الشرح:
لقاء المسلمين بوجھين ھو: أن يبدي المرء ظاھر حاله وصورته الخارجية لھم على خلاف ما تكون في باطنه
وسريرته. كأن يبدي أنه من أھل المودة والمحبة لھم، وأنه مخلص حميم، بينما يكون في الباطن على خلاف ذلك
فيعامل بالصدق والمحبة في حضورھم، ولا يكون كذلك لدى غيابھم.
أما ذو اللسانين فھو أن يثني على كل من يلقاه منھم ويمتدحه ويتملق له ويظھر المحبة له، ولكنه في غيابه
يعمد إلى تكذيبه وإلى استغابته. فبناء على ھذا التفسير، تكون الحالة الأولى ھي: «النفاق العملي» والحالة
الثانية ھي: «النفاق القولي». ولعل الحديث الشريف يشير إلى صفة النفاق القبيحة. وباعتبار أن ھاتين الحالتين
ھي من أظھر صفات المنافقين وألصقھا بھم، اقتصر الحديث الشريف على ذكرھا خاصّة.
والنفاق من الرذائل النفسانية والملكات الخبيثة التي تنجم عنھا آثار كثيرة منھا ھذين الأثرين المذكورين.
وللنفاق درجات ومراتب. وسوف نحاول. إن شاء االله، أن نذكر تلك الدرجات والمراتب ومفاسدھا ومعالجتھا بقدر
الإِمكان، خلال بضعة فصول.
فصل: في بيان مراتب النفاق
اعلم أن للنفاق، مثل سائر الأوصاف والملكات الخبيثة أو الشريفة، درجات
ومراتب من حيث القوة والضعف. وإن كل رذيلة لم يتصدَّ لھا المرء بالعلاج الناجع، بل خضع لھا وتبعھا، مالت إلى
الاشتداد، وإن درجات اشتداد الرذائل، مثل درجات اشتداد الفضائل، غير متناھية ولا تقف عند حدّ.
فالمرء إذا ترك النفس الأمّارة على حاله، فبسبب ميلھا الذاتي وعدم ارتياحھا ومساعدة الشيطان لھا
والوسواس الخنّاس اندفعت لأجل كل ذلك نحو الفساد. فيتفاقم حالھا، وتزداد قو ة وشدة يوماً بعد يوم، حتى يصل
الأمر بتلك الرذيلة التي تابعھا أن تتخذ الصورة الجوھرية للنفس وفصلھا الأخير، وتصبح مملكة الإِنسان، ظاھرھا
وباطنھا تحت سيطرة تلك الرذيلة. فإذا كانت رذيلة شيطانية، كالنفاق والاتصاف بذي الوجھين، مما ھو من صفات
، بينما كان الأمر 139 ذلك الشيطان الملعون ـ كما جاء في القرآن الكريم: (وَقَاسَمَھُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ)
خلاف ذلك ـ استسلمت مملكة الإِنسان للشيطان، وأصبحت الصورة الأخيرة للنفس وباطنھا وذاتھا وجوھرھا،
صورة للشيطان، وقد تصبح صورته الظاھرة في الدنيا أيضاً كصورة الشيطان، وإن كانت ملامحه ھنا بشرية.
138
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر باب ذي اللسانين، ح 1.
139
سورة الأعراف آية: 21.
70
فإذا لم يقف الإِنسان بوجه ھذه الصفة ولم يردعھا، وترك نفسه وشأنھا، فلن يمضي وقت طويل حتى يفلت
الزمام منه، ويصبح كلّ ھمّه واھتمامه منصباً على تلك الرذيلة، حتى أنه لا يلتقي شخصاً إلاّ وعامله معاملة ذي
الوجھين وذي ا للسانين، ولا يعاشر أحداً إلاّ وخالطت معاشرته تلك الصفة من التلوّن والنفاق، دون أن يخطر له
شيء سوى منافعه الخاصة وأنانيته وعبادته لذاته، واضعاً تحت قدميه الصداقة والحميّة والھمة والرجولة. ومت
سماً في كل حركاته وسكناته بالتلون، ولا يمتنع عن أي فساد وقبح ووقاحة. إن شخصاً ھذا شأنه يكون بعيداً عن
البشرية والإِنسانية، ومحشوراً مع الشياطين.
