أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر ـ باب في أصول الكفر وأركانه ـ ح.
37
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العجب، ح 3.
الوسائل في مقصد العبادات، باب تحريم الإعجاب بالنفس، ويقول العلامة المجلسي، " من الممكن أن يكون (أبو الحسن) المذكور في 38
ھذا الحديث الشريف ھو الإمام الرضا عليه السلام لأن علي بن سويد يروي عنھما كليھما (عليھما السلام) الإمام موسى بن جعفر والإمام
الرضا وإن يروي عن الكاظم عليه السلام أكثر من روايته عن الإمام الرضا عليه السلام. عفى االله عنه ".
39
نقلاً عن بحار الأنوار، المجلد 72 ،ص306.
28
وھناك درجات أخرى غير ولكنه ليست في ھذا المقام. ونحن إن شاء االله سنشير ضمن فصول لاحقة، إلى
تلك الدرجات ومنشئھا وما يمكن أن يكون علاجا لھا. وبه نستعين.
فصل: في مراتب العجب
أن لكل واحدة من الدرجات الآنفة الذكر من العجب مراتب يكون بعض ھذه المراتب واضحة وبيِّنة ويمكن 40 اعلم
للإنسان الإطلاع عليھا بأقل تنبه والتفاوت. وبعضھا الآخر دقيق وخفيّ للغاية بحيث لا يمكن للإنسان أن يدركھا ما
لم يفتش ويدقّق بصورة صحيحة. كما أن بعض مراتبھا أشدّ وأصعب وأكثر تدميراً من بعضھا الآخر.
المرتبة الأولى:
وھي أشدّ المراتب وأھلكھا، حيث تحصل في الإنسان بسبب شدة العُجْب حالة يمنّ معھا في قلبه بإيمانه أو
خصاله الحميدة الأخرى على ولي نعمته ومالك الملوك، فيتخيل أن الساحة الإلھية قد اتسعت بسبب إيمانه، أو
أن دين االله قد أكتسب رونقاً بذلك أو أنه بترويجه للشريعة أو بإرشاده وھدايته أو بأمره بالمعروف ونھيه عن المنكر
أو بإقامته الحدود، أو بمحرابه ومنبره، قد أضفى على دين االله بھاءً جديداً، أو أنه بحضوره جماعة المسلمين، أو
بإقامة مجالس التعزية لأبي عبداالله عليه السلام قد أضفى على الدين جلالا، لذلك يمنّ على االله وعلى سيد
المظلومين وعلى الرسول الأكرم صلى االله عليه وآله وسلم، وإن لم يظھر لأحد ھذا المعنى، إلاّ أنه يمنّ في
قلبه. ومن ھنا ومن ھذا الباب بالذات تنشأ المنّة على عباد االله في الأمور الدينية، كأن يمنّ على الضعفاء والفقراء
بإعطائھم الصدقات الواجبة والمستحبة ومساعدتھم، وأحيانا تكون ھذه المنّة خافية حتى على الإنسان نفسه
(وقد تقدم في الحديث الثاني شرح عدم إمكان امتنان الإنسان على االله، وإنا يمنّ االله على الناس جميعا).
المرتبة الثانية:
وھي التي يتدلل فيھا الإنسان ويتغنج بواسطة العُجب على االله تعالى وھذه غير المنّة، ولو أن البعض لم
يفرّق بينھما.
أن صاحب ھذا المقام يرى نفسه محبوبا الله تعالى، ويرى نفسه في سلك المقرَّبين والسابقين، وإذا جيء
باسم وليّ من أولياء االله أو جرى حديث عن المحبوبين والمُحبين أو السالك المجذوب، اعتقد في قلبه أنه من
أولئك. وقد يبدي التواضع رياء وھو خلاف ذلك، أو أنه لكي يثبت ذلك المقام لنفسه ينفيه
عن نفسه بصورة تستلزم الإثبات.
وإذا ما ابتلاه االله تعالى ببلاء، راح يعلن أن «البَلاءَ لِلْوَلاءِ».
إن مدعي الإرشاد من العرفاء والمتصوفة وأھل السلوك والرياضة أقرب إلى ھذا الخطر من سائر الناس.
المرتبة الثالثة:
أن يرى العبد نفسه وبواسطة الإيمان أو الملكات أو الأعمال، دائنا الله وأنه بذلك يكون مستحقا للث واب، ويرى
واجباً على االله أن يجعله عزيزاً في ھذا العالم، ومن أصحاب المقامات في الآخرة، ويرى نفسه مؤمناً تقياً وطاھراً،
وكلما جاء ذكر المؤمنين بالغيب، قال في نفسه: «حتى لو عاملني االله بالعدل، فإني أستحق الثواب والأجر» بل
يتعدى بعضھم حدود القبح والوقاحة ويصرّح بھذا الكلام. وإذا ما أصابه بلاء وصادفه ما لا يرغب، فإنه يعترض على
االله في قلبه، ويتعجب من أفعال االله العادل، حيث يبتلي المؤمن الطاھر، ويرزق المنافق، ويغضب في باطنه على
االله تبارك وتعالى وتقديراته، ولكنه يظھر الرضا في الظاھر، ويصبُّ غضبه على ولي نعمته، ويظھر الرضا بالقضاء
أمام الخلق. وعندما يسمع أن االله يبتلي المؤمنين في ھذه الدنيا، يسلّي نفسه بذلك في قلبه، ولا يدري بأن
المنافقين المبتلين كثيرون أيضاً وليس كل مُبْتَلٍ مؤمناً.
