وفي وصايا رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم لأبي ذر: يَا أبَا ذَرٍّ، وَيْلٌ لِلَّذي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ،
509 وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ
.
وبعد عرض ھذه الأخبار الشديدة والمنقولة عن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين
عليھم السلام، لا بد من الجرأة الكبيرة والشقاء المضاعف، حتى يقدم الإنسان على ھذا الأمر الخطير، والمعصية
الكبيرة. وكما أن الكذب قد عُدّ من المفاسد الخطيرة جداً، اعتبر صدق اللھجة والاستقامة في الحديث، مھمّاً جداً،
وأُثنى عليه في أخبار أھل البيت ثناءاً بليغاً. ونحن نكتفي بذكر بعضھا:
محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي عبد االله عليه السّلام قال: كُونُوا دُعاةً لِلنّاسِ بِالخَيْرِ بِغَيْرِ ألْسِنَتِكُمْ، لِيَرَوْا
510 مِنْكُمُ الاجْتِھَادَ وَالصِّدْقَ وَالوَرَعَ
.
وقال الصدوق رحمة االله بسنده إلى رسول االله قالَ: قالَ رَسُولُ االلهِ صَلَّى االلهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسلّم: إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِني
511 غداً وَأوْجَبَكُمْ علَّي شَفَاعَةً، أصْدَقَكُمْ لِسَاناً، وأدَّاكم لِلأمَانةِ وَأحْسَنَكُمْ خُلُقاً وَأقْرَبَكمُ ْمِنَ النَّاسِ
.
فصل: في حقيقة الورع ومراتبه
يتحدث ھذا الفصل عن الورع، وأنه قد عُدَّ من منازل السالكين والسائرين إلى االله سبحانه، وعُرِّف حسب ما
نقل العارف المعروف خواجة عبداالله الأنصاري «ھُوَ تَوَقٍّ مُسْتَقْصىً عَلَى حَذَرٍ أَوْ تَحَرُّجٌ عَلَى تَعْظِيمٍ». وھذا التعريف
يشمل كافة مراتبه، لأن للورع مراتب كثيرة: فورع العوام، الاجتناب عن الكبائر، وورع الخواصّ الابتعاد عن الشبھات
. وورع أھل الزھد الاجتناب عن 512 خشية الوقوع في المحرمات كما أشير إليه في حديث التثليث الشريف
المباحات للابتعاد عن وزرھا. وورع أھل السلوك ترك النظر إلى الدنيا لأجل الوصول إلى المقامات. وورع المجذوبين،
ترك المقامات لأجل الوصول إلى باب االله، ومشاھدة جمال االله. وورع الأولياء، الاجتناب عن التوجّه إلى الغايات.
ولكل واحدة من ھذه المراتب شرح لا يجدينا الإسھاب فيه. وما يجب أن نعرفه ھنا ھو:
أن الورع عن المحرّمات الإلھية يكون على أساس جميع الكمالات المعنوية، والمقامات الأخروية. ولا يحصل
لأحد مقامُ إلا عند الورع عن محرّمات االله. وإن القلب الذي لا يتحلّى بالورع، ليصدأ، وليبلغ به الأمر إلى مستوى لا
يُرجى له النجاة. إن الورع يوجب صفاء النفوس وجلائھا، وأنه يكون من أھمّ المنازل لدى العوام، ويعتبر من أفضل
505
وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الباب 138 ،باب تحريم الكذب، أبواب أحكام العشرة، ح 11 و12.
506
وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الباب 140 ،باب تحريم الكذب في الصغير والكبير والجد والھزل عدا ما استثنى.
507
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح 2.
508
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الكذب، ح 11.
509
وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة ح 4 ص 577.
510
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصدق وأداء الآثار، ح 10.
511
أمالي الشيخ الصدوق المجلس 76 ص 411 طباعة الأعلى.
وسائل الشيعة، المجلد 18 ،الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح9 عن أبي عبد االله في حديث قال: وإنما الأمور ثلاثة أمر بين غيّة 512
فيجتنب وأمر مشكل يردّ علمه إلى االله وإلى رسوله قال رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلّم: حلال بيّن وحرام بيّن وشبھات بين ذلك فمن
ترك الشبھات نجا من المحرمات.
