أما أھل الآخرة، فإنھم كلّ ما ازدادوا قرباً من دار كرم االله، ازدادت قلوبھم سروراً واطمئناناً، وازداد انصرافھم عن
الدنيا وما فيھا. ولولا أن االله قد عين لھم آجالھم لما مكثوا في ھذه الدنيا لحظة واحدة. فَھُم، كما يقول أمير
المؤمنين، علي بن أبي طالب عليه السّلام: «نُزِّلَتْ أَنْفُسَهُ فِي البَلاءِ، كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ، وَلَوْلا الأَجَلُ الَّذِي
. جعلنا االله وإياكم منھم، 115 كَتَبَ اللَّهُ عَلَيھم، لَمْ تَسْتَقِر أّرْوَاحُھُم فِي أَجْسَ ادِھم طَرَفَةَ عَيْنٍ شَوْقً إِلَى الثَّوَابِ»
إن شاء االله.
إذاً، يا عزيزي، بعد أن عرفت مفاسد ھذا التعلق والحب، وأدركت أن ذلك يفضي بالإنسان إلى الھلاك، ويجرّده
من الإيمان، ويجعل دنياه وآخرته متشابكتين مضطربتين، فشم ّر عن ساعد الجد، وقّل حسب طاقتك، التعلق
بھذه الدنيا، واقتلع جذور حبھا من نفسك، واحتقر الأيام القليلة التي تقضيھا في الحياة، وأزھد في خيراتھا
المشوبة بالألم والعذاب والنقمة، واطلب من اللّه أن يعينك على الخلاص من ھذا العذاب وھذه المحنة، ويجعل
قلبك يأنس بدارِ كرمه تعالى: «وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى».
113
أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 16 وح17.
114
أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 16 وح17.
نھج البلاغة ـ الخطبة 193) الشيخ صبحي الصالح). 115
60
الحَديث السَابع: الغضب
بالسند المَصل إِلى محمدّ بن يعقوب عن علي بن إبراھيم، عن محمدّ بن عيسى، عن يونس، عن داود بن
116 فرقد قال: قال أبو عبداالله عليه السّلام: «الغَضبُ مِفْتاحُ كُِ شَر»
.
الشرح:
قال المحقق الكبير أحمد بن محمد، المعروف بابن مسكويه، في كتاب تھذيب الأخلاق وتطھير الأعراق القيم
: 117 الذي يقل نظيره في حسن التنظيم والبيان منصه
«والغضب بالحقيقة ھو حركة للنفس يحدث بھا غليان دم القلب شھوة للانتقام. فإذا كانت ھذه الحركة عنيفة،
أججت نار الغضب وأضرمتھا، فاحتّ غليان دم القلب وامتلأت الشرايين والدماغ دخاناً مظلماً مضطرباً يسوء منه
حال العقل ويضعف فعله، ويصير مثل الإنسان عند ذلك على ما حكته الحكماء مثل كھف مليء حريقاً وأضرم ناراً
فاختنق فيھا اللھيب والدخان وعلا منه الأجيج والصوت المسمى وحي النار، فيصعب علاجه ويتعذر إطفاؤه، ويصير
كل ما تدنيه منه للإطفاء سبباً لزيادته ومادة لقوته. فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ويصمّ عن الموعظة، بل تصير
المواعظ في تلك الحال سبباً للزيادة في الغضب ومادّة للّھيب والتأجج وليس يرجى له في تلك الحال حيلة».
«وأما سقراطيس 118 ثم يقول
قال أني للسفينة إذا عصفت بھا الرياح وتلاطمت عليھا الأمواج وقذفت بھا إلى 119
اللجج التي فيھا الجبال، أرجى مني للغضبان الملتھب، وذلك أن السفينة في تلك الحال يلطف لھا الملاحون
ويخلصونھا بضروب الحيل فأما النفس إذا استشاطت غصباً فليس يرجى لھا حيلة البتة وذلكن كل ما رُقي به
الغضب من التضرع والموعظة والخضوع يصير له بمنزلة الجزل من الحطب يوھجه ويزيده استعاراً» انتھى.
