الشرح:
إعلم أن الوسوسة والشك والتزلزل والشرك وأشباھھا من الخطرات الشيطانية والإلقاءات الإبليسية التي
تُقذف في قلوب الناس. كما أن الطمأنينة واليقين والثبات والإخلاص وأمثالھا من الإفاضات الرحمانية والإلقاءات
المُلكية. وتفصيل ھذا الإجمال بصورة مختصرة ھو: أن قلب الإنسان شيء لطيف متوسط بين نشأة المُلك ونشأة
الملكوت، بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، عين منه نحو عالم الدنيا والمُلك، وبھا يعمّر ھذا العالم، وعين أخرى منه
نحو عالم الآخرة والملكوت والغيب، وبھا يعمّر عالم الآخرة والملكوت.
فالقلب بمثابة مرآة لھا وجھان، وجه منھا نحو عالم الغيب، وتنعكس فيه الصور الغيبية، ووجه آخر نحو عالم
الشھادة وتنعكس فيه الصور المُلكية الدنيوية. ويتم انعكاس الصور الدنيوية من خلال القوى الحسّية الظاھرية
وبعض القوى الباطنية مثل الخيال والوھم. وتنتقش الصور الأخروية فيھا من باطن العقل وسرّ القلب. فإذا قويت
الوجھة الدنيوية، والتفتت كلياً إلى تعمير الدنيا، وانحصرت ھمته في ھذا العالم واستغرق في ملاذ البطن والفرج،
وكافة المشتھيات والمتع الدنيوية، انعطف باطن الخيال نحو الملكوت السفلي، الذي يكون بمثابة الظل المظلم
لعالم المُلك والطبيعة، وعالم الجن والشياطين والنفوس الخبيثة، وتكون الالقاءات شيطانية، وباعثة على تخيّلات
باطلة وأوھام خبيثة. وحيث أن النفس تنتبه إلى الدنيا، إشتاقت إلى تلك التخيلات الباطلة، وتبعھا أيضاً العزم
والإرادة، وتتحول كل الأعمال القلبية والقالبية إلى سنخ الأعمال الشيطانية من قبيل الوسوسة
والشك والترديد والأوھام والخيالات الباطلة. وتصبح الإرادة على ضوء ذلك في مُلك الجسم فعّالة، وتتجسد
الأعمال البدنية أيضاً حسب الصور الباطنية للقلب، لأن الأعمال صورة وتمثال للإرادات، التي ھي صور ومثال
للأوھام التي بدورھا إنعكاس لاتجاه القلب. وحيث أن وجھة القلب كانت نحو عالم الشيطان، كانت الإلقاءات في
القلب من سنخ الجھل المركب الشيطاني، وفي النھاية تستشري من باطن الذات، الوسوسة والشك والشرك
والشبھات الباطلة وتسري في كل أنحاء الجسم.
وعلى ھذا القياس المذكور، إذا كانت وجھة القلب نحو تعمير الآخرة، والمعارف الحقة، وعالم الغيب، لحصل له
وئام مع الملكوت الأعلى، الذي ھو عالم الملائكة وعالم النفوس الطيبة السعيدة، والذي يكون ھذا العالم بمثابة
الظل النوراني لعالم الطبيعة، واعتبر العلوم التي تفاض عليه من العلوم الرحمانية الملكية والعقائد الحقة وغدت
الخواطر من الإلقاءات والخواطر الإلھية، ويتطھر من الشك والشرك ويتنزه منھما، وحصلت الإستقامة والطمأنينة
في النفس، وصارت أشواقھا أيضاً على ضوء تلك العلوم، وإرادتھا على ضوء تلك الأشواق. ومجمل الكلام أن
الأعمال القلبية والقالبية والظاھرية والباطنية، تتحقق على أساس العقل والحكمة.
ولھذه الإلقاءات الشيطانية والمَلكية والرحمانية مراتب ومقامات، لا تسمح ھذه الصفحات فعلاً في التطرق إلى
تفصيل ذلك.
وتدل على ذلك بعض الأخبار الشريفة، مثل ما ورد في مجمع البيان عن العياشي:
426
أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب العقل والجھل، ح 10.
171
روى العيّاشي بإسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمّد عليھما السّلام قال: قال رسول االله صلى االله
عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلاّ وَلِقَلْبِهِ فِي صَدْرِهِ أُذُنَانِ: أُذُنٌ يَنْفُثُ فِيھَا المَلَكُ وَأُذُنٌ يَنْفُثُ فِيھَا الوَسْوَاسُ
427 الخَنّاسُ، يُؤَيِّدُ االلهُ المُؤْمِنَ بِالمَلَكِ وَھُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَأَيَّدَھُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»
.