كل ھذا الذي استعرضناه يمثل القوة والضعف في جوھر النفاق نفسه، ولكنه يختلف باختلاف متعلقة. فقد
يكون النفاق في دين االله وقد يكون في السجايا الحسنة والفضائل الأخلاقية، وقد يكون في الأعمال الصالحة
والمناسك الإِلھية، وقد يكون في الأمور العادية والمتعارف عليھا. وھكذا قد ينافق المرء مع رسول االله صلّى االله
عليه وآله وسلّم، أو مع أئمة الھدى عليھم السلام، أو مع الأولياء والعلماء والمؤمنين، وقد يتسع النفاق فيكون مع
المسلمين وسائر خلق االله من الملل الأخرى.
بديھي أن تكون ھناك اختلافات في مدى قبح ھذه الحالات التي عدّدناھا ووقاحتھا، على الرغم من أنھا جميعاً
تشترك من حيث الأصل في الخبث والقبح، لأنھا فروع وأغصان لشجرة خبيثة واحدة.
فصل: النفاق مصدر كثير من المفاسد
إن النفاق والاتصاف بذي الوجھين ـ وإن كانا في أنفسھما من الصفات القبيحة التي لا يتصف بھا الإنسان
الشريف، ويُعتبر المتصف بھا خارجاً عن المجتمع الإِنساني، بل لا يكون شبيھاً بأي حيوان ويبعثان على الفضيحة
والذل في ھذه الدنيا أمام الأصحاب والأقران، كما أنھما يوجبان الذل والعذاب الأليم في الآخرة فقد جاء وصفه في
الحديث الشريف وصف المنافق بأن صورته في ذلك العالم «أَنَّهُ يَحْشَرُ بِلِسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ» ويسببان طأطأة الرأس
والفضيحة أمام خلق االله وفي حضرة الأنبياء المرسلين والملائكة المقربين. كما يتضح من ھذا الحديث شدة عذاب
المنافق وذي الوجھين، لأنه إذا أصبح جوھر الجسم جوھر النار، كان الإحساس أقوى والألم أشدّ ـ أعوذ باالله من
شدته ـ.
عن علي عليه السلام قال: قال رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ ذُو الوَجْھَيْنِ دَالِعاً
لِسَانَهُ فِي قَفَاهُ وَآخَرُ مِنْ قُدّامِهِ يَلْتَھِبَانِ نَاراً حَتَّى يَلْھَبَا جَسَدَهُ. ثُمَّ يُقَالُ ھذَا الذَّي كَانَ فِي الدُّنْيَا ذَا وَجْھَيْنِ
. وَيَكُونُ مَشْمُولاً بِالآيَةِ الشرِيفَة: 140 وَلِسَانَيْنِ يُعْرَفُ بِذَلِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ
(وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَھُمُ اللَّعْنَةُ وَلَھُمْ سُوءُ الدَّارِ)
141
.
إن النفاق وذا الوجھين مضافاً إلى ما تقدم يكونان مصدر ك ثير من المفاسد والمھالك التي يمكن لأية واحدة
منھا أن تحكم بالفناء على دنيا الإِنسان وآخرته، مثل «الفتنة» التي ينص القرآن الكريم على إنھا «أَشَدُّ مِنَ
. ومثل «النميمة» التي يقول عنھا الإِمام الباقر عليه السلام: 142 القَتْلِ»
«مُحَرَّمةٌ الجَنَّةُ عَلَى القَتَاتِين المَشّائِين بالنَّمِيمَةِ»
143
.
. ومثل إيذاء 144 ومثل «الغيبة» التي قال عنھا رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم: «إِنَّھَا أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا»
المؤمن وسبه وكشف الستر عنه وإفشاء سره، وغيرھا مما يعد كل واحد منھا سبباً مستقلاً لھلاك الإِنسان.
واعلم أنه تندرج في النفاق وذي الوجھين جملة أمور ھي: الغمز واللمز والكنايات التي يطلقھا البعض على
البعض الآخر، على الرغم من إظھار المحبة والصداقة الحميمة. فعلى الإِنسان أن يكون على حذر شديد، وأن
يراقب سلوكه وأعماله. فإن مكائد النفس والأساليب الشيطانية الماكرة خفية جداً، قلّ من استطاع الإِفلات منھا.
ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص316 " عقاب من كان ذا وجھين ولسانين ". 140
141
الرعد: 25.
142
البقرة: 191.
