لقلوب، سواء أن يأتي بالعمل نفسه بقصد الرياء، وبكيفيته، أو شرطه أو جزئه بقصد الرياء على الشكل المذكور
في الكتب الفقھية. ثانيھما: أن يترك عملاً محرماً أو مكروھاً بنفس الھدف المذكور.
ونحن نشرح في ھذه الأوراق، بعضاً من مفاسد كلّ واحد من ھذه المقامات الثلاثة ونشير إلى ما يبدو علاجاً
لھا على نحو الاختصار.
المقام الأول: الرياء
وفيه عدة فصول
فصل:
اعلم أن الرياء في أصول العقائد والمعارف الإلھية أشد من جميع أنواع الرياء عذاباً وأسوأھا عاقبة، وظلمته
أعظم وأشد من ظلمات جميع أنواع الرياء. وصاحب ھذا العمل إذا كان في واقعه لا يعتقد بالأمر الذي يظھره، فھو
من المنافقين، أي أنه مخلَّد في النار، وأن ھلاكه أبديّ، وعذابه أشدّ العذاب.
وأما إذا كان معتقداً بما يظھر، لكنه يظھر من أجل الحصول على المنزلة والرتبة في قلوب الناس، فھذا
الشخص وإن لم يكن منافقاً إلاّ أن رياءه ي ؤدي إلى اضمحلال نور الإيمان في قلبه، ودخول ظلمة الكفر إلى قلبه،
فإن ھذا الشخص يكون مشركا في الخفاء، لأن المعارف الإلھية والعقائد الحقة، التي يجب أن تكون خالصة الله،
ولصاحب تلك الذات المقدسة، قد حوّلھا ـ المرائي ـ إلى الناس، وأشرك فيھا غيره، وجعل الشيطان متصرفاً فيه،
فھذا القلب ليس الله.
ونحن سنذكر في أحد الفصول؛ أن الإيمان من الأعمال القلبية، وليس ھو مجرد علم، وقد جاء في الحديث
الشريف: «كُلُ رِيَاءٍ شِرْكٌ».
ولكن ھذه الفجيعة الموبقة، وھذه السريرة المظلمة، وھذه الملكة الخبيثة، تؤدي بالإنسان في النھاية، إلى
أن تصبح دار قلبه مختصة بغير االله، وتؤدي ظلمة ھذه الرذيلة بالإنسان تدريجياً إلى الخروج من ھذه الدنيا بدون
إيمان.
وھذا الإيمان الذي يمتلكه ھو صورة بلا معنى، وجسد بلا روح، وقشر بلا لب، ولا يكون مقبولاً عند االله تعالى،
كما أشير إليه في حديث مذكور ف كتاب الكافي، عن علي بن سالم، قال: «سَمِعْتُ أبا عَبْدِااللهُ عليه السّلام
16 يقولُ: قالَ االلهِ عزَّ وجلَّ: أَنَا خُيْرُ شَرِيكٍ مَنْ أَشْرَكَ مَعِي غيرِي فِي عَمَل عَمِلَهُ لَمْ أَقْبَلُهُ إلاّ مَا كَانَ لِي خَالِصاً»
.
وبديھي أن الأعمال القلبية في حال عدم خلوصھا لا تصبح مورداً لتوجه الحق تعالى ولا يتقبلھا بل يوكلھا إلى
الشريك الآخر، الذي كان يعمل له ذلك الشخص مراءاة. إذاً فالأعمال القلبية تصبح مختصة بذلك الشخص، وتخرج
من حدّ الشرك، وتدخل إلى الكفر المحض. بل ويمكن القول إن ھذا الشخص ھو من جملة المنافقين. وكما أن
شركه خفي فنفاقه خفي أيضاً، فھذا المسكين يتصور أنه مؤمن ولكنه مشرك منذ البداية، وفي النتيجة ھو
منافق. وعليه أن يذوق عذاب المنافقين، وويل للذي ينتھي عمله إلى النفاق.