المرتبة الرابعة:
ھي أن يرى الإنسان نفسه مُتميزاً عن ائر الناس وأفضل منھم بالإيمان، وعن المؤمنين بكمال الإيمان،
وبالأوصاف الحسنة عن غير المتصفين بھا، وبالعمل بالواجب وترك المحرَّم عمّا يقابل ذلك، كما أنّه يرى في عمل
40
في ھذا الفصل نشرح العُجب في الخصال الحسنة، وسنشرح في بعض الفصول القادمة، العُجب بالخصال التي تقابل الصفات الحسنة.
أيضا (منه عفى عنه).
29
المستحبات والتزام الجمعة والجماعات والمناسك الأخرى وترك المكروھات يرى نفسه أكمل من عامة الناس، وأن
له امتيازاً عليھم، فيثق بنفسه وبأعماله، ويرى سائر الخلق زبداً ناقصين، وينظر إلى سائر الناس بعين الاحتقار،
ويطعن بقلبه أو بلسانه في عباد االله ويعيبھم، ويبعد كل شخص بصورة مّا عن ساحة رحمة االله، ويجعل الرحمة
خالصة له ولأمثاله.
ومثل ھذا الإنسان يصل إلى درجة بحيث يناقش كل عمل صالح يراه من الناس، ويخدشه بقلبه على نحو ما،
ويرى أعماله خالصة من ذلك الاعتراض والنقاش ولا يرى الأعمال الحسنة من الناس شيئاً ولكن إذا صدرت ھذه
الأعمال نفسھا عنه يراھا عظيمة. إنه يعرف جيدا عيوب الناس وھو غ افل عن عيوبه.
ھذه علامات العُجْب، وإن كان الإنسان نفسه قد يكون غافلاً عنھا، وللعُجب درجات أخرى، لم أذكر بعضھا،
وأكون غافلاً عن بعضھا الأخر حتماً.
فصل: إن أھل الفساد يُعجبون بفسادھم
يصل أھل الكفر والنفاق والمشركون والملحدون وذوو الأخلاق القبيحة، والملكات الخبيثة وأھل المعصية
والعصيان، أحياناً إلى درجة الإعجاب بغرورھم وزندقتھم تلك، أو بسيئات أخلاقھم وموبقات أعمالھم، ويسرّون بھا،
ويرون بھا أنفسھم من ذوي الأرواح الحرة، الخارجة عن التقليد وغير المعقّدة بالأوھام والخرافات، ويرون أنفسھم
أولي شھامة ورجولة، ويتصورون أن الإيمان باالله من الأوھام، وأن التعبد بالشرائع من ضعف العقل وصغره، ويرون
أن الأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة، ھي من ضعف النفس والمسكنة، ويحسبون أن الأعمال الحسنة
والمناسك والعبادات ھي من ضعف الإدراك ونقصان الإحساس، ويرون أن أنفسھم ستحق المدح والثناء، بسبب
الروح الحرة التي لا تعتقد بالخرافات ولا تبالي بالشرائع. لقد تأصلت في قلوبھم الخصال القبيحة والسيئة وأصبحوا
يأنسون بھا، وبھا امتلأت أعينھم وآذانھم فرأونا حسنة، وتصوروھا كمالاً مثلما وردت الإشارة إلى ذلك في ھذا
الحديث الشريف حيث قال: «العُجْبُ دَرَجَاتٌ، مِنْھَا أنْ يُزَيّنَ لِلْعَبْدِ سُوءُ عَمَلِهِ فَيَراهُ حَسَنَاً فَيُعْجِبُهُ وَيَحْسَبُ أنَهُ
. وكما يقول {وَيَحْسَبُ 41 يُحْسِنُ صَنْعَاً» وھذه إشارة إلى قول االله تعالى {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا...}
أَنَهُ يُحْسِنُ صَنْعاً} يشير إلى قول االله تعالى: {قُلْ ھَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُھُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَھُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّھُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّھِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُھُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَھُمْ يَوْمَ
. تلك المجموعة من الناس الذين ھم في الواقع جھلة ويحسبون أنفسھم علماء، أولئك ھم أكثر 42 الْقِيَامَةِ وَزْنًا}
الناس مسكنة وأسوأ الخلائق حظّاً، أولئك يعجز أطباء النفوس عن علاجھم ولا تؤثر فيھم الدعوة والنصيحة، بل قد
تعطي أحياناً نتيجة عكسية. أولئك لا يعون الدليل بل يسدّون أسماعھم عن ھداية الأنبياء عليھم السلام وبرھان
الحكماء ومواعظ العلماء.
وعليه فتجب الاستعاذة باالله من شرّ النفس ومكائدھا التي تجر الإنسان من المعصية إلى الكفر ومنه إلى
العُجْب به. إن النفس والشيطان، بتھوينھا بعض المعاصي، يلقيان بالإنسان في المعصية، وبعد تأصيلھا في قلبه
وتحقيرھا في عينه يبتلى الإنسان بمعصية أخرى أكبر قليلاً من الأولى، ومع التكرار تسقط المعصية الثانية من
النظر وتبدو صغيرة وھيِّن في عين الإنسان، فيبتلى بما ھو أعظم. وھكذا يسير الإنسان نحو الھاوية خطوة
فخطوة، وشيئا فشيئا فتصغر كبائر المعاصي في عينه إلى أن تسقط جميع المعاصي في نظرة، فيستھين
بالشريعة والقانون الإلھي، ويؤول عمله إلى الكفر والزندقة والإعجاب بھما. وقد يأتي الحديث عن ذلك فيما يأتي.