وفي مجمع البحرين: في حديث آخر: إنَّهُ قَالَ: «الشَّيْطَانُ واضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، لَهُ خُرْطُومٌ مِثْلُ
إلى غير ذلك من 428 خُرْطُومِ الخَنْزِيرِ، يُوَسْوِسُ لابْنِ آدَمَ أنْ أَقْبِلْ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا لاَ يُحِلُّ االلهُ. فَإِذَا ذَكَرَ االلهَ خَنَسَ»
الروايات.
فصل: الوسوسة من الأعمال الشيطانية
بعد أن علمنا عن طريق أھل المعرفة أن الوسوسة من الأعمال الشيطانية، كما ورد في ھذا الحديث الشريف
الذي نحن بصدد شرحه والأحاديث الأخرى نضطر إلى بيان ھذا الموضوع بطريق آخر يكون أقرب إلى أذھان العامة
وأكثر ملائمةً لھا، رغم أن البيان السابق عند أھله موافق للقواعد العقلية والضوابط البرھانية ومطابق لذوق أھل
المعرفة ومشاھدات أصحاب القلوب، ولكن حيث انه يرتكز على قواعد وأسس خارجة عن مستوى ھذا الكتاب،
ننصرف عن بيانھا ونقتصر على ذكر أصل الموضوع فنقول:
إن الشاھد على أن ھذه الوساوس والأعمال من ألعاب الشيطان وإلقاءات ذلك الملعون، وأنه لا يوجد لھا دافع
ديني وباعث إيماني، رغم زعم صاحبھا أن دافعه أمر ديني، ھو أن ھذه الوساوس تخالف أحكام الشريعة وأخبار
أھل بيت العصمة والطھارة.
مثلاً: وردت في أحاديث متواترة عن طريق أھل بيت العصمة عليھم السلام، كيفية وضوء رسول االله صلى االله
عليه وآله وسلم من أنھا كانت غسلة واحدة. ومن ضروريات الفقه اجزاء غَرفة واحدة للوجه، وغرفة لغسل اليد
اليمنى وغَرفة لغسل اليد اليسرى وأما الإجزاء مع غَرفتين أو غسلتين لكل من الوجه واليد اليمنى واليسرى، فھو
محل خلاف حتى أنه يستفاد من وسائل الشيعة الفتوى بعدم الجواز أو التأمل في عدم الجواز. ونقل عن آخرين
خلاف ذلك. مع أن جواز الغسلتين لا يكون محل تأمل أيضاً. والشھرة العظيمة مع الأخبار الكثيرة دالة على
استحبابه، لكن لا يبعد أفضلية الغسلة الواحدة شريطة أن يصل الماء إلى جميع أطراف العضو الذي نريد أن
نغسله. مع العلم بأن الغَسل ثلاث مرات بأن نصبّ الماء في كل مرة على أن يستوعب الماء العضو المغسول ھو
بدعة وحرام من دون أي محذور، ووضوئه يكون باطلاً إذا مسح مع رطوبة الغسلة الثالثة. وفي أخبار أھل البيت
عليھم السلام أن الغسلة الثالثة بدعة، وكل بدعة في النار.
وعليه فإن الإنسان الجاھل المبتلى بالوسوسة، يغسل أعضاء الوضوء أكثر من عشر مرات وفي كل مرة يوصل
الماء إلى كل أطراف العضو الذي يُريد أن يغسله بدقة متناھية، بل يغسل العضو حتى يجري ماء الوضوء ويتحقق
الغسل الشرعي ثم يكرر الغسل مرات عديدة، فمع أي مقياس نستطيع أن نطبق عمله ھذا؟ ومع أي حديث أو
فتوى فقيه يتطابق عمله؟ لقد صلى المسكين عشرين عاماً أو أكثر مع مثل ھذا الوضوء الباطل، وتظاھر أمام
الناس أنه في منتھى القدسية والطھارة. إن الشيطان قد داعبه والنفس الأمارة بالسوء، قد غرّرته، ومع ھذا كله
يخطيء الآخرين ويرى نفسه مصيباً.