143
أصول الكافي، ج2 ص369 " كتاب الإيمان والكفر، باب النميمة " الحديث 2.
يا أبا ذر، أياك والغيبة فأن الغيبة أشد من الزنا، قلت يا رسول االله ولم ذاك بأبي وأنت وأمي؟ قال: لأن الرجل يزني فيتوب إلى االله 144
فيتوب االله عليه والغيبة لا تغفر حتى يغفرھا صاحبھا. بحار الأنوار، ج74 ص89 " كتاب الروضة، باب مواعظ النبي (ص) ".
71
فقد يصبح الإِنسان بإشارة من إشاراته التي تصدر في غير محلھا، أو بغمز وتعريض يصدر منه في غير موضعه، من
ذوي الوجھين، وقد يكون الإِنسان مُبْتَلى بھذه الرذيلة حتى نھاية عمره، بينما ھو يتصور نفسه سليمة وطاھرة.
إذاً، على الإِنسان أن يكون كمثل الطبيب العطوف الحاذق، والممرض الشفيق المطلع على حالات النفس، يراقب
أعماله وتطوراته دائماً ولا يغفل عن ذلك أبداً، وأن يعلم أنه ما من مرض أخفى، وفي الوقت نفسه أفتك، من
الأمراض القلبية، وأنه ما من ممرض يكون أشفق وأعطف على الإِنسان، من نفسه.
فصل: في معالجة النفاق
اعلم أن لعلاج ھذه الخطيئة الكبيرة طريقان:
أحدھما: ھو التفكير في المفاسد التي تنتج عنھا. ذلك أن الإِنسان في ھذه الدنيا إذا عُرف بھذه الصفة بين
الناس سقط من أنظارھم، وافتضح بين الخاصة والعامة، وفقد كرامته بين أصحابه، فيطردونه من مجالسھم،
ويتخلف عن محافل أنسھم، ويقتصر عن اكتساب الكمالات وبلوغ المقاصد. فعلى الإِنسان ذي الشرف والضمير أن
يطھّر نفسه من ھذا العار الملطخ للشرف، لكيلا يبتلى بأمثال ھذه الحالات من الذل والضعة. كذلك الأمر في عالم
الآخرة، عالم كشف الأسرار. إذ كل ما ھو مستور قي ھذه الدنيا عن أنظار الناس لا يمكن ستره في عالم الآخرة.
فھناك يحشر وھو مشوّه الخلقة بلسانين من نار، ويعذب من المنافقين والشياطين.
إذاً، فالإِنسان العاقل إذا ما رأى ھذه المفاسد، ولم يجد لذلك الخلق نتيجة غير القبح والرذيلة، وجب عليه أن
يتجنب الاتصاف بھذه الصفة والسلوك للمعالجة وھو:
الطريق الآخر: وھو الأسلوب العملي لعلاج النفس وھو أن يراقب الإِنسان حركاته وسكناته بكل دقة وتمحيص
لفترة من الوقت، وأن يعمد إلى العمل بما يخالف رغبات النفس وتمنياتھا، وأن يجاھد في جعل أعماله وأقواله في
الظاھر والباطن واحدة وأن يبتعد عن التظاھر والتدليس في حياته العملية، وأن يطلب من االله تعالى، خلال ذلك،
التوفيق والنجاح في التغلب على النفس الأمارة وأھوائھا، ويعينه في محا ولاته العلاجية. إذ أن فضل االله تعالى
على الناس ورحمته بھم لا نھاية لھا. وھو يشمل بعونه كل من خطا نحو إصلاح نفسه، ويمدّ يد الرحمة لانتشاله.
فإذا ثابر على ذلك بعض الوقت، كان له أن يرجو لنفسه الصفاء والانعتاق من النفاق ذي الوجھينية، وأن يصل إلى
حيث يتطھّر قلبه من ھذه الرذيلة ليصبح موضع ألطاف االله ورحمة ولي نعمته الحقيقي. وذلك لأن التجربة
والبراھين تدل على أنه ما دامت النفس في ھذه الدنيا، كانت منفعلة بما يصدر عنھا من أفعال وأقوال، الصالحة
منھا والطالحة، ويكون لكل ذلك أثر فيھا. فإذا كان العمل صالحا، كن أثره نورانياً كمالياً، وإذا كان خلاف ذلك، كان
أثره مظلماً انتقاصياً، حتى يصبح القلب كله نيّراً أو مظلماً، منخرطاً في سلك السعداء أو الأشقياء. إذاً، فما دمنا
في دار العمل وفي ھذه المزرعة، فإننا نستطيع بإرادتنا أن ندفع بقلوبنا إما إلى السعا ة وإما إلى الشقاء، لأن
145 المرء رھين بعمله وفعله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَر?ا يَرَه)
.