فصل: في بيان فوائد القوة الغضبية
اعلم أن غريزة الغضب من النعم الإلھية التي يمكن بھا عمارة الدنيا والآخرة، وبھا يتم الحفاظ على بقاء الفرد
والجنس البشري والنظام العائلي، ولھا تأثير كبير في إيجاد المدينة الفاضلة ونظام المجتمع. فلولا وجود ھذه
الغريزة الشريفة في الحيوان لما قام بالدفاع عن نفسه ضد ھجمات الطبيعة، ولآل أمره إلى الفناء والاضمحلال.
ولولا وجودھا في الإنسان، لما استطاع، أن يصل إلى كثير من مراتب تطوره وكمالاته زائداً على تحقق ما تقدم.
بل إن التفريط والنقص من حال الاعتدال يعد من مثالب الأخلاق المذمومة ومن نقائص الملكات التي يترتب عليھا
الكثير من المفاسد والمعايب، كالخوف، والضعف، والتراخي، والتكاسل، والطمع، وقلة الصبر، وعدم الثبات في
المواقف التي تتطلب الثبات، والخمود، والخنوع، وتحمل الظلم، وقبول الرذائل والاستسلام لما يصيبه أو يصيب
عائلته، وانعدام الغيرة، وخور العزيمة...
120 إن االله سبحانه يصف المؤمنين بقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَھُمْ)
.
إن القيام بالأمر المعروف والنھي عن المنكر، وتنفيذ الحدود والتعزيرات وسائر التعاليم السياسية الدينية
والعقلية، لا يكون إلاّ في ظل القوة الغضب ية الشريفة. وعلى ذلك، فإن الذين يظنون أن قتل غريزة الغضب
بالكامل وإخماد أنفاسھا يعد من الكمالات والمعارج النفسية إنّما يرتكبون خطيئة عظيمة، ويغفلون عن حدّ الكمال
ومقام الاعتدال. ھؤلاء المساكين لا يعلمون أن االله تبارك وتعالى لم يخلق ھذه الغريزة الشريفة في جميع أصناف
الحيوانات عبثً، وأنه جعل ھذه الغريزة في بني آدم رأسمال الحياة المُلكية والملكوتية، ومفتاح الخيرات والبركات.
إن الجھاد ضد أعداء الدين، وحفظ النظام العائلي للإنسان، والدفاع عن النفس والمال والعِرض، وعن سائر القوانين
الإِلھية، والجھاد مع النفس وھي ألد أعداء الإِنسان، لا يكون كل ذلك إلاّ بھذه الغريزة الشريفة. إن منع الاعتداءات
والذب عن الحدود والثغور، ودفع المؤذيات والمضرات عن الفرد والمجتمع، ويجري تحت لواء ھذه الغريزة. لذلك
سعى الحكماء إلى معالجة خمود ھذه الغريزة وركودھا. وھناك معالجات علمية وعملية لإيقاضھا وتحريكھا: مثل
116
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 3.
117
تھذيب الأخلاق، لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه، ص 193 منشورات الجامعة الأمريكية ـ بيروت.
118
تھذيب الأخلاق، لأبي علي أحمد بن محمد مسكويه، ص 195 منشورات الجامعة الأمريكية ـ بيروت.
في كتاب (الأربعون حديثا) وأما بقراط... وفي كتاب تھذيب الأخلاق وأما سقراطيس... (المترجم). 119
120
سورة الفتح، آية: 29.
61
الإقدام على الأمور العظيمة المخيفة، والذھاب إلى ميادين الحرب، والجھاد ضد أعداء االله. فقد نُقل عن بعض
المتفلسفين أنه كان يرتاد الأماكن المخوفة ويلبث فيھا قليلاً ويلقى بنفسه في المخاطر العظيمة، ويركب البحر
في أوج تلاطم أمواجه، وذلك لكي يخلص نفسه من الشعور بالخوف ويتحرر من الضعف والكسل.