إن الذي يخالف النص المتواتر وإجماع العلماء، ھل يجب أن نعدّه من عمل الشيطان أو من طھارة النفس
وتقواھا؟ فإذا كانت ھذه الوسوسة من جراء منتھى التقوى والاحتياط في الدين فلماذا نجد الكثير من ذوي
الوسوسة التي لا مبرر لھا والجھلة المتنسكين، لا يحتاطون في مواضع يجب الاحتياط فيھا أو يستحب؟ ھل
سمعت أحداً يعيش حالة الوسوسة في الشبھات المالية؟ مَن من الوسواسين دفع الزكاة والخمس مرات عديدة
؟ وذھب إلى الحج لأداء الواجب مرات متكررة؟ وأعرض عن الطعام المشتبه؟ لماذا كانت أصالة الحلية في الأطعمة
المشتبه جارية وأصالة الطھارة في مشكوك النجاسة غير جارية؟ مع أنه في باب مشكوك الحلية من الراجح
427
مجمع البيان، المجلد العاشر، ص 571.
428
مجمع البحرين، مادة خنس، ص 305.
172
. عن أبي عبداالله عليه السلام في حديث قال 429 الاجتناب. وتدل على ذلك الأحاديث الشريفة مثل حديث التثليث
وإنما الأمور ثلاثة: أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدَهُ فَيُتَّبَعْ وَأَمْرٌ بَيِّنٌ غَيَّهُ فَيُجْتَنَبْ وَأَمْرٌ مُشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إِلَى االلهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ـ وفي
باب الطھارة عكس ذلك ـ كُلُّ شَيْءٍ لَكَ طَاھِرٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ نَجِسٌ.
كان أحد الأئمة المعصومين سلام االله عليه وعليھم السلام إذا ذھب لقضاء حاجته رش الماء على فخذيه،
حتى إذا ترشحت لدى الاستبراء أو الاستنجاء قطرات من الماء لم يحسٌ بذلك ـ فھو لم يحتط ولم يتوسوس ـ.
وھذا المسكين الذي يري نفسه محتذياً حذو الإمام المعصوم عليه السلام وآخذاً دينه منه، لا يتقي لدى التصرف
في الأموال، ولا يحتاط تجاه الطعام بل يتّكل على قاعدة أصالة الطھارة ويأكل، ثم يقوم ويغسل فمه ويديه. إنه
حين الأكل يتمسك بأصالة الطھارة وبعد أن يشبع يقول كل شيء نجس، وإذا كان من أھل العلم برّر عمله ھذا
بأنني أريد أن أصلي مع الطھارة الواقعية، مع أننا لم نعرف ميزة للصلاة مع الطھارة الواقعية. ولم ينقل عن أحد من
الفقھاء رضوان االله عليھم اعتبار الطھارة الواقعية في الصلاة. وعليه إذا كنت من أھل الطھارة الواقعية فلماذا لم
تكن من أھل الحلّية الواقعية ؟ وإذا فرضنا أنك أردت الطھارة الواقعية فما معنى الغسل في الماء الكر أو الجاري
عشر مرات؟ مع أنه يكفي الغسل مرة واحدة من غير البول أو بعض النجاسات الأخرى في الماء الجاري أو في
الماء الكر. وأما في البول فتكفي مرة واحدة على المشھور وتكفي مرتان إجماعاً فلا يكون الغسل لمرات عديدة إلا
من تدليس الشيطان وتسويل النفس. وحيث أن ذلك لا يتطلب جھداً منا نجعله رأس المال للتظاھر يالقدسيّة.
وأسوأ من كل ذلك وأكثر فضيحة، وسوسة البعض لدى نية الصلاة وتكبيرة الإحرام، لأنه يرتكب عدة محرمات،
ويعتبر نفسه من المقدسين، ويرى بھذا العمل ميزة لنفسه. ھذه النية التي تتوقف عليھا الأعمال الاختيارية
بأسرھا، وتعدّ من الأمور اللازمة للأعمال الاختيارية، ولا يستطيع الإنسان أن يأتي بعمل من الأعمال العبادية أو
غير العبادية من دونھا، فمع ھذا الوصف ومع مختلف أساليب الشيطنة وھيمنة الشيطان عليه قد يبتلى ساعة أو
ساعات لإنجاز ھذا الأمر الضروري الوجود وفي النھاية قد لا يحصل. فھل إن ھذا الأمر من الخواطر الشيطانية
وأعمال إبليس لعنه االله الذي وضع الطوق واللجام على ھذا المسكين، وأخفى عليه ھذا الأمر الضروري وابتلاه
بالمحرّمات الكثيرة من قبيل قطع الصلاة، وتركھا وتجاوز وقتھا، أو أنه من طھارة الباطن والقدس والتقوى ؟
ومن شؤون الوسوسة عدم الإقتداء بأشخاص حكم عليھم بالعدالة نصاً
وفتوىً، فإن ظاھرھم من أھل الصلاح ومن المحافظين على الأعمال الشرعية وباطنھم معلوم عند االله، ولا
يجب علينا البحث والتفتيش الدقيق عنھم، بل لا يجوز البحث والتحرّي عنھم ومع ذلك نرى الشيطان يلجمه
ويقوده إلى زاوية من زوايا المسجد معتزلاً عن جماعة المسلمين فيصلي فرادى ويعلل عدم التحاقه بالجماعة
بأنني أحتاط ولا أجد توجھاً قلبياً نحو الجماعة ولكنه لا يتضايق من إمامته للجماعة مع أن الإمامة أصعب، ومحل
التباسھا أكثر ولكن لمَّا كانت الإمامة موافقة للرغبات النفسية لا يحتاط في ذلك.