فصل: في بيان أن حيل الشيطان دقيقة
وعلى غرار ما يتدرج عمل أولي العُجب بالمعاصي من مرتبة إلى أخرى حتى يصل إلى الكفر والزندقة، كذلك
يتطور العجب بالطاعات من العجب في الدرجة الناقصة إلى الدرجة الكاملة، فتصبح مكائد النفس والشيطان في
القلب على أساس تخطيط ودراسة. إن الشيطان لا يمكن أبدا أن يعھد إليكم، أنتم المتقون الخائفون من االله،
مھمة قتل النفس أو الزنا، أو أن يقترح على الشخص الذي يتمتع بالشرف وطھارة النفس، السرقة أو قطع
41
سورة فاطر، آية: 8.
42
الكھف: 103 ـ 105.
30
الطريق، فلا يمكن أن يقول لك منذ البداية بأن مُنَّ على االله ب ھذه الأعمال أو ضع نفسك في زمرة المحبوبين
والمحبين والمقرّبين من
الحضرة الإلھية. وإنما يبدأ الأمر بالخطوة الأولى ثم يشق طريقه في قلوبكم، فيدفعكم نحو الحرص الشديد
على التزام المستحبات والأذكار والأوراد. وفي غضون ذلك يزين أمامكم بما يناسب حالكم، عملا واحدا من أھل
المعصية، ويوحي لكم بأنكم بحكم الشرع والعقل أفضل من ھذا الشخص، وأن أعمالكم موجبة لنجاتكم، وأنكم
بحمد االله طاھرون بعيدون عن المعاصي ومبرءون منھا، فيتحصل من ھذه الإيحاءات نتيجتين: الأولى: ھي سوء
الظن بعباد االله، والأخرى: العُجب بالنفس. وكلاھما من المھلكات ومن معين المفاسد.
قولوا للشيطان والنفس: قد تكون لھذا الشخص المبتلي بالمعصية، حسنات، أو أعمال أخرى فيشمله االله
تعالى بھا بوافر رحمته، ويجعل نور تلك الحسنات والأعمال مناراً يھديه فيؤول عمله إلى حسن العاقبة. ولعل االله
قد ابتلى ھذا لشخص بالمعصية لكي لا يبتلى بالعُجب، الذي يعدّ أسوأ من المعصية. مثلما ورد في الحديث
الشريف المنقول في الكافي، عن أبي عبداالله، قال: «إِنَّ االلهَ عَلِمَ أن الذنب خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ العُجبِ ولولا ذلكَ ما
ولعل عملي أنا يؤول إلى سوء العاقبة بسبب سوء الظن ھذا. وكان شيخنا الجليل 43 ابْتَلى مؤمِناً بِذَنْبٍ أَبداً»
العارف الكامل الشاه آبادي «روحي فداه» يقول:
«لا تعيبوا على أحد، حتى في قلوبكم، وإن كان كافرا، فلعل نور فطرته يھديه، ويقودكم تقبيحكم ولومكم ھذا
إلى سوء العاقبة إن الأمر بالمعروف والنھي عن المنكر غير التعبير القلبي» بل كان يقول: «لا تلعنوا الكفار الذين لا
يعلم بأنھم رحلوا عن ھذا العالم وھم حال في حال الكفر، فلعلھم اھتدوا في أثناء الرحيل فتصبح روحانيتھم مانعا
لرقيكم». وعلى أي حال، فإن النفس والشيطان، يدخلانكم في المرحلة الأولى من العُجب وقليلا قليلا ينقلانكم
من ھذه المرحلة إلى مرحلة أخرى، ومن ھذه الدرجة إلى درجة أكبر إلى أن يصلا بالإنسان في النھاية إلى
المقام الذي يمنُّ فيه على ولي نعمته ومالك الملوك، بإيمانه أو أعماله ويصل عمله إلى أسفل الدرجات.
فصل: في مفاسد العُجْب
اعلم أن العجب بنفسه من المھلكات والموبقات ومما يحبط إيمان الإنسان وأعماله ويفسدھا، كما يجيب
الإمام عليه السلام الراوي عندما يسأله في ھذا الحديث الشريف عن العُجْب الذي يفسد العمل فيحدد عليه
السلام أن درجة منه ھي العجب في الإيمان. وقد سمعت في الحديث السابق أن العجب أشد من الذنب في
حضرة االله تعالى. ولھذا قد يبتلي االله سبحانه المؤمن بالمعصية لكي يصبح آمنا من العجب. وكذلك الرسول الأكرم
صلى االله عليه وآله وسلم يعتبر العجب من المھلكات.
وصورة ھذا السرو ـ 44 وفي أمالي الصوق، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: «مَنْ دَخَلَهُ العُجْب ھَلَكَ»
الحاصل من العجب ـ في البرزخ وما بعد الموت، تكون موحشة ومرعبة جدا، ولا نظير لھا في الھول. وأوضح ما
يشير إلى ذلك قول الرسول الأكرم صلى االله عليه وآله وسلم في وصيته لأمير المؤمنين عليه السلام: «ولا وَحْدَةَ
. سأل موسى ين عمران على نبينا وآله وعليه السلام الشيطان: «أَخْبَرْنِي بِالْذَّنْبِ الَّذي إِذَا 45 أَوْحَشَ من العُجْبِ»
. وقال: قال االله 46 ارتَكَبَهُ ابنُ آدَمِ إِسْتَحْوَذتَ عَلَيه، قال: إِذا أَعْجَبَتْهُ نَفْسُه، واسْتكْثَر عَمَلَهُ، وَصَغُر فِي عَيْنِه ذَنْبُه»
تعالى لداود عليه السلام: «يا داودَ بَشِّرِ المُذْنِبينَ وأُنْذِرِ الصِّدّيقِينَ» قال: يا ربّ كَيْفَ أُبَشِّر المُذْنِبينَ وأُنْذِر
الصِّدِّيقين؟ قال: «يا داود بَشِّر المُذْنبينَ أَنِي أَقْبَلُ التّوْبَةَ وأَعْفُو عَنِ الذَّنب. وأُنْذِرِ الصِّدِّيقينَ أَلاّ يُعْجِبُوا بِأَعْمالِھِمْ، فَإِنهُ
أعوذ باالله تعالى من المناقشة في الحساب التي تھلك الصديقين ومن ھو 47 لَيْسَ عَبْدٌ أَنْصِبُهِ لِلْحِسابِ إِلاّ ھَلَكَ»
أعظم منھم.