وعلى أي حال، فإن غريزة الغضب موجودة لدى كل إنسان ومودعة في باطنه، ولكنھا في بعضھم خامدة
منكمشة، كالنار تحت الرماد. فالواجب على من يلحظ في نفسه حال الخمول والضعف وانعدام الغيرة أن يعالج
الحالة بضدھا، ويخرج نفسه مما ھي فيه إلى حال من الاعتدال. وھذه الحال المحاولة من الشجاعة التي تعدّ من
الملكات الفاضلة والصفات الحسنة، مما سوف ترد الإِشارة إليه.
فصل: في بيان ذم الإفراط في الغضب
إذا كانت حال التفريط ونقص الاعتدال من الصفات المذمومة التي تؤدي إل ى كثير من المفاسد التي ذكرنا
بعضھا، كذلك ھي حال الإِفراط وتجاوز حد الاعتدال، فھي أيضاً تعدّ من الصفات المذمومة التي تقود إلى مفاسد
كثيرة. ويكفي لتبيان مفاسد ھذه الحال ذكر ھذا الحديث الشريف الوارد في الكافي. عن أبي عبداالله عليه
السلام أنه قال، قال رسول اللّه صلّى اللّه عل يه وآله وسلم «الغَضَبُ يُفْسِدُ الإِيمانَ كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ»
121
.
فقد يصل الغضب بالإنسان إلى حد الارتداد عن دين اللّه، وإطفاء نور الإيمان، بحيث أن ظلام الغضب وناره
تحرق الحقائق الحقّة. بل قد يصل الأمر إلى الكفر الجحودي الذي نتيجته الھلاك الأبدي، ثم ينتبه على نفسه بعد
فوات الأوان وحين لا ينفع الندم ويمكن أن تكون نار الغضب، جمرة الشيطان، التي وردت في كلام الإمام الباقر
صورتھا في ذلك العالم، صورة نار 122 عليه السلام «إنَّ ھَا الغَضَب جَمْرَةٌ مِن َ الشَّيْطانِ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ»
الغضب الإلھي.
كما ورد عنه عيه السلام في حديث شريف رواه صاحب «الكافي» :
«مَكْتُوبٌ فِي الَوْراةِ فيما ناجَى االلهُ عزّ وجلّ مُوسى: يا مُوسى أَمْسِكْ غَضَبَكَ عَمَّنْ مَلَّكْتُكَ عَلَيْهِ أكُفَّ عَنْكَ
123 غَضَبِي»
.
ولا شك في أنه ليست ھناك نار أشد من نار غضب اللّه عذاباً. وقد جاء في كتب الحديث، عن أبي عبداالله
عليه السلام قال: «قَالَ الحَواريّون لِعيسى عليه السّلام: أَيُّ الأَشْياءِ أَ شَدّ؟ قٌالَ أَشَدُّ الأَشْياءِ غَضَبُ اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
124 قالُوا بِمَ نَتقي غَضَبُ اللّهِ؟ قالَ بَأْن لا تَغْضِبُوا»
.