201
زاد المسافر نحو الآخرة. وقد ورد في فضله حسب أحاديث أھل بيت العصمة عليھم السّلام أكثر مما يسعه ھذا
الكتاب. ونحن نكتفي بذكر بعض ھذه الأحاديث. يرجع الباحث لأكثر من ذلك، إلى كتب الأخبار.
الكافي: بإسناده عن أبي عبد االله عليه السّلام قالَ: أوصيكَ بِتَقْوَى االلهِ وَالْوَرَعِ وَالاجْتِھَادِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ
513 اجْتِھَادٌ لاَ وَرَعَ فِيهِ
.
وبھذا المضمون رواية أخرى أيضاً. وھذا شاھد على أن العبادات تتساقط عن الاعتبار، إذا كانت خالية من الورع.
ومن المعلوم أن الغاية المنشودة من العبادات التي ھي ترويض النفس، ولجمھا، وقھر الملكوت للمُلك والطبيعة،
لا تحصل إلاّ بواسطة الورع الشديد، والتقوى الكاملة.
ثم إن النفوس المدنسة بالمعصية، لا تقبل صورة ولا رسماً إلا بعد تنظيفھا من الكدر وتطھيرھا من القذارة،
حتى يتمكن الرسّام من الرسم فيھا. فالعبادات التي ھي الصور الكمالية للنفس، لا تنفع من دون صقلھا من غبار
المعصية، وإنما تكون صورة من دون لبّ وظاھراً من دون روح.
وبإسناده عن يزيدَ بنِ خَليفَةَ قالَ: وَعَظَنا أبو عبد االله عليه السّلام فَأَمَرَ وَزَھَّدَ ثُمَّ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالوَرَعِ فَإِنَّهُ لاَ
514 يُنالُ مَا عِنْدَ االلهِ إلاّ بِالوَرَعِ»
.
فبموجب ھذا الحديث الشريف، أن الإنسان الذي لا ورع له، يكون محروماً من الكرامات التي وعدھا االله لعباده.
وھذا الحرمان من أعظم الخذلان والشقاء. وفي الوسائل مسنداً إلى الإمام الباقر عليه السّلام في حديث: «لاَ
515 تُنالُ وِلاَيَتُنَا إِلاّ بِالعَمَلِ وَالوَرَعِ»
.
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق ثم (... قالَ يا عِيسى بن عَبْد االلهِ لَيْسَ مِنَّا وَلا كَرامَةُ مَنْ كانَ فِي مِصْرٍ فِيه
516 مائَةُ ألْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ وَكانَ في ذَلكَ المِصْر أحَدٌ أوْرَع مِنْه)
.
ولا بد من معرفة أن المقياس في كمال الورع على ضوء الروايات الشريفة، ھو الاجتناب عن محرمات االله، وأن
كل من يبتعد عن المحرمات الإلھية أكثر، يُعدّ من أروع الناس طراً. فينبغي أن لا يستغل الشيطان ھذا الموضوع ـ
ليس منا وفي مصر مائة ألف يوجد أحد أروع منه ـ ويعظمه، ويلقي اليأس في القلب، لأن من طبيعة ھذا الملعون
دفع الإنسان إلى الشقاء الأبدي من خلال اليأس، بأن يقول له في المقام مثلاً: كيف يمكن أن يكون أروع إنسان
في بلد يحتضن مائة ألف أو يزيدون من الناس؟ فإن ھذا من أساليب كيد ھذا اللعين، ووساوس النفس الأمارة.
ولكن جوابه ھو أن من ابتعد عن المحرمات الإلھية يندرج في ھذا الروايات، حسب ما يستفاد من الأحاديث
المباركة، ويعتبر من أورع الناس.
ثم إن الابتعاد عن المحرمات الإلھية، لا يستدعي جھداً جباراً، بل الإنسان مع قليل من الترويض النفسي
والعمل، يستطيع أن يترك جميع المحرمات، شريطة إرادته على أن يكون من أھل السعادة والنجاة، ومن أھل
الولاية للأئمة الأطھار وكرامة الحق المتعالى. وإذا لم يكن له صبر على المعصية، بھذا المقدار، لما تحقق له البعد
عن المعصية. أنه يجب أن يتمتع بقدر من الجلادة والإصرار والترويض النفسي.