فصل: في بيان أن العلم يغاير الإيمان
اعلم أن الإيمان غير العلم باالله ووحدانيته وسائر الصفات الكمالية الثبوتية والجلالية السلبية، والعلم بالملائكة
والرسل والكتب ويوم القيامة. وما أكثر من يكون له ھذا العلم ولكنه ليس بمؤمن. الشيطان عالم بجميع ھذه
المراتب بقدر علمنا وعلمكم، ولكنه كافر. بل إن الإيمان عمل قلبي، وما لم يكن ذلك فليس
ھناك إيمان. فعلى الشخص الذي علم بشيءٍ عن طريق الدليل العقلي أو ضروريات الأديان، أن يسلّم لذلك
قلبه أيضاً، ولأن يؤدي العمل القلبي الذي ھو نحو من التسليم والخضوع، ونوع من التقبل والاستسلام ـ عليه أن
يؤدي ذلك ـ لكي يصبح مؤمناً.
وكمال الإيمان ھو الاطمئنان. فإذا قوي نور الإيمان تبعه حصول الاطمئنان في القلب، وجميع ھذه الأمور ھي
غير العلم. فمن الممكن أن يدرك العقل بالدليل شيئا لكن القلب لم يسلم بعد، فيكون العلم بلا فائدة. مثلاً أنتم
16
أصول الكافي ـ المجلد الثاني ـ كتاب الإيمان والكفر ـ باب الرياء ـ ح 9.
16
أدركتمبعقولكم أن الميت لا يستطيع أن يضرّ أحداً، وأن جميع الأموات في العالم ليس لھم حس ولا حركة بقدر
ذبابة، وأن جميع القوى الجسمانية والنفسانية قد فارقته ولكن حيث أن القلب لم يتقبل ھذا الأمر ولم يسلم أمره
للعقل، فإنكم لا تقدرون على مبيت ليلة مظلمة واحدة مع ميت!!
وأما إذا سلّم القلب أمره للعقل، وتقبل ھذا الحكم منه، فلن يكون في ھذا العمل ـ أي المبيت مع الميت ـ أي
إِشكال بالنسبة إليكم، كما أنه وبعد عدة مرات من الإقدام، يصبح القلب مسلّماً، فلن يبقى عنده بعدھا بأس أو
خوف من الميت.
إذاً؛ أصبح معلوماً أن التسليم ـ وھو من حظ القلب ـ غير العلم الذي ھو من حظ العقل.
ومن الممكن أن يبرھن إنسان بالدليل العقلي، على وجود الخالق تعالى والتوحيد والمعاد وباقي العقائد الحقة
ولكن ھذه العقائد لا تسمى إيمانا، ولا تجعل الإنسان مؤمنا، وإنما ھو من جملة الكفار أو المنافقين أو المشر
كين. فاليوم العيون مغشّاة، والبصيرة الملكوتية غير موجودة، والعين الملكية لا تُدرك، ولكن عند كشف السرائر،
وظھور السلطة الإلھية الحقة، وخراب الطبيعة وانجلاء الحقيقة، سيعرف ويلتفت بأن الكثيرين لم يكونوا مؤمنين
باالله حقا، وأن حكم العقل لم يكن مرتبطا بالإيمان، فما لم تكتب عبارة «لا إله إلا االله» بقلم العقل على لوح القلب
الصافي لن يكون الإنسان مؤمنا بوحدانية االله.
وعندما ترد ھذه العبارة النورانية الإلھية على القلب، تصبح سلطة القلب لذات الحق تعالى، فلا يعرف الإنسان
بعدھا شخصا آخر مؤثرا في مملكة الحق، ولا يتوقع من شخص آخر جاھا ولا جلالا، ولا يبحث عن المنزلة
والشھرة عند الآخرين.
ولا يصبح القلب مرائيا ولا مخادعا حينئذ. وإذا رأيتم رياء في قلوبكم، فاعلموا أن قلوبكم لم تسلّم للعقل، وأن
الإيمان لم يقذف نوره فيھا، وأنكم تعدون شخصا آخر إلھا ومؤثرا في ھذا العال، لا الحق تعالى، وأنكم في زمرة
المنافقين أو المشركين أو الكفار.
فصل: في وخامة أمر الرياء
تأمل أيھا الشخص المرائي... يا من أودعت العقائد الحقة والمعارف الإلھية بيد عدو االله، وھو الشيطان،
وأعطيت ما ھو مخصوص بالحق تعالى للآخرين، وبدّلتَ تلك الأنوار التي تضيء الروح والقلب وھي رأسمال النجاة
والسعادة الأبدية ومنبع اللقاء الإلھي وبذرة القرب من المحبوب أبدلتھا بظلمات موحشة وشقاء أبدي وجعلتھا
رأسمال البُعد والابتعاد عن ساحة المحبوب المقدسة، والابتعاد عن لقاء االله تعالى.