فصل: في بيان بعض أقسام النفاق
اعلم أيھا العزيز أن من مراتب النفاق وذي اللسانين والوجھين، النفاق مع االله تعالى والتوجه إلى مالك الملوك
ووليّ النِعم بوجھين، حيث نكون المبتلين به في ھذا العالمُ ونحن غافلون عنه. لأن أستار الجھل الكثيفة وحجب
الأنانية المظلمة وحب الدنيا وحب الذات مسدولة عليه ومختفية عنّا ومن الصعب جداً أن ننتبه له قبل انكشاف
السر ائر، ورفع الحجب، والظعن عن دنيا الطبيعة، وشدّ الرحال عن دار الغرور ودار الجھل والغفلة.
إننا الآن غارقون في نوم الغفلة، محكومون لسكر الطبيعة، والميول والرغبات التي تزيّن لنا كل قبائح الأخلاق
وفساد الأعمال، وإذا ما استيقظنا وصحونا من ھذه السكرة العميقة يكون قد فات الأوان. إذ نجد أنفسنا قد صرنا
في زمرة المنافقين وذي الوجھين واللسانين وحُشرنا بلسانين من نار، أو بوجھين مشوّھين بشعين! وعندئذٍ لن
. إننا نجاب بـ «كلاّ». إن صفة التلون ھذه تكون بحيث أننا ـ أنا وأنت ـ نقضي كل 146 تنفعنا نداءاتنا (رَبِّ ارْجِعُونِ)
عمرنا ونحن نظھر التمسك بكلمة التوحيد، وندعي الإِسلام والإِيمان، بل المحبة والمحبوبية، وغير ذلك من
145
سورة الزلزلة، آية 7 ـ 8.
146
سورة المؤمنون، آية: 99.
72
الادعاءات على قدر ما نشتھي ونحب. فإذا كنّا من عامة الناس وعوامھم ادّعينا الإِسلام والإِيمان والزھد
والخلوص. وإِذا كنا من أھل العلم والفقه، ادّعينا كمال الإِخلاص والولاية وخلافة الرسول، متشبثين بما نقل عن
، وبقول الإِمام صاحب الزمان روحي له 147 رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم أنه قال: «اللھُمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي»
. وغير ذلك من الأقوال المنقولة عن أئمة الھدى سلام االله عليھم في شأن العلماء 148 الفداء: «إنّھم حجّتي»
والفقھاء.
وإذا كنّا من أھل العلوم العقلية، ادعينا الإِيمان الحقيقي المبرھن، وزعمنا أننا نملك علم اليقين، وعين اليقين،
وحق اليقين، معتقدين أن سائر خلق االله ناقصو علم وإيمان، ونستشھد بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة الواردة
بحقنا.
وإذا كنا من أھل العرفان والتصوف، ادعينا المعارف الإلھية والانجذاب الروحي والفناء في االله، والبقاء باالله،
وولاية الأمر، وما إلى ذلك من الأقو ال مما يخطر بالبال من الألفاظ الجذابة.
وھكذا فإنّ كل طائفة منا تدعي بلسانھا وظاھر حالھا أن لھا مرتبتھا وإظھار حقيقة من الحقائق الشائعة. فإذا
كان ھذا الظاھر مطابقاً للباطن، واتفق العلن مع السرِّ، وكان صادقاً مصدقاً، فھنيئاً لأرباب النعيم نعيمھم. أما إذا
كان، مثل كاتب ھذه السطور، الأسود الوجه، القبيح، المشوه الخلقة، فليعلم أنه من المنافقين وذوي الوجھين
واللسانين، وعليه أن يبادر إلى علاج نفسه، وأن يغتنم الفرصة قبل فواتھا للخروج من التعاسة والذل والظلام.