تتميم: في بيان مفاسد الخيانة وحقيقة الأمانة
توجد في المقام نكتة لا بد من الإشارة إليھا، وھي أن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم بعد أن أوصى
بالورع فرع عليه قائلا (وَلا تَجْتَرِىء عَلَى خِيانَةٍ أبَدَاً) مع أن الورع يكون عن كل المحرمات، أو يكون أعم من الخيانة،
وعليه لا بد من تَفسير الخيانة بمعنى أعم من التفاھم العرفي لھا، حتى تتطابق مع الورع، بأن نقول إن مطلق
المعصية أو اقتراف مطلق ما يمنع السير إلى االله خيانة، لأن التكاليف الإلھية أمانات للحق سبحانه كما ورد في
. الخ. حيث فسّر بعض المفسرين الأمانة بالتكاليف 517 الآية الكريمة (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)
الإلھية، بل إن جميع الأعضاء، والجوارح والقوى، أمانات للحق المتعالى واستعمالھا على خلاف رضا الحق
513
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان، باب الورع، ح11.
514
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان، باب الورع، ح 3.
515
وسائل الشيعة، المجلد 11 ،باب 21 من أبواب جھاد النفس ح17و11.
516
وسائل الشيعة، المجلد 11 ،باب 21 من أبواب جھاد النفس ح17و11.
517
سورة الأحزاب، آية: 72.
202
سبحانه، خيانة، كما أن توجيه القلب إلى غير الحق يعدّ من الخيانة. بيت شعر: ھذه الروح التي أعارھا لي
الصديق الحميم سأرجعھا إليه في اليوم الذي أرى وجھه. أو أن المقصود من الخيانة نفس المعنى المتعارف،
ويكون وجه التخصيص بذكرھا لأجل شدة الاھتمام بالخيانة، فكأنّ الورع كل الورع ھو الابتعاد عن خيانة الأمانة.
ومن يرجع إلى أخبار المعصومين عليھم السّلام المأثورة في ردّ الأمانة والابتعاد عن الخيانة، لأدرك حجم
اھتمام الشارع المقدس بھذا الموضوع. ويضاف إلى ذلك ھو أنّ قبحھا الذاتي لا يخفى على أحد. وأنه يجب إخراج
الإنسان الخائن من المجتمع البشري، وإلحاقه بأرذل الشياطين. ومن المعلوم أن الإنسان الذي يشتھر بين الناس
بالخيانة، تضيق عليه الحياة وتصعب، حتى في ھذا العالم أيضاً.
إنّ البشر بصورة عامة يعيشون مع بعضھم البعض في ظلّ التعاون والتعاضد حياة سعيدة، ولا يمكن لأحد،
الحياة بصورة منفردة، إلاّ إذا غادر المجتمع البشري والتحق بالحيوانات الوحشية. ثم إن العجلة الكبيرة التي تدور
لتحريك الحياة الاجتماعية، ھي اعتماد الناس بعضھم على بعض، فإذا زال الاعتماد وتلاشت الثقة، لما تمكّن
الإنسان أن يعيش ھنيئاً رغيداً. إن الركيزة الأساسية للاعتماد المتبادل بين الناس قائمة على الأمانة وترك
الخيانة، فلا يحظى الخائن، بالاطمئنان لدى الناس ويعدّ مارقاً على المدينة وخارجاً عن العضوية للمجتمع البشري
وتكون عضويته مرفوضة لدى أصحاب المدينة الفاضلة. ومن الواضح أن مثل ھذا الإنسان يعيش حياة ضنك وفي
صعوبة بالغة.
ونحن لأجل تتميم الفائدة، نذكر في ھذا الباب بعض الأحاديث المنقولة عن أھل بيت العصمة عليھم السلام،
إذ تكتفي بھا القلوب الواعية، والأعين الباصرة.
محمّد بن يعقوب بإسناده عن أبي عبداالله عليه السّلام قال: لاَ تَنْظُرُوا إلى طولِ رُكوعِ الرَّجُلِ وَسُجُودِهِ فَإِنَّ ذلِكَ
.