تھيأ، أيھا المرائي، للظلمات التي لا نور بعدھا، وللشدائد التي لا فرج لھا، وللأمراض التي لا يرجى شفاؤھا،
وللموت الذي لا حياة معه، وللنار تخرج من باطن القلب فتحرق ملكوت النفس وملك البدن حرقاً لم يخطر على
قلبي وقلبك، والتي يخبرنا عنھا االله تعالى في كتابه المنزل في الآية الشريفة {نَارُ اللَّهِ الْ مُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ
. حيث تحدثت عن نار االله، ھذه النار التي تتسلط على القلوب فتحرقھا، وليست ھناك نار تحرق 17 عَلَى الأَفْئِدَةِ}
سوى النار الإلھية فإذا فقدت فطرة التوحيد ـ وھي فطرة االله ـ وحلَّ محلھا الشرك والكفر، حينئذ لن تكون شفاعة
الشافعين من نصيب الإنسان بل يخلد الإنسان في العذاب، وما أدراك ما العذاب؟ إنه العذاب الذي ينبعث عن
الغضب الإلھي.
إذاً أيھا العزيز... من أجل خيال باطل ومحبوبية بسيطة في أعين العباد الضعاف، ومن أجل جذب قلوب الناس
المساكين، لا تعرض نفسك للغضب الإلھي، ولا تبع ذلك الحب الإلھي وتلك الكرامات غير المحدودة، وتلك الألطاف
والعنايات الربانية، لا تبعھا بمحبة بسيطة عند مخلوق ليس له أثر، ولا تكسب منه أيّة ثمرة سوى الندامة
والحسرة، عندما تقصر يداك عن ھذا العالم ـ وھو عالم الكسب ـ، وعندما ينقطع عملك، وليس للندم حينئ نتيجة
ولا للإنابة من فائدة.
17
سورة الھمزة: آية 6 ـ 7.
17
فصل: تنبيه علمي لاستئصال جذور الرياء
نذكر ھنا أمراً نأمل أن يكون مؤثراً في علاج ھذا المرض القلبي سواء في ھذا المقام أو المقامات الأخرى،
وھذا الأمر مطابق للبرھان ـ الدليل ـ والمكاشفة والعيان وأخبار المعصومين وكتاب االله، وللعقل حيث يصدق عقول
الناس.
وھو أنه نتيجة لإحاطة قدرة االله تبارك وتعالى بجميع الموجودات، وبسطة لسلطانه على جميع الكائنات،
وإحاطة قيمومته بجميع الممكنات، فإن قلوب العباد جميعا تكون تحت تصرفه وبيد قدرته وفي قبضة سلطانه، ولا
يتصرف ـ ولن يتصرف ـ أحد في قلوب العباد بدون أذنه القيومي وإجازته التكوينية. وحتى أصحاب القلوب أنفسھم
ليست لھم القدرة على التصرف في قلوبھم بدون إذن من االله تعالى. وبھذا المعنى وردت كلمات، إشارة وكناية
وصراحة في القرآن وفي أخبار أھل البيت «عليھم السلام».
إذاً، فاالله تعالى ھو مالك القلب وا لمتصرف فيه وأما العبد الضعيف العاجز فلا يستطيع أن يتصرف بقلبه بدون
إذنه، بل إن إرادته قاھر لإرادتك ولإرادة جميع الموجودات. إذن فرياؤك وتملقك، إذا كانا لأجل جذب قلوب العباد،
ولفت نظرھم، ومن أجل الحصول على المنزلة والتقدير في القلوب والاشتھار بالصلاح، فإن ذلك خارج كلية عن
تصرفك، وھو تصرف االله، فإله القلوب وصاحبھا يوجه القلوب نحو من يشاء بل من الممكن أن تحصل على نتيجة
عكسية. وقد رأينا وسمعنا أن أشخاصا متملقين ومنافقين ممن لم تكن لھم قلوب طاھرة، قد افتضحوا وبان زيفھم
ففرض عل يھم عكس ما أرادوا الحصول عليه من النتائج في نھاية
الأمر. لقد وردت الإشارة إلى ھذا المعنى في الحديث الشريف في الكافي: «عن جرّاحٍ المَدائني، عَنْ أبي
عَبْدِاالله عليه السّلام في قَوْلِ االلهِ عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ
..» قال عليه السلام: الرَّجُلُ يَعْمَلُ شَيْئاً مِنَ الثَّوابِ لاَ يَطْلبُ بِهِ وَجْهَ االلهِ، إِنَّما يَطْلُبُ تَزْكِيَةَ النَّاسِ يَشْتَھي 18 أَحَدًا}
أَنْ يَسْمَعَ به النَّاسُ فَھذا الَّذي أَشْرَكَ بِعِبَادةِ رَبّه. ثُمَّ قال: «مَا مِنْ عبد أَسَرَّ خَيْراً فَذَھَبَتِ الأَيّامُ أَبَداً حتى يُظْھِرَ االلهُ
19 لَهُ خَيْراً، وَمَا مِنْ عَبْدٍ أسرَّ شَرّاً فَذَھَبَتِ الأَيّامُ أَبداً حَتَّى يُظْھِرُ االلهُ لَهُ شَراً»
.