43
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العجب، ح 1 ص 212.
44
وسائل الشيعة، المجلد الأول، الباب 3 من أبواب مقدمة العبادات ح 18.
45
وسائل الشيعة، المجلد الأول، الباب 23 من أبواب مقدمة العبادات ح 8.
46
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان، باب العجب، ح 8.
47
خصال الصدوق، باب الثلاثة، ح 86.
31
ينقل الشيخ الصدوق في الخصال مسندا إلى الإمام الصادق أن الشيطان يقول: «إذا ظَفَرْتُ بِابنِ آدَمَ فِي ثَلاثٍ
48 فَلا يُھِمّنِي عَمَلَهُ بَعْدَ ذلِكَ لأنَّه لَنْ يُقْبَلَ مِنهُ: إِذا اسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ، وَنَسِيَ ذَنْبَهُ، وَتَسَرَّبَ إِلَيهِ العُجْبُ» !
.
يضاف على ما سمعت من مفاسد العجب، نه شجرة خبيثة، نتاجھا الكثير من الكبائر والموبقات. فعندما يتأصل
العجب في القلب، يجرّ عمل الإنسان إلى الكفر والشرك وإلى ما ھو أعظم من ذلك.
ومن مفاسده استصغار المعاصي. بل إن ذا العجب لا ينھض لإصلاح نفسه ويظن أن نفسه زكية طاھرة، فلا
يخطر على باله أبدا أن يطھرھا من المعاصي، لأن ستار الإعجاب بالنفس وحجابه الغليظ يحول بينه وبين أن يرى
معايب نفسه. وھذه مصيبة، إذ أنھا تحجز الإنسان عن جميع الكمالات، وتبتليه بأنواع النواقص، وتؤدي بعمل
الإنسان إلى الھلاك الأبدي، ويعجز أطباء النفوس عن علاجه...
ومن مفاسده الأخرى أنھا تجعل الإنسان يعتمد على نفسه في أعماله، وھذا ما يصبح سببا في أن يحسب
الإنسان الجاھل المسكين نفسه في غنى عن الحق تعالى، ولا يرى عليه فضل الحق تعالى، ويرى ـ بحسب
عقله الصغير ـ أن الحق تعالى ملزم بأن يعطيه الأجر والثواب، ويتوھم أنه حتى لو عومل بالعدل أيض ا لاستحق
الثواب، وسيأتي فيما بعد ذكر ھذا الأمر إن شاء االله.
ومن مفاسد العجب الأخرى، أن ينظر الإنسان باحتقار إلى عباد االله، ويحسب أعمال الناس لا شيء وإن كانت
أفضل من أعماله، فتكو ن ھذه النظرة وسيلة لھلاك الإنسان أيضاً، وشوكة في طريق خلاصه ونجاته.
ومن مفاسده الأخرى، أنه يدفع الإنسان إلى الرياء، لأن الإنسان بصورة عامة إذا استصغر أعماله ـ وجدھا لا
شيء ـ ووجد أخلاقه فاسدة، وإيمانه لا يستحق الذكر، وعندما لا يكون معجبا بنفسه ولا بصفاته ولا بأعماله، بل
وجد نفسه وجميع ما يصدر عنھا سيئاً وقبيحاً، لا يطرحھا ولا يتظاھر بھا، فإن البضاعة الفاسدة تكون سيئة وغير
صالحة للعرض. ولكنه إذا رأى نفسه كاملا وأعماله جيدة، فإنه يندفع إلى التظاھر والرياء، ويعرض نفسه على
الناس.
يجب اعتبار مفاسد الرياء المذكورة في الحديث الثاني من مفاسد العجب أيضا.
وھناك مفسدة أخرى ھي أن ذه الرذيلة تؤدي إلى رذيلة الكبر المھلكة، وتبعث على ابتلاء الإنسان بمعصية
التكبر ـ وسيأتي إن شاء االله ذكر الحديث عنھا فيما بعد ـ.