شَيْءٌ اعْتَادَهُ فَلَوْ تَرَكَهُ اسْتَوْحَشَ لِذَلِكَ، وَلكِنِ انْظُرُوا إِلَى صِدْقِ حَدِيثِهِ وَأَدَاءِ أَمَانَتِهِ518
وبإسناده عن أبي كَھْمَسٍ قالَ: قُلْتُ لأبِي عَبْدُااللهِ عليه السّلام: عبَدْااللهُ بْنُ أبِي يَعْفورٍ يُقْرئُكَ السَّلاَمَ. قالَ:
«عَلَيْكَ وَعَلَيْهِ السَّلامُ، إذا أَتَيْتَ عَبْدَااللهِ فَأَقْرِئُهُ السَّلامَ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ لَكَ، انْظُرْ مَا بَلَغَ بِهِ عَلِيٌّ
عِنْدَ رَسولِ اللِه صلّى االله عليه وآله وَسَلم فَالْزَمْهُ، فَإِنَّ عَلِياً عليه السّلام إِنَّما بَلَغَ بِهِ عِنْدَ رَسولِ االلهِ بِصِدْق
519 الحَديثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ»
.
فيا عزيزي: تدبّر في ھذا الحديث الشريف، وانظر إلى أن مقام صدق الحديث وأداء الأمانة دفعا بعلي بن أبي
طالب عليه السّلام إلى بلوغ ذلك المقام الرفيع.
ويفھم من ھذا الحديث أن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم كان يحبّ ھاتين الخصلتين أكثر من غيرھما،
لأن ھاتين الصفتين من الصفات الكمالية لمولانا علي بن أبي طالب عليه السّلام قد بلغتا به ذلك المقام الرفيع،
وإن الإمام الصادق عليه السّلام قد أبدى اھتماماً بھاتين الصفتين أكثر من كل الأفعال والأوصاف، وذكّر عليه
السّلام ابن أبي يعفور الذي ھو من المخلصين والمقربين له عليه السّلام بھما خاصة.
وبإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قالَ أبو ذَرٍّ رَضي االلهُ عَنْهُ ـ سَمِعْتُ رَسُولَ االلهِ صَلَّى االلهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلم يَقُولُ: حافَّتا الصِّراط يَوْمَ القِيَامَةِ الرَّحِمُ والأمانَةُ، فَإِذَا مَرَّ الوصولُ لِلرَّحِمِ المُؤَدِّي لِلأَمَانَةِ نَفَذَ إلَى الجَنَّةِ، وَإِذَا
520 مَرَّ الخَائِنُ لِلأَمَانَةِ القَطُوعُ لِلرَّحِمِ لَمْ يَنْفَعْهُ مَعَھُمَا عَمَلٌ وَتَكْفَأُ بِهِ الصِّراطُ فِي النّار
.
فعلم بأن صورتي الرحم والأمانة في ذلك العالم تقفان على طرفي الطريق، وتعينان من يصل رحمه ويؤدي
أمانته، ومع تركھما لا يفيدنا أي عمل آخر وإنما بتركھا يھوي الإنسان في النار.
وبإسناده عن أبي عبد االله عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «أَدُّوا الأمانَةَ وَلَوْ إِلَى قَاتِلِ وَلَدِ
الأَنْبِياءِ.
518
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصدق وأداء الأمانة، ح12.
519
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصدق وأداء الأمانة، ح5.
520
كتاب فروع الكافي، المجلد الخامس، باب أداء الأمانة، ح 3و 4.
203
وبإسناده عن أبي عبد االله عليه السّلام في وصيَّتِهِ لَهُ: اعْلَمْ أنَّ ضَارِبَ عَلِيٍّ عليه السّلام بِالسَّيْفِ وَقَاتِلَهُ لَو
521 ائتَمَنَني وَاسْتَنْصَحَنِي وَاسْتَشَارَنِي ثُمَّ قَبِلْتُ ذلِك مِنْهُ لأَدَّيْتُ إِلَيْهِ الأَمَانَة
.