وھكذا يتضح أن غضب االله من أصعب الأمور وأشدھا، وأن نار غضبه أشد إحراقً، وصورة الغضب للإنسان في
ھذه الدنيا ھي صورة نار غضب االله في العالم الآخر. وكما أن الغضب يظھر من القلب، فلعل نار الغضب الإلھي
الذي يكون مبدأه الغضب وسائر الرذائل القلبية الأخرى، تنبعث من باطن القلب، وتسري إلى الظاھر، وتخرج
ألسنة نيرانھا المؤلمة من الأعضاء الظاھرية مثل العين والإذن واللسان وغيرھا بل إن ھذه الأعضاء تكون أبوابا
تنفتح على جھنم، فتحيط نار جھنم بالأعمال والآثار الجسمية التي في ظاھر جسد الإنسان، لتتجه إلى باطنه،
فيقع الإنسان في العذاب والشدّة بين جھنمين: أحدھما يبرز من باطن القلب ويدخل ألسنة لھيبھا بواسطة أم
الدماغ إلى عالم الجسم. وثانيھما صورة قبائح الأعمال وتجسم الأفعال، حيث تتصاعد نيرانھا من الظاھر إلى
الباطن، واالله سبحانه وتعالى يعلم مدى ھذا الضغط؟ وھذا العذاب؟ إنه غير الاحتراق وغير الانصھار. أتظن أن
إحاطة جھنم تشبه ھذه الإحاطات التي تتصوره؟ إن الإحاطة ھنا إنما تكون بظاھر السطح فقط. أما الإحاطة ھناك
فتكون بالظاھر وبالباطن، بالسطوح وبالأعماق. وإذا أصبحت صورة الغضب عند الإنسان صفة راسخة لا سمح االله ـ
وصورة الغضب آخر مراحل الرسوخ ـ كانت المصيبة أعظم، وأصبح للإنسان في البرزخ ويوم القيامة صورة السباع،
121
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 1.
122
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 12.
123
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 7.
124
وسائل الشيعة، المجلد 11 ،أبواب جھاد النفس، ص289.
62
السباع التي لا شبيه لھا في الدنيا. وذلك لأن سَبُعية الإنسان، وھو في حالة الغضب، لا يمكن مقارنتھا بسبعية
أي حيوان آخر من الحيوانات. وكما أن الإنسان في حالة كماله أعجوبة الدھر ولن تجد له نظيراً، كذلك في حال
نقصه واتصافه بالرذائل وبالصفات الخسيسة لن تجد بين الكائنات من يقف معه في ميزان المقارنة، لقد وصفھم
. ووصف قلوبھم فقال: (فَھِيَ كَالْحِجَارَةِ أَْ أَشَدُّ قَسْوَةً) 125 االله بقوله: (إِنْ ھُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ ھُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)
126
.
ھذا الذي مرّ بك كان جانباً من مفاسد نار الغضب الحارقة، إذا لم يستتبع الغضب معاص أخرى، بل بقى ناراً
داخلية مظلمة تتعقدّ في الباطن وتنجس وتختنق فتطفئ نور الإيمان، كالنار المشتعلة التي يخالطھا الدخان
الأسود الذي يغشى النور فيطفئه. ولكن ذلك أمر بعيد، بل قد يكون من الأمور المستحيلة أن يكون الإِنسان في
حال غضب شديد مستعرة ناره، ثم يمتنع عن إرتكاب معاص وموبقات مھلكة أخرى. فكثيراً ما يؤدي الغضب
المستعر، وھذه الجمرة الشيطانية الملعونة، في مدة دقيقة واحدة إلى إلقاء الإِنسان في ھاوية الھلاك والعدم،
كأن يسبّ الأنبياء والمقدسات ـ والعياذ باالله ـ أو يقتل نفساً بريئة مظلومة، أو يھتك الحرمات، فيخسر الدنيا
والآخرة، كما جاء في الكافي عن أبي عبداالله عليه السلام في حديث له: كان أبي يقول: «أَيُّ شَيْءٍ أشَدُّ مِنَ
127 الغَبِ؟ إِنَّ الَجَُ لَيَْبَ فَيَُْلَ النََّْ الَّتي حَرَّمَ االلهُ وَيَقِْفُ المُحَْنَةَ»
.
لقد وقعت أفظع الفتن وارتكبت أفجع الأعمال بسبب الغضب واشتعال ناره الحارقة. وعلى الإِنسان، وھو سليم
النفس، أن يكون على حذر كثير من حال غضبه. وإذا كان يعرف من نفسه حدوث حالات الغضب، عليه، في أثناء
ھدوئه النفسي، أن يعالجھا وأن يفكر في مبادئھا وفي مفاسدھا عند اشتدادھا وآثارھا ونتائجھا في النھاية، لعله
يصل إلى معرفة طريق لإنقاذ نفسه. فليفكر في أن ھذه الغريزة التي وھبھا االله تعالى إياه لحفظ نظام الظاھر
والباطن وعالم الغيب والشھادة، إذا استخدمھا لغير تلك الأھداف وبخلاف ما يريد االله سبحانه وضد المقاصد
الإِلھية، فما مدى خيانته؟ وما ھي العقوبات التي يستحقھا؟ وكم ھو ظلوم جھول؟ لأنه لم يَصُنْ أمانة الحق
تعالى، بل استعملھا في العداوات والمخاصمات. إن إِمرءً ھذا شأنه لا يمكن أن يأمن الغضب الإلھي.
