرة الملكات الحاصلة للنفس. فليس ھناك ما يمنع من أن
تكون على صورة شيطان، أو على صورة نملة صغيرة، إن موازين الآخرة تختلف عن موازين الدنيا.
فصل: قد يكون الحسد سببا للتكبر
اعلم أن من الممكن أحياناً أن يتكبّر فاقد الكمال على واجد الكمال، كأن يتكبر الفقير على الغني والجاھل
على العالم. ولا بُدَّ أن نعرف أنه مثلما كان العُجب أحيانا مدخلا للتكبر، فإن الحسد قد يصبح أيضاً مدخلاً إليه.
فالإنسان الذي يفتقر إلى كمال موجود في غيره، يندفع إلى أن يحسده، ثم يصير سبباً لكي يتكبر عليه ويسعى
جھده لإذلالهِ وإھانته.
روى عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال «الكِبَرُ قَدْ يَكونُ فِي شِرارِ النَّاسِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ... » ثُمَّ قَالَ: إِنَّ
رَسولَ االلهِ صَلّى االلهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَرَّ فِي بَعضِ طُرقِ المَدِيَنِة وَسَوْدَاءَ تَلقطِ السرقين، فَقِيلَ لَھَا: تَنَحِّي عَنْ
طَرِيقِ رَسُولِ االلهِ صَلّى االلهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ الطَرِيقَ لَمَعرض. فَھَمَّ بِھَا بَعْضُ القَوْمِ أنْ يَتَنَاوَلھا، فَقَالَ
رَسُولُ االلهِ صَلّى االلهُ عَليهِ وآلِهِ وَسَلَّم: «دَعُوھَا فإِنَّھَا جَبَّارة» 85.
وقد تظھر ھذه الصفة في بعض أھل العلم، مبرراً أن التواضع أمام الأغنياء غير محمود، وتقول له نفسه الأمارة
بالسوء إن التواضع للأغنياء منقصة للإيمان. إن المسكين لا يميّز بين التواضع لغني من أجل غناه والتواضع لغير
ذلك. فمرة يتواضع الإنسان مدفوعا برذيلة حب الدنيا والانجذاب نحو طلب الجاه والمقام. فليس ھذا من خلق
التواضع في شيء، بل إنه المداھنة والملق وأنه من الرذائل النفسانية، وصاحبھا لا ي تواضع للفقراء، إلاّ إذا طمع
فيھم بشيء أو أراد منھم شيئاً.
ومرة أخرى يكون طبع التواضع في الإنسان داعية له إلى احترام الناس والتواضع لھم. فقراء كانوا أم أغنياء،
مرموقين كانوا أم مغمورين. فھذا تواضعه خالص من غير شائبة، وروحه طاھرة مطھرة، لم يجتذب قلبه الجاه
83
.7 ،6 :الھمزة
84
الأعراف: 12.
(أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبر، ح 2 (85
48
والمقام. إنه تواضع محمود للفقراء ومحمود للأغنياء، فلا بُدَّ من احترام كل إنسان بما ھو خليق به. أما تحقيرك
لأھل الجاه والغنى والتكبر عليھم فلا يعني أنك لست متملقا، بل يعني أنك حسود، وتكون في الوقت نفسه على
خطأ. ولھذا إذا رأيتھم يحترمونك على غير انتظار وتوقع، تتواضع لھم وتخفض لھم جناحك.
وعلى كل حال، إن مكائد النفس وأحابيلھا من الدقة المتناھية بحيث أن المرء لا يسعه إلاّ أن يستعيذ باالله
منھا.
وَالحَمْدُ الله أوّلاً وآخِراً.
الحَديث الخَامِس: الحسَد
بالسند المتصَّل إلى محمَّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراھيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن داود
الرقي، عن أبي عبد االله عليه السلام قال: قالَ رَسُولُ اللّه صَلى اللّه عَليهِ وآلِهِ وسَلَّم:
قالَ اللّه عَزَّ وَجلّ لِمَوسَى بنِ عُمْراِن:
« يا ابْنَ عُمْرانِ لا تًحْسُدَنَّ النّاسَ عَلى ما اتَيْتُھُمْ مِنْ فَضْلي ولا تَمُدَّنَّ عَيْنيكَ إِلى ذلِكَ وَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ فَإنَّ
86 الحاسِدَ ساخِطٌ لِنِعَمي صادٌ لِقِسْمِيَ الَّذي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبادي وَمَنْ يَكُ ذلِكَ فَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنّي »
.