أيھا العزيز المدعي للإسلام: قد ورد في «الكافي» حديث شريف عن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم
فلماذا نقوم أنا وأنت وعلى قدر ما نستطيع ونتمكن، 149 أنه قال: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ»
على إيصال الأذى إلى من ھم أقل منّا ولا نمتنع عن ظلمھم والإِجحاف بحقھم؟ وإذا لم تصل أيدينا إليھم فلن
نتوقف عن تجريحھم بحدّ اللسان في حضورھم، أو حتى في غيابھم، فنعمد إلى ھتك أسرارھم، والكشف عن
مكنوناتھم، واغتيابھم، وإلصاق التھم بھم.
إذاً فادعاؤنا نحن الذين لا يسلم المسلمون من أيدينا وألسنتنا، للإِسلام مخالف للحقيقة، وباطننا يخالف
ظاھرنا، وأننا من زمرة المنافقين ومن ذوي الوجھين.
يا من تدّعي الإِيمان وخضوع القلب في حضرة االله ذي الجلال، إذا كنت تؤمن بكلمة التوحيد، ولا يعبد قلبك غير
الواحد، ولا يطلب غيره، ولا ترى الألوھية تستحق إِلاّ لذاته المقدسة، وإذا كان ظاھرك وباطنك يتفقان فيما تدّعي،
فلماذا نجدك وقد خضع قلبك لأھل الدنيا كل ھذا الخضوع؟ لماذا تعبدھم؟ أليس ذلك لأنك ترى لھم تأثيراً في ھذا
العالم، وترى أنّ إرادتھم ھي النافذة، وترى أنّ المال والقوة ھما الطاقة المؤثرة والفاعلة؟ وأ ن ما لا تراه فاعلاً في
ھذا العالم ھو إرادة الحق تعالى، فتخضع لجميع الأسباب الظاھرية، وتغفل عن المؤثر الحقيقي وعن مسبب
جميع الأسباب، ومع كل ذلك تدّعي الإِيمان بكلمة التوحيد. إذاً، فأنت أيضاً خارج عن زمرة المؤمنين، وداخل في
زمرة المنافقين ومحشور مع أصحاب اللسانين.
وأنت يا من تدّعي الزھد والإِخلاص، إذا كنت مخلصاً حقاً، وأنك لأجل االله ولأجل دار كرامته تزھد عن مشتھيات
الدنيا، فما الذي يحملك على أن تفرح بمدح الناس لك والثناء عليك بقولھم أنك من أھل الصلاح والسداد؟ فيملأ
السرور قلبك، ولماذا لا تبخل بشيء في سبيل مجالسة أھل الدنيا وفي سبيل زخارفھا، وتفرّ من الفقراء
والمساكين؟
فاعلم أن زھدك وإخلاصك ليسا حقيقيين، بل أن زھدك في الدنيا ھو من أجل الدنيا، وأن قلبك ليس خالصاً
لوجه االله، وأنك كاذب في دعواك، وأنك من المتلوّنين المنافقين.
وأنت يا من تدّعي الولاية من جانب ولي االله، والخلافة من جانب رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم فإن
كان واقعك مطابقاً للحديث المروي في كتاب «الاحتجاج» : «صَائِنَاً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِھَواهُ، مُطِيعاً لأَمْرِ
147
وسائل الشيعة، المجلد الثامن عشر، أبواب صفات القاضي ص 100 ـ 101.
148
وسائل الشيعة، المجلد الثامن عشر، أبواب صفات القاضي ص 100 ـ 101.
149
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته ح 12.
73
. وإذا كنت ورقة على غصن الولاية والرسالة، ولا تميل إلى الدنيا، ولا تحب التقرب إلى السلاطين 150 مَوْلاه»
والأشراف، ولا تنفر من مجالسة الفقراء، فإن اسمك يطابق مسماه، وأنك من الحجج الإِلھية بين الناس، وإلاّ فإنك
من علماء السوء، وفي زمرة المنافقين، وحالك أسوأ من الطوائف التي ذكرناھا، وعملك أقبح، ويومك أشد سواداً،
لأن الحجة على العلماء أتم.