تنشأ من ھذه الرذيلة مفاسد أخرى أيضا بصورة مباشرة وغير مباشرة وشرح ذلك يوجب التفصيل. فليعلم
المعجب أن ھذه الرذيلة ھي بذرة رذائل أخرى، ومنشأ لأمور بشكل كل واحد منھا سببا للھلاك الأيدي والخلود
في العذاب. فإذا عرف ھذه المفاسد بصورة صحيحة ولاحظھا بدقة، ورجع إلى الأخبار والآثار الواردة بشأنھا عن
الرسول الأكرم صلى االله عليه وآله وسلم وأھل البيت ذلك القائد صلوات االله عليھم أجمعين، فمن المحتم أن
يعتبر الإنسان نفسه ملزما بالنھوض لإصلاح النفس، وتطھيرھا من ھذه الرذيلة واستئصال جذورھا من باطن
النفس، لئلا ينتقل لا سمح االله إلى العالم الآخر وھو بھذه الصفة، وإنه حينما يغمض عينيه المادية الملكوتية،
ويشرق عليه سلطان البرزخ والقيامة، يرى أن حال أھل كبائر المعاصي أفضل من حاله حيث غمرھم االله برحمته
الواسعة بسبب ندمھم أو بسبب ما كان لديھم من رجاء بفضل االله تعالى. وأما ھذا المسكين الذي رأى نفسه
مستقلا، وحسبھا في باطن ذاته غنية عن فضل االله، فيرى بأن االله تعالى حاسبه لذلك حسابا عسيرا، وأخضعه
لميزان العدل كما أراد، وأفھمه بأنه لم يقم بأية عبادة الله تعالى، وأن جميع عباداته أبعدته عن الساحة المقدسة،
وأن كل أعماله وإيمانه باطل وتافه. بل وأن تلك الأعمال والعبادات نفسھا ھي سبب الھلاك وبذرة العذاب الأليم
ورأس مال الخلود في الجحيم. الويل لمن يعامله الباري تعالى بعدله، فإذا ما عومل الناس مثل ھذا التعامل ما نجا
أحد من الأولين والآخرين. إن مناجاة صفوة االله ـ من الأنبياء والأئمة المعصومين صلوات االله عليھم ـ مشحونة
بالاعتراف بالتقصير والعجز عن القيام بالعبودية. وعندما يعلن رسول االله محمد صلى االله عليه
48
خصال الصدوق، باب الثلاثة، ح 86.
32
وآله وسلم أفضل الكائنات وأقربھا إلى االله قائلا: «مَا عَرَفناكَ حقَّ معْرِفَتِكَ وما عَبَدْناكَ حقَّ عِبادَتِكَ» فماذا
سيكون حال سائر الناس؟.. نعم إنھم العارفون بعظمة االله تعالى، العالمون بحقيقة نسبة «الممكن» إلى
«الواجب» إنھم يعلمون، أنھم لو قضوا جميع أعمارھم في الدنيا بالعبادة والطاعة والتحميد والتسبيح، لما أدّوا
شكر نعم االله، فكيف يمكن أداء حق الثناء على ذاته وصفاته المقدسة؟، إنھم يعلمون أن ليس لموجود شيء.
فالحياة والقدرة والعلم والقوة وسائر الكمالات الأخرى ھي ملك لكماله تعالى، و«الممكن» فقير، بل فقر محض
يستطل بظله تعالى، وليس بمستقل بذاته. أيّ كمالٍ يملكه «الممكن» بنفسه لكي يتظاھر بالكمال؟، وأية قدرة
يمتلكھا لكي يتاجر بھا؟ أولئك العارفون باالله وبجماله وجلاله شاھدوا شھود عيان نقصھم وعجزھم وشاھدوا كمال
«الواجب» تعالى، وإنما نحن المساكين الذين قد ران حجاب الجھل والغفلة والعجب والمعاصي على قلوبنا وقوالبنا
وغشى أبصارنا وأسماعنا وعقولنا وكافة قوانا المدركة بحيث أخذنا نستعرض عضلاتنا في مقابل قدرة االله القاھرة،
ونعتقد أن لنا استقلالاً وشيئية بذواتنا.
أيھا «الممكن» المسكين الجاھل بنفسك وبعلاقتك باالله!، أيھا «الممكن» السيّئ الحظ الغافل عن واجباتك
إزاء مالك الملوك! إن ھذا الجھل ھو سبب جميع ما يلحقك من سوء التوفيق، وھو الذي ابتلانا بجميع ھذه
الظلمات والمكدّرات. أن الفساد قد ينشأ من الأساس، وأن تلوّث الماء قد يكون من المعين. إن عيون معارفنا
عمياء، وقلوبنا ميته، وھذا سبب جميع المصائب ولكننا مع كل ذلك لسنا حتى بصدد إصلاح أنفسنا!.
اللھم تفضل علينا بتوفيق التوبة، وعرفنا أنت بواجباتنا، وتفضل علينا بنصيب من أنوار معارفك التي ملأت بھا
قلوب العرفاء والأولياء، أظھر لنا إحاطة قدرتك وسلطتك، وعرفنا بنواقصنا. فھّمْنا نحن الماكين الغافلين الذين ننسب
جميع المحامد إلى الخلق فَھّمنا معنى «الحمدُ الله رّبِّ العالَمِينَ» عرّف قلوبنا بأن ليست ھناك محمدة من
. أدخل كلمة 49 مخلوق. أظھر لنا حقيقة {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ...}
التوحيد إلى قلوبنا القاسية الكدرة، نحن أھل الحجاب والظلمة، وأھل الشرك والنفاق، نحن الأنانيون، عبّاد
النفس، المعجبون بھا، أخرج من قلوبنا حب النفس وحب الدنيا، واجعلنا عشّاقاً الله وعبّاداً لك {إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ
قَدِير}.
فصل: في بيان أن حُبّ النفس أساس العُجْب
اعلم أن رذيلة العُجب تنشأ من حب النفس، لأن الإنسان مفطور على حب الذات، فيكون أساس جميع
الأخطاء والمعاصي الإنسانية والرذائل الأخلاقية، حب النفس. ولھذا فإن الإنسان يرى أعماله الصغيرة كبيرة، وبذلك
يرى نفسه من الصالحين ومن خاصة االله ويرى نفسه مستحقاً للثناء ومستوجباً للمدح على تلك الأعمال الحقيرة
التافھة. بل ويحدث أحياناً أن تلوح لنظرة قبائح أعماله حسنة وإذا ما رأى من غيره أعمالا أفضل وأعظم من أعماله
فلا يعيرھا أھمية، ويصف أعمال الناس الصالحة بالقبح، وأعماله السيئة القبيحة بالحسنة. يسيء الظن بخلق االله
ولكنه يحسن الظن بنفسه، وبسبب حبه لنفسه يرى بعمله الصغير الممزوج بآلاف القذارات المبعدة عن االله، أن
االله مدين له وأنه يستوجب منه الرحمة.