ومحمّد بن عليٍّ بن الحسين بإسناده عن أبي حمزة الثماليِّ قالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ العَابِدِينَ عَليَّ بنَ الحسينِ
بن أبي طالب عليه السّلام يَقُولُ لِشِيعَتِهِ: عَلَيْكُمْ بِأَدَاءِ الأَمَانَةِ فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً صلّى االله عليه وآله وسلم
522 بِالحَقِّ نَبِيّاً لَوْ أَنَّ قَاتِلَ أَبِي الحُسَيْنِ بْنِ عَلَيٍّ عليھما السّلام ائْتَمَنَني عَلَى السَّيْفِ الَّذِي قَتَلَهُ بِهِ لأَدَّيْتَهُ إِلَيْهِ»
.
وبإسناده عن الصادق عليه السّلام عن آبائه عليھم السّلام عن النَّبيِّ صلّى االله عليه وآله وسلم في حديثِ
المَناھى أَنَّهُ نَھَى عَنِ الخِيَانَةِ وَقالَ: «مَنْ خَانَ أَمَانَةً فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَرُدَّھَا إِلَى أَھْلِھَا ثُمَّ أَدْرَكَهُ المَوْتُ مَاتَ عَلَى غَيْرِ
523 مِلَّتِي وَيَلْقَى االلهَ وَھُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ وَمِنَ اشْتَرَى خِيَانَةً وَھُوَ يَعْلَمُ فَھُوَ كَالَّذِي خَانَھَا»
.
وتوجد بھذا المضمون أحاديث أخرى مذكورة في كتب الأخبار. ويعرف الجميع مضاعفات سخط الذات المقدس
الحق وغضبه على البعد. كما أنه من المعلوم أن الشفعاء، لا يشفعون لمن ھو مغضوب عليه لدى الحق سبحانه.
وخاصة أن الخائن يكون خارجاً أيضاً عن أمة رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم. ففي حديث آخر (لَيْسَ مِنَّا مَنْ
وفي حديث ثالث عن النبيِّ صلّى االله عليه وآله وسلم مَنْ خَانَ أَمَانَة فِي الدُّنيَا وَلَمْ يَرُدّھا عَلَى 524 خَانَ مُؤمِناً)
أَھْلِھَا مَاتَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الإسلامِ وَلَقِيَ االلهَ وَھُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ فَيَھَوى بِهِ فِي شَفِير جَھَنَّم أَبَد
525 الآبِدين
أعوذ باالله من ھذه الخطيئة.
ومن المعلوم أن خيانة المؤمنين تعمّ الخيانة المالية والخيانات الأخرى التي ھي أكبر من الخيانة المالية.
فيجب على الإنسان في ھذه الدنيا أن يراقب النفس الأمارة كثيراً، إذ ربما تقوم بعملية التعتيم للحقائق على
الإنسان وتذليل الصعوبات وتسھيلھا، مع أنھا توجب الشقاء الدائم والخذلان الأبدي.
ھذه ھي حالة الخيانة لعباد االله، ويتبين من ھنا أيضاً وضع الخائن لأمانة الحق المتعالي.
في الإشارة إلى بعض أمانات الحق
ولا بد من معرفة أن الحق تبارك وتعالى، قد وھبنا كافة القوى والأعضاء الظاھرية والباطنية، وبسط لنا بساط
الرحمة والنعمة في مملكتنا الظاھرية والباطنية، ووضعھا كلھا تحت قدرتنا لتسخيرھا، وائتمننا عليھا بلطفه
ورحمته، وھي ـ ھذه العطايا ـ طاھرة ونظيفة من كل القذارات الصورية والمعنوية وكذلك ما أنزل علينا من عالم
الغيب كان بعيداً عن الشوائب والعناصر الغريبة، فإذا أرجعنا ھذه الأمانات لدى لقائنا بالذات المقدس، من دون أن
تصير ممزوجة مع عالم المادة، وقذارات المُلك والدنيا، كُنَّا أُمناء على الأمانة التي أودعت عندنا، وإن لم نحافظ
على طھارة ھذه الأمانات، غدونا من الخائنين والخارجين عن الإسلام الحقيقي، وملّة رسول االله صلى االله عليه
وآله وسلم.