ثم إن عليه إن يفكر في المفاسد العملية والأخلاقية التي تتولد من الغضب وسوء الخلق. إذ كل مفسدة من
ھذه المفاسد يمكن أن تكون سبباً في ابتلاء الإِنسان بصورة دائمة ببلايا شديدة في الدنيا، وبالعذاب والعقاب في
الآخرة.
أما المفاسد الأخلاقية التي تتولد من ھذا الخلق فھي الحقد على عباد االله، وقد ينتھي به الأمر إلى الحقد
على الأنبياء والأولياء، بل وحتى على ذات االله المقدسة الواجبة الوجود ووليّ النعم، وشدّة ھذا القبح وھذه
المفسدة واضح للجميع، نعوذ باالله تعالى من شر نفس عنيدة إذا ما انفصم وثاقھا للحظة واحدة، جرّت الإِنسان
إلى تراب الذل وقادته إلى أرض الھلاك الأبدي. وكذلك الحسد الذي مرّت بك بعض مفاسده وشروره في شرح
الحديث الخامس. وغير ذلك من المفاسد الأخرى التي تتولد من الغضب.
وأما مفاسد الغضب المؤثرة في الأعمال فإنھا ليست بمحصورة، فلعله يتفوه بما فيه الارتداد أو سب الأنبياء
والأولياء ـ والعياذ باالله ـ وھتك الحرمات الإِلھية، وخرق النواميس المقدسة، وقتل الأنفس الزكية، والافتراء على
العوائل المحترمة بما يصمھا بالعار والذل ويقضي على النظام العائلي بكشف الأسرار وھتك الأستار. وغير ذلك من
المفاسد التي لا تحصى والتي يبتلي بھا الإنسان لدى فورة الغضب الباعثة على نسف الإيمان وھدم البيوت.
لذلك يمكن أن توصف ھذه السجية بأنھا أم الأمراض النفسية ومفتاح كل شر. ويقابلھا كظم الغيض وإخماد
سعير الغضب فإنه من جوامع الكلم ودائرة تمركز الحسنات ومجمع الكرامات. كما جاء في حديث (الكافي) عن
أبي عبداالله عليه السلام أنه قال سمعت أبي يقول:
«أتى رَسُولَ االلهِ رَجُلٌ بَدَوِيٌ، فَقالَ: إنّي أسْكُنُ البادِيَةَ فَعَلِّمْنِي جَوامِعَ الكَلامِ فَقالَ: آمُرُكَ أَنْ لاَ تَغْضَبَ. فَأعادَ
عَلَيْهِ الأعْرَابِيُّ المَسْأَلَةَ ثَلاثَ مَرّاتٍ حَتّى رَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى نَفْسِه. فَقالَ: لا أَسْأَلُ عَنْ شيْء بَعْدَ ھذَا. ما أمَرَنِي
125
سورة الفرقان، آية: 44.
126
سورة البقرة، آية 74.
127
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح 4.
63
رَسُولُ االلهِ إِلاّ بِالْخَيْرِ. قالَ: وَكانَ أَبي يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ أشَدُّ مِنَ الغَضَبِ؟ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ فَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتي حَرَّم
128 االلهُ وَيَقْذِفُ المُحْصَنَةَ»
.