فلنفكر الآن قليلا في أعمالنا الصالحة ولنحكِّم العقل قليلا في الأفعال العبادية الصادرة عنّا، ولننظر إليھا بعين
الإنصاف، لنرى ھل أننا نستحق بھا المدح والثناء والثواب والرحمة، أو أننا جديرون باللوم والعتاب والغضب والنقمة؟
وإذا ما أحرقنا االله بسبب ھذه الأعمال، التي نراھا حسنة، بنار القھر والغضب ألا يكون ذلك عدلاً؟...
إني أحكّمكم في ھذا السؤال الذي أطرحه، أريد منكم الجواب عليه بإنصاف ـ بعد إعمال الفكر والتأمل ـ.
والسؤال ھو أنه إذا أخبركم الرسول الأكرم صلوات االله عليه وآله وسلم، وھو الصادق المصدق، إنكم إذا عبدتم االله
طوال عمركم وأطعتم أوامره وتركتم شھوات النفس ورغباتھا، أو تركتم عبادته وعملتم على خلاف توجيھاته
سبحانه وتعالى وعلى أساس رغبات النفس وشھواتھا طيلة حياتكم، إذا أخبركم الرسول صلى االله عليه وآله
وسلم بأنكم سيّان ـ في كلتا
49
النساء، آية: 79.
33
الحالتين ـ لن تختلف درجاتكم في الآخرة إنكم على كل حال الناجون وستذھبون إلى الجنة وتأمنون من
العذاب، فلا فرق ـ حسب الفرض ـ بين أن تصلوا أو تزنوا، ولكن مع ذلك يكون رضا االله تعالى في عبادته والثناء عليه
وحمده، والابتعاد عن الشھوات والرغبات النفسانية في ھذا العالم، مع عدم الإثابة على الطاعة. فھل كنتم
تصبحون من أھل المعصية أو من أھل العبادة؟ ھل كنتم تتركون الشھوات وتحرمون على أنفسكم اللذات
النفسانية من أجل رضا االله تعالى والرغبة فيه، أو لا؟ ھل كنتم باقين من المتوسلين إليه تعالى بالمستحبات
والجمعة والجماعات؟ أو كنتم تغرقون في الشھوات وتلازمون اللھو واللعب والملاھي وغير ذلك؟ أجيبوا بإنصاف
ودون تظاھر ورياء. إنني أعلن عن نفسي وعمن ھو على شاكلتي بأنّا كنّا نصبح من أھل المعصية ونترك الطاعات
ونعمل بالشھوات النفسانية.
وبعد ما تقدم نستنتج أن جميع أعمالنا ھي من أجل اللذات النفسانية ومن أجل الاھتمام بالبطن والفرج. إننا
عُبّاد للبطن وعُبّاد للشھوة، ونترك لذة صغيرة، للذة أعظم وإن وجھة أنظارنا وقبلة آمالنا ھي فتح بساط الشھوة.
إن الصلاة التي ھي معراج القرب إلى االله نؤديھا قربة لنساء الجنة ولا علاقة لھا بالقرب إلى االله، ولا علاقة لھا
بطاعة الأمر، وھي بعيدة آلاف الفراسخ عن رضا االله.
أيھا المسكين الغافل عن المعارف الإلھية، يا من لا تھم سوى إرادة شھوتك وغضبك، أنت المتوسل بالأذكار
والأوراد والمستحبات والواجبات، والتارك للمكروھات والمحرّمات والمتخلق بالأخلاق الحسنة، والمتجنب لسيئات
الأخلاق، ضع أعمالك أمام عين الإنصاف، أتقوم بھا لأجل الوصول إلى الشھوات النفسانية والجلوس على سرر
مطعّمة بالزبرجد، ومعانقة الضحوكات والدعوبات في الجنة، ارتداء الحرير والإستبرق، والسكنى في القصور الفارھة
الجميلة، والوصول إلى الأماني النفسية؟ أفينبغي أن تمن بھذه الأعمال على االله وھي جميعا لأجل النفس ومن
أجل عبادتھا، وتعدّھا عبادة الله؟ ھل يختلف حالكم عن ذلك الأجير الذي ينجز عملا من أجل الأجر، ثم يقول: إنني
أنجزت ذلك العمل لأجل صاحب العمل فحسب؟ أفلا تكذبوه؟
ألستم كاذبين حينما تقولون: إننا نصلّي تقرباً إلى االله تعالى؟ ألأجل التقرب
إلى االله ھذه الصلاة أو لأجل التقرب لنساء الجنة وإشباع الشھوة؟ أقولھا صراحة، إن جميع عباداتنا ھذه لھي
من كبائر الذنوب عند العرفاء باالله وأولياء االله.
أيھا المسكين! أنت في حضرة االله جلّ جلاله، وفي محضر الملائكة المقربين، تعمل خلاف رضا االله تعالى،
والعبادة التي ھي معراج القرب من االله، تؤديھا لأجل النفس الأمّارة بالسوء ولأجل الشيطان، وعندھا لا تستحي
أن تكذب في العبادة عدة أكاذيب في حضرة الربّ والملائكة المقربين وتفتري عدة افتراءات، وتمنّ وتعجب وتتدلل
أيضا، ولا تخجل بعد كل ذلك! بماذا تختلف عبادتي ھذه وعبادتك عن معصية أھل العصيان، وأشدھا الرياء؟ فالرياء
شرك وقبحه ناشئ من أنك لم تؤد العبادة لأجل االله. جميع عباداتنا شرك محض ولا أثر فيھا للخلوص والإخلاص،
بل حتى أن رضا االله لا يشترك في الدافع إلى إنجاز ھذه العبادة فھي لأجل الشھوات وإعمار البطن والفرج
فحسب.