وفي الحديث المشھور إن (قَلْبَ المُؤمن عَرْشُ الرحْمن) وفي الحديث القدسي المعروف «لا يَسُعُنِي أَرْضِي
. فإن قلب المؤمن عرش الحق المتعالي، وسرير سلطنته 526 وَلا سَمَائِي وَلكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْديَ المُؤْمِنِ»
وسكنى ذاته المقدس، وإنه سبحانه صاحب ھذا البيت، فالالتفات إلى غير الحق خيانة للحق، والحب لغير ذاته
الأقدس ولغير أوليائه الذين يعتبر حبّھم حبّه سبحانه، خيانة لدى العرفاء.
وإن ولاية أھل بيت العصمة والطھارة، ومودّتھم، ومعرفة مرتبتھم المقدسة، أمانة من الحق سبحانه. كما ورد
بولاية أمير 527 في الأحاديث الشريفة في تفسير الأمانة في الآية (إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرضِ)
المؤمنين عليه السّلام. كما أن غصب خلافته وولايته، خيانة لتلك الأمانة وأن رفض المتابعة للإمام علي عليه
السّلام مرتبة من مراتب الخيانة. وفي الأحاديث الشريفة.
521
كتاب فروع الكافي، المجلد الخامس، باب أداء الأمانة، ح 3و 4.
وسائل الشيعة، المجلد 13 ،باب وجوب أداء الأمانة، من كتاب أحكام الوديعة ح 13 522
523
وسائل الشيعة، المجلد 13 ،الباب 3 من أبواب أحكام الوديعة ح2.
524
وسائل الشيعة، المجلد 13 ،الباب 3 من أبواب أحكام الوديعة ح2.
525
وسائل الشيعة، المجلد 13 ،الباب 3 من أبواب أحكام الوديعة ح5.
526
إتحاف السادة المتقين، المجلد 7 ،ص 234.
527 إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض
.
204
إن الشيعي ھو الذي يتّبع أمير المؤمنين عليه السلام اتباعاً كاملاً وإلاّ فإن مجرد دعوى التشيع من دون الاتباع
لا يكون تشيعاً.
إن كثيراً من الأوھام، تعتبر من قبيل الشھوة الكاذبة يشتھي الإنسان الطعام وھو شبعان، فإذا لمسنا في
قلوبنا مودّة علي عليه السّلام وأولاده الطاھرين اغتررنا بھا، وحسبنا أن ھذه المودة لوحدھا ستبقى وتستمر من
دون حاجة إلى تبعية كاملة لھم. ولكن ما ھو الضمان على بقاء ھذه المودة إن لم نحافظ عليھا بل إن تخلّينا عن
آثار الصداقة والمودة التي ھي المشايعة والتبعية؟ إذ من الممكن أن الإنسان ينسى علي بن أبي طالب عليه
السّلام من جراء الذھول والوحشة الحاصلتين من الضغوط الواقعة على غير المخلصين والمؤمنين. ففي الحديث
(إن طائفة من أھل المعصية يتعذبون في جھنم وھم ناسون اسم رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم، وبعد
انتھاء فترة العذاب وحصول الطھارة والنظافة من قذارات المعاصي يتذكّرون اسم النبي المبارك أو يلقى الاسم في
قلوبھم، فيصرخون ويستغيثون قائلين وا محمداه صلى االله عليه وآله وسلم فتشملھم بعد ذلك الرحمة).
إننا نظن أن حادثة الموت وسكراته، تضاھي حوادث ھذا العالم. عزيزي إنك عندما تعاني من مرض بسيط،
تنسى كل علومك وثقافاتك، فكيف بك عندما تواجه الصعاب والضغوط والمصائب والأھوال التي ترافق الموت
وسكراته؟ إذا تصادق الإنسان مع الحق سبحانه، وعمل حسب متطلبات الصداقة، وتذكّر الحبيب وتبعه، كانت تلك
الصداقة مع الولي المطلق، والحبيب المطلق الذي ھو الحق المتعالي محبوبةً لديه سبحانه، وملحوظة عنده
تعالى. ولكنه إذا ادعى المودة ولم يعمل حسب مقتضاھا بل خالفه، فمن الممكن أن الإنسان يتخلى عن تلك
الصداقة مع الولي المطلق قبل رحيله من ھذه الدنيا نتيجة التغييرات والتبدلات والأحداث المتقلبة في ھذا في
ھذا العالم. بل والعياذ باالله قد يصير عدواً له سبحانه وتعالى. كما أننا شاھدنا أشخاصاً كانوا يدعون المودة
والصداقة وبعد العِشرة اللامسؤولة، والأعمال البشعة تحوّلوا إلى أعداء وخصماء الله ورسوله صلّى االله عليه وآله
وسلم وأھل بيته عليھم السّلام. وإذا فرضنا أن ھؤلاء رحلوا من ھذا العالم على حب محمد وآله، فھم على
حسب الروايات الشريفة والآيات المباركة من أھل النجاة يوم القيامة ومصيرھم السعادة، ولكنھم يكونون في
معاناة لدى البرزخ
528 وأھوال الموت وعند لحشر ففي الحديث (إِنَّنا شُفَعاؤُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلكِنْ تَزَودُّوا لَبرْزَخِكُم)
.