ومن شؤون الوسوسة التي يكثر الابتلاء بھا الوسوسة في قراءة الفاتحة في الصلاة حيث قد تخرج نتيجة
التكرار للحروف أو الكلمات وتفخيمھا من القواعد التجويدية وقد تتغير صورة الكلمة كلياً. مثلاً ينطق حرف الضاد من
كلمة (الضالين) بصورة تقترب من حرف القاف. ويتفوه بالحاء في (الرحمن الرحيم) وكأنه ينطق كلمة غريبة ويفصل
بين حرف وحرف في كلمة واحدة مما يسبب تغييراً في ھيئة الكلمة ومادتھا وتنسلخ الكلمة عن وضعھا الطبيعي.
ومجمل القول إن الصلاة التي تعدّ معراجاً للمؤمن، وقرباناً للمتقين، وعموداً للدين تفرغ من كافة شؤوناتھا المعنوية
وأسرارھا الإلھية وتتحول إلى كلمات يراد لھا التجويد وكيفيّة الإلقاء، ومن ثمَّ ينجرّ تجويد الكلمات، إلى فسادھا
وعدم إجزائھا وكفايتھا بحسب ظاھر الشرع. فھل إن ھؤلاء وفي ھذه الحالات، يعيشون وساوس الشيطان أو
تغمرھم فيوضات الرحمن؟
429
وسائل الشيعة، المجلد 18 الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي، ح 9.
173
لقد وردت روايات كثيرة في حضور القلب لدى الصلاة، والتوجه القلبي في العبادات ولكن ھذا المسكين عرف
من حضور القلب علماً وعملاً، الوسوسة في النية ومدّ كلمة (ولا الضالين) أكثر من القدر اللازم، وتغيير تقاسيم
الوجه والفم حين تلفظ الكلمات.
أليست ھذه بمصيبة حيث أن الإنسان يغفل سنيناً طويلة عن حضور القلب ومعالجة قلقه النفسي ولم يتصدّ
لإصلاحه، ولا يعتبر لحضور القلب شأناً من شؤون العبادة، ولم يتعلم كيفية تحصيله من علماء القلوب ـ العرفاء ـ
ولم يلتزم به، ويشتغل بھذه الأباطيل التي تكون من الخنّاس اللعين حسب نصّ الكتاب الكريم. وأنھا من عمل
الشيطان حسب تصريح الصادِقَين عليھم السلام بذلك. وإن العمل بھا يوجب البطلان، كما ذكرتھا فتاوى الفقھاء
لكنه يعتبر كل ذلك من شؤون الطھارة والقدسية؟
وقد تحدث الوسوسة أو تشتد من جرّاء أن جھلةً مثل ھذا الإنسان الوسواسي يطرون عليه ويعتبرون
وسوسته من الفضائل، ويثنون على ديانته وقدسيته وتقواه، قائلين إنه نتيجة شدَّة دينه وتقواه أصبح وسواسياً،
مع أن الوسوسة لا ترتبط بالديانة أبداً، بل ھي مخالفة للدين ومن ثمار الجھل وعدم العلم. ولكنھم لما لم يبيّنوا له
حقيقة الأمر، ولم يبتعدوا عنه ولم يؤنبوه بل على العكس مدحوه وأثنوا عليه استمر في عمله الشنيع، حتى بلغ
نھايته وجعل نفسه لعبة بيد الشيطان وجنوده، فأقصاه الشيطان من ساحة قدس المقرَّبين.