أيھا العزيز، إن الصلاة التي تكون لأجل المرأة، سواء أكانت في الدنيا أم في الجة، لا تكون الله، الصلاة التي
تكون من أجل الحصول على أمال الدنيا أو آمال الآخرة، لا علاقة لھا باالله فلماذا إذاً تتدلل إلى ھذا الحد، وتنظر إلى
عباد االله بعين الاحتقار، وتحسب نفسك من خواص االله تعالى؟ أيھا المسكين! أنت بھذه الصلاة مستحق للعذاب
ومستوجب لسلسلة طولھا سبعون ذراعا. فلماذا إذاً تحسب نفسك دائناً الله، وتھيأ لنفسك بھذا التدلل والعُجْب
عذابا آخر؟ أعمل الأعمال التي أُمرت بھا، واعلم أنھا ليست لأجل االله، واعلم أن االله يدخلك الجنة بتفضله وترحمه،
وأن االله تعالى خفف عن عباده لضعفھم بالتجاوز عن نوع من الشرك وأسدل عليه بغفرانه ورحمته حجاب ستره،
فحاذر أن يتمزق ھذا الحجاب وليبق حجاب غفران االله على ھذه السيئات التي أسميناھا عبادة. فإذا حدث لا
سمح االله أن انطوت صفحتك ھذه ورحلت من ھذه الدنيا وجاءت صفحة العدل فإن عفونة عبادتنا عندئذ لن تقل
عن عفونة المعاصي وال موبقات التي يرتكبھا أھل المعصية. وقد أشرنا فيما مضى إلى حديث ينقله ثقة الإسلام
34
الكليني في كتاب (الكافي) بسنده إلى الإمام الصادق عليه السلام، وھنا ننقل قسماً من ھذا الحديث بنصه
تبركاً وتيمناً: عن أبي عبد االله عليه السلام قال: قال رسول االله صلى االله عليه وآله وسلم قال االله عزّ وجلّ لداود
عليه السلام: {يا داودُ بَشِّر المُذْنِبينَ وَأَنْذِرِ الصِّدِّيقينَ. قال: كَيْفَ أُبَشِّرُ المُذْنِبينَ وَأُنْذِرُ الصِّدِّيقينَ؟ قال يا داوُدُ بَشِّرِ
المُذْنِبينَ أنّي أَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَأَعْفُو عَنِ الذَّنْب وَأَنْذِرِ الصِّدّيقينَ أَنْ لا يُعْجِبُوا بِأَعْمالِھِم فَإِنّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَنْصِبُهُ لِلْحِسابِ إلاّ
50 ھَلَكَ}
. لأنه مستحق للعذاب وفق العدالة فإن ثواب عبادات العبد لا تعادل شكر واحد من نعمائه.
فإذا علمت الصديقين، على الرغم من أنھم مُطھَّرون من الذنب والمعصية، جميعاً ھالكون في الحساب، فماذا
نقول أنا وأنتم؟... ھذا كله عندما تكون أعمالي وأعمالكم خالصة من الرياء الدنيوي ومن الموبقات والمحرمات وقلما
يحصل لنا خلوص عمل من الرياء والنفاق.
وعليه إذا استدعى العمل العُجب والتدلل والتغنج، فافعل. وإذا أستدعى الخجل والتذلل والاعتراف بالتقصير
فيجب عليك بعد كل عبادة أن تنوب من تلك الأكاذيب التي قلتھا في حضرة االله تعالى، ومما نسبته إلى نفسك
دون دليل. ألا ترى أن عليك أن تنوب من قولك وأنت تقف أمام االله قبل الدخول في الصلاة: {إِنِّي وَجَّھْتُ وَجْھِي
، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ 51 لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}
. فھل وجوھكم متوجھة إلى فاط ر السماوات والأرض؟ ھل أنتم مسلمون وخالصون من الشرك؟ ھل 52 الْعَالَمِينَ}
صلاتكم وعبادتكم وحياتكم ومماتكم الله؟ ألا يبعث على الخجل ـ بعد ھذا ـ أن تقولوا في الصلاة [الحمدُ الله رَبِّ
العالمين]؟ فھل حقا تقرّون بأن المحامد كلھا الله؟، في حين أنك تقرّون بالحمد لعبادة، بل ولأعدائه؟، أليس قولكم
[ربّ العالمين] يكون كذبا لأنكم تقرون في الوقت نفسه بالربوبية لغيره تعالى في ھذا العالم، أفلا يحتاج ذلك إلى
التوبة والخجل؟. وحينما تقول {إيّاك نَعْبُدُ وإيّاك نَسْتَعينُ} فھل تراك تعبد االله أم تعبد بطنك وفرجك؟ ھل أنت تطلب
االله أو الحور العين؟ ھل تطلب العون من االله فقط؟ إن الشيء الذي لا يأخذ بعين الاعتبار في الأعمال ھو االله،
وأنت إذا ذھبت إلى زيارة بيت االله، فھل أن مقصدك ومقصودك ھو االله، وأن مطلبك ومطلوبك ھو صاحب البيت؟
وھل قلبك مترنم بقول الشاعر:
وما حُبُّ الديار شغفنَ قَلبي *** ولن حُبُّ من سكنَ الديارا
أباحثٌ أنت عن االله؟ أتطلب آثار جمال االله وجلاله؟ ألأجل سيد المظلومين تقيم العزاء؟ ألأجله عليه السلام
تلطم على رأسك وصدرك أم لأجل الوصول إلى آمالك وأمانيك؟ أھي بطنك التي تدفعك لإقامة مجالس العزاء،
وشھوة الظھور ھي التي تدفعك للذھاب إلى صلاة الجماعة، وھوى النفس ھو الذي يجرك للمناسك والعبادة؟.