بعد أن يدرك الإنسان، في حال تعلقه وسكون نفسه وخمود غضبه، المفاسد الناجمة عن الغضب، والمصالح
الناجمة عن كظم الغيظ، يلزم أن يحتم على نفسه أن يطفئ ھذا اللھيب الحارق وھذه النار المشتعلة في قلبه،
مھما لاقى من عنت ونصب في سبيل ذلك، ليغسل قلبه من الظلام والكدر، ويعيد إليه صفاءه ونقاءه. وھذا أمرٌ
ممكن تماماً بشيءٍ من مخالفة النفس والعمل ضد ھواھا، وبقليل م ن النصح والإرشاد والتدبر في عواقب الأمور.
وھذه وسيلة يمكن بھا إزالة جميع الأخلاق الفاسدة والعادات القبيحة من ساحة النفس، وإبدالھا بجميع الصفات
الحسنة والأخلاق المحمودة التي يجب أن يتحلّى بھا القلب.
فصل: في بيان علاج الغضب إن للغضب المشتعل
إن للغضب المشتعل علاجاً علمياً وعملياً أيضاً.
أما علاجه العملي فھو أن يتفكر الإِنسان في تلك الأمور التي ذكرت، ويعدّ ھذا من العلاج العملي أيضاً.
أما العلاج العملي فأھمّه صرف النفس عن الغضب عند أول ظھوره. وذلك لأن الغضب أشبه بالنار، فھو يزداد
شيئاً فشيئاً ويشتّد، حتى يتعالى لھيبه، وترتفع حرارته ويفلت العنان من يد الإنسان، ويخمد نور العقل والإيمان،
ويطفئ سراج الھداية، فيصبح الإنسان ذليلاً مسكيناً. فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعاله ويرتفع
سعيره، فيشغل نفسه بأمور أخرى، أو أن يغادر المكان الذي ثار فيه غضبه، أو أن يغير من وضعه. فإذا كان جالساً
فلينھض واقفاً، وإذا كان واقفاً فليجلس، أو أن يشغل نفسه بذكر االله تعالى. بل ھناك من يرى وجوب ذكر االله في
حال الغضب، أو أن يشغل نفسه بأي أمر آخر.
على كل حال، يسھل كبح جماح الغضب في بداية ظھوره. ولھذا العمل في ھذه المرحلة نتيجتان:
الأولى: ھي أن يھدئ النفس ويقلل من اشتعال الغضب. والثانية: ھي أن يؤدي إلى المعالجة الجذرية
للنفس. فإذا راقب الإنسان حاله وعامل نفسه بھذه المعاملة تغيّرت حاله تغيراً كُلياً واتجھت نحو الاعتدال. وقد
وردت الإشارة إلى بعض ذلك كتاب (الكافي) بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال:
«إِنَّ ھَذَا الغَضَبَ جَمْرَةٌ مِنَ الشَّيطانِ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ وإِنَّ أحَدَكُمْ إِذا غضِبَ احْمَرَّتْ عَيْناهُ وَانْتَخَتْ أوْدَاجُهُ
129 وَدَخَلَ الشَّيْطانُ فيه، فَإِذا خاف أَحَدُكُمْ ذلِكَ مِنْ نَفِْهِ فَلْيَلْزَمِ الأرْضَ فَإنَّ رِ جْزَ الشَّيْطانِ يَذْھَبُ عَنْهُ عِنْدَ ذلِكَ»
.
وبإسناده، عن ميسر قال: ذُكر الغضب عند أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال: «إِنَّ الرَّجَ لَيَغَْبُ فَما يرضى أبداً
حَّى يَدْخُلَ النّار فَأَيُّما رَجُلٍ غَضَ عَلى قَوْمٍ وَھُوَ قائٌِ فَْيَجِْسْ مِنْ فَوْرِه ذلَِ فَإنَُّ سَيَذْھَبُ عَنْهُ رِجْزُ الشَّيْطانِ وَأَيُّما
130 رَجُلٍ غَضِبَ عَلى ذي رَحِمٍ فَلَْدْنُ مِنْهُ فَلَْمَسَّه، فَإنَّ الرَّحِمَ، إذا مُسَّت، سَكَتْ»