فيا أيھا العزيز، بعد أن عُلم نقلاً وفعلاً بأن ھذه الوساوس من الشيطان وھذه الخواطر من عمل إبليس، الذي
يفسد عملنا، ويصرف قلوبنا عن الحق المتعالي. ومن المحتمل أنه لا يكتفي بھذه الوسوسة في العمل، بل يبدي
البراعة ليدخل الوسوسة في العقيدة والدين، ويبعد دينك عن دين االله ويجعلك شاكاً في المبدء والمعاد ويدفعك
إلى الشقاء الأبدي. وإذا لم يستطع أن يضلّل أشخاصاً عبر الفسق والفجور، فھو يسلك سبيل العبادات والمناسك
فيبطل نھائياً الأعمال والأفعال التي يجب أن يتقرب بھا إلى االله، ونعرج من خلالھا إلى الحق المتعالي، ويجعلھا
دوافعاً للابتعاد عن ساحة القدس الربوبي جل شأنه والتقرب من إبليس وجنوده. وعلى أي حال يخشى من أن
يعبث في عقائدك. بعد علمنا ذلك لا بد من السعي في سبيل معالجة ھذه الحالة بأي شكل كان وبواسطة أي
ترويض روحاني ممكن.
فصل: معالجة الوسوسة عن طريق العلم والعمل
إعلم أن معالجة ھذه الآفة القلبية التي يخشى منھا أن تؤدي بالإنسان إلى الھلاك الأبدي والشقاء الدائم،
كبقية الأمراض القلبية، يمكن أن تتم بواسطة العلم النافع والعمل بكل سھولةٍ ويسرٍ. فيجب أولاً أن يشعر الإنسان
بأنه سقيم، حتى يسعى في سبيل المعالجة. ولكن النقص يكمن في أن الشيطان قد يزين له الأمور على
مستوى لا يرى فيه ھذا المسكين نفسه مريضاً، وإنما الآخرون يرونه منحرفاً عن السبيل وغير مكترث بالدين.
أما المعالجة لھذه الآفة القلبية بواسطة العلم فيكون بالتفكر في ھذه الأمور المذكورة، حيث يجدر بالإنسان أن
تكون أعماله وأفعاله نتيجة التفكر والتأمل. بأن يفكر في أن ھذا العمل الذي يريد أن ينجزه ويريد أن يجعله مرضياً
الله تعالى من أي مصدر يكون وممن يؤخذ حتى تكون كيفيته بذلك الشكل المخصوص؟ ومن الواضح أن العوام من
الناس يأخذون من الفقھاء كيفية العمل ومراجع التقليد يستنبطونھا من الكتاب والسنة والقواعد الفقھية. وعندما
نرجع إلى الفقھاء نسمع منھم القدح في عمل الوسواسي، ويرون بعض أعماله باطلة، وعندما نرجع إلى
الأحاديث الشريفة، والكتاب الإلھي نجد بأن عمله يعتبر من الشيطان ويجعل صاحبه مجنوناً. إذن إن الإنسان
العاقل إذا فكر وتدبر قليلا قبل أن يھيمن الشيطان على عقله لأوجب على نفسه الإقلاع عن ھذا العمل الفاسد،
ولسعى في سبيل تصحيح عمله حتى يكون مرضياً عند الحق المتعال.
ويجب على كل من يشك في حصول الوسوسة عنده، أن يكون مثل الناس العوام، في عرض عمله على
العلماء والفقھاء، والاستفھام منھم بأنه ھل ابتلي عمله بمرض الوسوسة أم لا؟ لأنه كثيراً ما يكون الإنسان
الوسواسي غافلاً عن حاله ومعتقداً بأنه معتدل وأن الآخرين غير مكترثين بالدين. ولكنه إذا فكّر قليلاً، لوجد أن
174
مصدر ھذا الاعتقاد ھو الشيطان وإلقاءاته الخبيثة، لأنه يرى بأن العلماء والفقھاء الكبار ومن الذين يؤمن بعلمھم
وعملھم، بل ويكونون مراجع المسلمين في أخذ مسائل الحلال والحرام منھم، يعملون بما يُغاير عمله. ولا
يستطيع القول بأن الملتزمين غالباً والعلماء والفقھاء لا يحفلون بدين االله وأن الإنسان الوسواسي وحده يتقيد
بالدين.