فيا أيھا الأخ، كن حذرا تجاه مكائد النفس والشيطان، وأعلم أنه لن يدعك أيھا المسكين بأن تؤدي عملا واحدا
بإخلاص، وحتى ھذه الأعمال غير الخالصة التي تقبّلھا االله تعالى منك بفضله، لا يدعك ـ الشيطان ـ أن تصل بھا
إلى الھدف فيعمل عملاً تحبط به أعمالك كلھا، وتخسر حتى ھذا النفع بسبب ھذا العجب والتدلل في غير
موقعه. وبغض النظر عن بُعد الوصول إلى االله ورضاه، فإنك لن تصل إلى الجنة ولا إلى الحور العين، بل تخلد في
العذاب وتعذب بنار الغضب كذلك.
أنت تظن أنك ب ھذه الأعمال المتفسخة المتعفنة الھزيلة الممزوجة بالرياء وطلب السمعة وألف مصيبة أخرى
التي تحول دون قبول العبادات كلھا، تظن إنك بھا تستحق الأجر مَن الحق تعالى أو أنك أصبحت بھا من المحبين
والمحبوبين. أيھا المسكين الجاھل بأحوال! يا سيئ الحظ الذي لم يطلع على قلوب المحبين، وعلى لھب شوقھا
تجاه الحق سبحانه، أيھا المسكين الغافل عن حرقة المخلصين ونور أعمالھم! أو تظن أن أعمالھم أيضا مثل
أعمالي وأعمالك؟ أوَ تتوھم أن ميزة صلاة أمير المؤمنين عليه السلام عن صلاتنا أنه عليه السلام كان يمدّ
«الضالّين» أكثر أو أن قراءته أصحّ أو أن سجوده أطول وأذكاره وأوراده أكثر؟ أو أن ميزة ذلك الرجل العظيم في أنه
50
الكافي، المجلد الثاني، باب العجب، ح1 ص 314.
51
سورة الأنعام، الىية: 79 ،الآية: 162.
52
سورة الأنعام، الىية: 79 ،الآية: 162.
35
كان يصلّي عدة مئات من الركعات ليلياً؟ أو تظن أن مناجاة سيد الساجدين علي بن الحسين ھي مثل مناجاتي
ومناجاتك؟ وإنه كان
يتحرق ويتضرع بتلك الصورة من أجل الحور العين والكمثرىوالرمان من نعم الجنة؟.
أقسم به صلوات االله وسلامة عليه {وإِنَّهُ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ} لو أن المحبين كان بعضھم ظھيرا للبعض الآخر، وأرادوا
أن يتفوھوا بكلمة (لا إله إلا االلهَ) مرة واحدة بمثل ما كان يقولھا أمير المؤمنين عليه السلام لما استطاعوا. فكم
أكون تعيساً وشقيا أن لا أكون على خطى علي عليه السلام وأنا من العار فين لمقام ولاية علي عليه السلام؟.
أقسم بمقام علي بن أبي طالب عليه السلام، لو أن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين ـ عدا الرسول
الخاتم الذي يكون مولى علي وغيره ـ أرادوا أن يكبروا مرة واحدة، تكبيرا على غرار ما كان يكبر علي عليه السلام،
لما استطاعوا. وأما الوقوف على قلوبھم فلا يعرف أحد شيئا إلا حملة تلك القلوب وأصحابھا!.
فيا أيھا العزيز! لا تتباھى بقربك من االله ولا تبالغ في حبك له، أيھا العارف، أيھا الصوفي، أيھا الحكيم، أيھا
المجاھد، أيھا المرت اض، أيھا الفقيه، أيھا المؤمن، أيھا المقدس، أيھا المساكين المبتلون يا سيئي الحظ
المغلوبين بمكائد النفس وھواھا، أيھا المساكين المبتلون بالآمال والأماني وحب النفس، كلكم مساكين، كلكم
بعيدون فراسخ عن الإخلاص وعبادة االله، لا تحسنوا الظنّ بأنفسكم إلى ھذا الحد، لا تتغنجوا ولا تتدللوا. اسألوا
قلوبكم: ھل تبحث عن االله، أم تريد ذاتھا؟ ھل ھي موحدة وتطلب الواحد أم مشركة وتعبد أثنين؟ فماذا يعني إذاً
كل ھذا العُجب؟ ماذا يعني إذاً التعالي بالعمل إلى الحد؟ وھو إذا صحّت جميع أجزائه وشروطه وخلا من الرياء
والشرك والعُجْب وباقي المفسدات، فھدفه الوصول إلى إشباع شھوات البطن والفرج، فما قيمته كي تنقله
الملائكة؟ ھذه الأعمال من القبائح والفجائع، وينبغي للإنسان أن يخجل منھا ويسترھا...
إلھي... بك نعوذ نحن المساكين من شر الشياطين والنفس الأمارة بالسوء، اللھم فاحفظنا من مكائدھم بحق
محمد وآله.
الحَديث الرَابع: الكبر
بالسند المتّصل إلى محمّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراھيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن أبان، عن
53 حكيم، قال: «سألت أبا عبداالله ـ عليه السلام ـ عَنْ أَدْنَى الإِلْحَادِ، فَقَاَل: الكِبْرُ أَدْنَاهُ»
.