أعوذ باالله من عذاب القبر وضغطه وشدة البرزخ وعذابه، حيث لا يشابھه شيء في ھذا العالم. إن الكوّة التي
تفتح من جھنم على القبر، لو انفتحت على ھذا العالم لھلكت كافة الموجودات. نعوذ باالله منه.
فصل: في بيان الخوف من الحق المتعالي
إعلم أن الخوف من الحق جل وعلا من المنازل التي قلّما نستطيع أن نجد للعوام من الناس منزلة وفضيلة في
مستوى منزلة الخوف من الحق سبحانه. وھذا الخوف مضافاً إلى أنه يكون من الكمالات المعنوية، يعتبر منشأً
لكثير من الفضائل النفسية، وعاملاً ھامّاً لإصلاح النفس، بل مصدر جميع الإصلاحات للنفس، ومبدأ لعلاج جميع
الأمراض الروحية. ويجب على الإنسان المؤمن باالله، السالك والمھاجر إلى االله، أن يھتم كثيراً بھذه المنزلة، وأن
يُقبل بوجھه أكثر فأكثر على ما يبعث الخشية من االله في القلب، ويعمّق جذوره فيه، مثل التفكر في العذاب
والعقاب وشدّة أھوال الموت وبعد الموت من عالم البرزخ والقيامة، والصراط والميزان والحساب وألوان عذاب جھنم،
ومثل التذكر لعظمة الحق المتعالي وجلاله وقھره وسلطانه ومكره وسوء العاقبة وأمثال ذلك.
وحيث أننا عرضنا شرحاً مختصراً لكل ھذه المراحل في ھذا الكتاب، اقتصرنا ھنا على ذكر بعض الأحاديث في
فضيلة الخوف من االله تعالى.
محمَّدُ بنُ يعقوبَ بإسناده عن إسحاق بنِ عمّارٍ قالَ: قالَ أبو عبد االله عليه السّلام: «يا إسْحاقُ، خَفِ االلهَ كَأّنَّكَ
تَراهُ، وإِنْ كُنْتَ لاَ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ تَرَى أَنَّهُ لاَ يَرَاكَ فَقَدْ كَفَرْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَراكَ ثُمَّ بَرَزْتَ لَهُ بِالمَعْصِيةِ
529 فَقَدْ جَعَلْتَهُ مِنْ أَھوَنِ النَّاظِرينَ عَلَيْكَ»
.
528
وسائل الشيعة المجلد الرابع ص 688.
205
واعلم أنه إذا عرف شخص كيفية تجلي الحق في المُلك والملكوت، وظھور الذات المقدس في السموات
والأرضين، بواسطة المشاھدة الحضورية، أو المكاشفة القلبية، أو الإيمان الحقيقي وإذا أدرك كيفية ارتباط الحق
بالخلق، والخلق بالحق على ما ھي عليھا، وكيفية ظھور المشيئة الإلھية في الكائنات الموجودة، وفناء ھذه
الموجودات في تلك الإرادة على ما ھي عليھا، لعرف بأن الحق المتعالي حاضر في كل مكان وحيّز ولشاھده
بالعلم الحضوري في جميع الموجودات، كما يقول الإمام الصادق المصدَّق عليه السّلام «مَا رَأَيْتُ شَيْئاً إلاّ وَرَأَيْتَ
االلهَ مَعَهُ أَوْ فِيه وتنكشف عليه حقيقة كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ المتوخاة من التقريب بالنوافل». فيرى الحق حاضراً
في جميع مراتب الوجود، حسب مرتبته ومقامه إما علماً أو إيماناً أو عيناً وشھوداً. ومن المعلوم، أن السالك في
أي مقام كان، يراعي حضور الحق، ويمتنع عن مخالفة ذاته المقدس، لأن مراعاة الحضور والمحضر من الأمور
الفطرية التي جبل عليھا الإنسان، فإنه مھما كان مستھتراً ومن دون حياء، فرّق بين حضور الطرف الآخر وغيابه،
خاصة إذا كان حضوراً للمنعم العظيم الكامل، لأن فطرة الإنسان تراعي حضور كل شيء بصورة مستقلة.