وعندما أدرك ضرورة إصلاح العمل، دخل مرحلة العمل، والعمدة في ھذه
المرحلة عدم الاھتمام بالوساوس الشيطانية والأوھام التي تلقى عليه. فمثلاً إذا كان ـ مجتھداً ـ ومبتلياً
بالوسوسة في الوضوء، فليتوصأ مع غَرفة واحدة رغم وسوسة الشيطان. إن الشيطان يوسوس ويقول بأن ھذا
العمل ليس بصحيح ولكن يواجھه بأن عملي لو لم يكن صحيحاً لوجب أن لا يكون عمل رسول االله صلى االله عليه
وآله وسلم والأئمة الطاھرين عليھم السلام والفقھاء جميعاً صحيحاً. لأن رسول االله صلى االله عليه وآله وسلم
والأئمة الطاھرين قد توضأوا في فترة طويلة تقرب من ثلاثمائة سنة، وكانت كيفية وضوء جميعھم واحدة. فإذا كان
عملھم باطلاً، فليكن عملي باطلاً أيضاً. وإذا كنت مقلداً لمجتھد، فأجب الشيطان بأنني أعمل على ضوء فتوى
المجتھد، فإذا كان وضوئي باطلاً، فلا يؤاخذني ربي عليه، ولا تكون عليّ حجته. وإذا أوقعك الشيطان الملعون في
الشك قائلاً بأن المجتھد لم يقل ھكذا فافتح رسالته العلمية وتأكد من صحة العمل، فإذا لم يعبأ بإلقاءاته عدة
مرات وعملت على خلاف رأيه غدا آيساً منك. ونرجو أن تكون المعالجة النھائية لمرضك. كما ورد ھذا المعنى في
الأحاديث الشريفة:
فعن الكافي بإسناده عن زرارة وأبي بصير قالا: «قُلْنَا لَهُ: الرَّجُلُ يَشُكُ كَثيراً في صَلاَتِهِ حَتَّى لا يَدْري كَمْ صَلّى
وَلاَ مَا بِقِيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: يُعيدُ. قُلْنَا لَهُ: فَإِنَّهُ يَكْثُر عَلَيْهِ ذلِكَ، كُلَّمَا أَعَادَ شَكَّ. قَالَ: يَمْضِي فِي شَكِّهِ، ثُمَّ قَالَ: لاَ
تُعَوِّدُوا الخَبِيثَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِنَقْضِ الصّلاةِ فَتُطْمِعوهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ خَبِيثٌ يَعْتَادُ لِمَا عُوِّدَ، فَلْيَمْضِ أَحَدُكُمْ فِي الوَھْمِ
وَلاَ يُكْثِرَنَّ نَقْضَ الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذلِكَ مَرّاتٍ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ الشَّكُّ. قَالَ زُرَارَةُ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا يُريدُ الخَبيثُ أَنْ يُطاعَ فَإِذَا
430 عُصِيَ لمْ يَعُدْ إِلَى أَحَدِكُمْ.»
.
وبإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قالَ: «إذا كَثُرَ عَلَيْكَ السَّھْوُ فَامْضِ فِي صَلاَتِكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَدَعَكَ إِنَّمَا
431 ھُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ»
.
ومن الوضوح بمكان أنك إذا خالفت الشيطان فترة من الزمان، ولم تلق بالاً لوساوسه، لا نقطع طمعه عنك،
وعادت الطمأنينة والسكون إلى نفسك. ولكن في غضون أيام تصدّيك للشيطان، تضرّع إلى ساحة الحق المتعالي
والتجئ إلى ذاته المقدس من شرّ ذاك الملعون وشر النفس، واستعذ باالله منه وھو يعينك عليه كما ورد في
الكافي الأمر بالاستعاذة من الشيطان.
بإسناده عن أبي عبد االله عليه السلام قال: «أتى رَجُلٌ النَّبيَّ صلّى االله عليه وآله وسلم فقالَ: يا رَسولَ االلهِ
أشكو إلَيْكَ مَا ألقىَ مِنَ الوَسْوَسَةِ فِي صَلاَتِي حَتّى لاَ أَدْرِي مَا صَلَّيْتُ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَقالَ إِذَا دَخَلْتَ فِي
صَلاَتِكَ فَاطْعَنْ فَخِذَكَ الأَيْسَرَ بِأصْبَعِكَ اليُمْنَى المُسَبِّحَةِ ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ االله وَبِاالله، تَوَكَّلْتُ عَلَى االله، أعوذُ بِاالله
432 السَّمِيع العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم، فَإِنَّكَ تَنْحَرُهُ وَتَطْرُدُهُ»
.
والحمد الله أَوَّلاً وَأخراً وظاھراً وباطناً، والصَّلاة والسّلام على محمّدٍ وآله الطاھرين.