وأنت يا من تدّعي امتلاك الحكمة الإِلھية، والعلم بحقائق المبدأ والمعاد، إذا كنتَ عالماً بالحقائق في الأسباب
والمسببات، وإذا كنت حقاً عالماً بالصور البرزخية وأحوال الجنة والنار، فلا بُدّ أن لا يقر لك قرار، وعليك أن تصرف كل
وقتك في إعمار عالم البقاء، وأن تھرب من ھذه الدنيا ومغرياتھا، فأنت عالم بما ھنالك من مصائب وظلام وعذاب لا
يطاق. إذاً، لماذا لا تتقدم ولو خطوة واحدة خارج حجب الكلمات والألفاظ والمفاھيم، ولم تؤثر في قلبك البراھين
الفلسفية قدر جناح ذبابة؟ إذاً، أنت خارج عن زمرة المؤمنين والحكماء، ومحشور في زمرة المنافقين، وويل للذي
يقضي عمره وسعيه في علوم ما وراء الطبيعة، دون أن يسمح له انتشاؤه بخمر الطبيعة ولو بدخول حقيقة واحدة
إلى قلبه.
وأنت يا من تدعي المعرفة والانجذاب والسلوك والمحبة والفناء، إذا كنت حقاً من أھل االله ومن أصحاب القلوب،
ومن ذوي السابقة الحسنة، فھنيئاً لك. ولكن كل ھذه الشطحات وھذا التلون وتلك الادعاءات اللامسؤولة التي
تكشف عن حب الذات ووسوسة الشيطان، تتعارض مع المحبة والانجذاب «إنَّ أَوْلِيَائِي تَحْتَ قِبَابِي لاَ يَعْرِفُھُمْ
. فأنت إذا كنت من أولياء االله المنجذبين إليه ومحبيه، فإن االله يعلم بذلك، فلا تظھر للناس مدى مقامك 151 غَيْرِي»
ومنزلتك بھذه الصورة، ولا تسعَ لتلفت قلوب عباد االله الضعيفة من وجھة خالقھا إلى وجھة المخلوق ولا تغتصب
بيت االله. وأعلم أن عباد االله أعزاء وقلوبھم ثمينة ويجب إن تشتغل في محبة االله، فلا تتلاعب إلى ھذا الحد ببيت
االله ولا تتعرض لحرماته «فَإنَّ لِلْبَيْتِ رَبّاً» فإذا لم تكن صادقاً في دعاواك، فأنت في زمرة أھل النفاق ومن ذوي
الوجھين.
لنكتف بھذا القدر ھنا، إذ ليس الإسھاب في ھذا الموضوع مما يجدر بي وأنا ذو الوجه المظلم!.
يا أيتھا النفس اللئيمة التي تتظاھرين بالتفكير للخروج من الأيام المظلمة والنجاة من ھذه التعاسة. إذا كنت
صادقة، وقلبك يواكب لسانك، وسرّك يطابق علنك، فلماذا أنتِ غافلة إلى ھذا الحد؟ ولماذا يسيطر عليكِ القلب
المظلم والشھوات النفسانية وتتغلب عليكِ، دون أن تفكري في رحلة الموت المليئة بالمخاطر؟
لقد تصرّم عمرك دون أن تبتعد عن أھوائك ورغباتك. لقد أمضيت عمراً منغمساً في الشھوة والغفلة والشقاء
وسيحلّ الأجل قريباً، وأنت ما زلت تمارس أعمالك وأخلاقك القبيحة. فأنت نفسك واعظ وغير متعظ، ومن زمرة
المنافقين وذوي الوجھين. ولئن بقيت على ھذا الحال فستحشر بوجھين ولسانين من نار...
اللھم أيقضنا من ھذه الرقدة المديدة، وصَحِّنا من السُكْر والغفلة! وأنر قلوبنا بنور الإِيمان! وأرحم حالنا! إننا لسنا
من رجال ھذا الميدان. فمُدَّ إلينا يدك وأعنّا على النجاة من مخالب الشيطان وأھواء النفس، بحق أوليائك محمد
وآله الطاھرين صلوات االله عليھم أجمعين.
الحديث العاشر: إتباع الھوى وطول الأمل
بالإسناد المتّصلة إلى رئيس المحدِّثين م حمّد بن يعقوب ـ رضوان االله عليه ـ عن الحسين بن محمّد، عن
معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن عاصِمِ بن حُمَيْد، عَنْ أبي حَمْزَةَ، عَنْ يَحْيى بْنِ عَقيل قالَ: قال أمير المؤمنين ـ
عليه السّلام ـ : «إِنَّما أخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ: اتِّبَاع الھَوى وَطُولَ الأمَلِ، أمّا إتِّباعُ الھَوى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الحَقِّ وَأمّا طُولُ
152 الأَمَِل فَإِنَّهُ يِْنسِي الآخرة»
.