في بيان اختلاف الناس في مراعاة حضور الحق
ولا بد من معرفة أن كل واحد من أھل الإيمان والسلوك والعرفان والولاية، يراعون حضور الحق سبحانه وحضرته
حسب مرتبتھم التي تخصّھم، فإن المؤمنين والمتقين يراعون حضوره جلّ وعلا بامتثال الأوامر وترك النواھي.
والمجذوبين بعدم الالتفات إلى الغير، والانقطاع التام الكامل عن غيره. والأولياء الكمّلين بنفي الغير وإزھاق
الأنانية. وملخص الكلام أن من المقامات الشامخة لأھل المعرفة وأصحاب القلوب، مشاھدة حضور الحق المتعالي
ومراعاة حضرته. كما أنّه لدى مشاھدتھم كيفية العلم الفعلي للحق سبحانه، وفناء الأشياء فيه تعالى، وحضور
الموجودات لدى ساحة قدسه، ومعرفتھم بأن ھذا العالم في محضر الرب المتعالي، يراعون محضره، كل حسب
مقامه الذي يحظي فيه. وھذا أيضاً من الأمور الفطرية.
وأشار رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم إلى المقام الأول ـ مشاھدة حضور الحق سبحانه ـ في وصيته
لأمير المؤمنين عليه السّلام، ھذه الوصية التي نحن بصدد شرحھا. كما أشير إليه في الحديث الشريف لأسحاق
بن عمار بقوله عليه السّلام وَالثّالِثَةُ: الخَوْفُ مِنَ االلهِ عَزَّ ذِكْرُهُ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. وأشار الإمام الصادق عليه السّلام إلى
المقام الثاني ـ مشاھدة كيفية العلم الفعلي سبحانه وتعالى ـ بقوله وَإِنْ كُنْتَ لاَ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. وإلى فطرية
رعاية محضره سبحانه، بقوله وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَرَاكَ.
إن للخوف مراتب حسب اختلاف مراتب أھل الإيمان والسلوك وذوي الترويض للنفس وأرباب العرفان، ويعتبر من
المراتب العظيمة للخوف، الخشية من عظمة الحق وتجلّياته القھرية والجلالية. ومن الممكن أن لا نجعل ھذا
المقام من مراتب الخوف، كما يقول العارف المعروف في كتاب (منازل السائرين) وَلَيْسَ فِي مَقَامِ أَھْلِ الخُصوصِ
وَحْشَةُ الخَوْفِ إِلاّ ھَيْبَةُ الإِجْلاَلِ.
في فضل البكاء
إن للبكاء من خشية االله سبحانه فضلاً كبيراً، كما ورد في ھذا الحديث (يُبْنَى لَكَ بِكُلِّ دَمْعَة ألْفَ بَيْتٍ فِي
الجَنِّة).
روى الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين رضوان االله عليه بسنده المتصل إلى الإمام الصادق عليه
السّلام عن آبائه عن النبي صلّى االله عليه وآله وسلم في حديث المناھي قالَ: وَمَنْ ذَرُفَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ االلهِ،
كَانَ لَهُ بِكُلِّ قَطْرَةٍ مِنْ دُمُوعِهِ قَصْرٌ فِي الجنَّةِ مُكَلَّلٌ بِالدُّرِ والجَوْھَرِ، فِيهِ مَا لاَ عَيْنٌ رَأت وَلاَ أُذْنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ
530 عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ
.