إذاً أيھا العزيز، أطلب السمعة والذكر الحسن من االله، التمس قلوب الناس من مالك القلوب، أعمل أنت الله
وحده فستجد أن االله تعالى ـ فضلاً عن الكرامات الأخروية ونعم ذلك العالم ـ سيتفضل عليك في ھذا العالم نفسه
بكرامات عديدة، فيجعلك محبوباً، ويعظم مكانتك في القلوب، ويجعلك مرف وع الرأس ـ وجيھاً ـ في كلتا الدارين.
ولكن إذا استطعت فخلّص قلبك بصورة كاملة بالمجاھدة والمشقة، من ھذا الحب أيضاً، وطھِّر باطنك، كي يكون
العمل خالصا من ھذه الجھة، ويتوجه القلب إلى االله فقط حتى تطھر الروح، وتزول أدران النفس. فأية فائدة تجني
من حب الناس الضعاف لك، أو بغضھم، أو من الشھرة والصيت عند العباد وھم لا يملكون شيئا من دون االله
تعالى؟ وحتى لو كانت له فائدة ـ على سبيل الفرض ـ فإنما ھي فائدة تافھة ولأيام معدودات، ومن الممكن أن
يسوق ھذا الحب عاقبة عمل الإنسان إلى الرياء، وأن يجعل الإنسان ـ لا سمح االله ـ مشركا ومنافقا وكافرا. وأنه
إذا لم يفتضح في ھذا العالم، فسيفتضح في ذلك العالم في محضر العدل الرباني، عند عباد االله الصالحين وأنبيائه
العظام وملائكته المقربين، ويھان ويصبح مسكينا. إنھا فضيحة ذلك اليوم، وما أدراك ما تلك الفضيحة، واالله يعلم أي
ظلمات تلي تلك المھانة في ذلك المحضر! إن ذلك اليوم ـ كما يقول االله تعالى في كتابه ـ يتمنى الكافر فيه قائلا:
{يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}
20
.، ولكن لا جدوى لھذا التمني.
أيھا المسكين، إنك ولأجل محبة بسيطة، جزئية، ومنزلة عديمة الفائدة بين العباد، تجاوزت تلك الكرامات
وفقدت رضا االله، وعرضت نفسك لغضب االله.
لقد استبدلت الأعمال التي كان ينبغي أن تھيئ بھا دار الكرامة في الآخرة، وتوفر الحياة السعيدة الدائمة
وتصل بواسطتھا إلى أعلى عليين في الجنان استبدلتھا بظلمات الشرك والنفاق وأعددت لنفسك الحسرة
18
سورة الكھف، آية: 11.
19
أصول الكافي ـ المجلد الثاني ـ باب الرياء ـ ح4.
20
سورة النبأ، آية: 40.
18
والندامة والعذاب الشديد، وجعلت نفسك من أھل «سِجِّين»، بالصورة التي وردت في الحديث الشريف في
الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: «قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلّى االله عَلَيهِ وآلِهِ وَسَلَّم: إِنَّ المَلَكَ لَيَصْعَدُ يِعَمَل العَبْدِ
21 مُبْتَھِجَاً بِهِ فَإِذا صَعَدَ بِحَسَنَاتِهِ، يَقُولُ االلهُ عَزَّ وَجَلَّ، اجُعَلوھَا فِي سّجِّينٍ، إِنَّهُ لَيْسَ إِيايَ أَرَادَ بِھَا»
.
إننا ھنا وفي ھذا الحال، لا نستطيع أن نتصور «سجين» ولا أن نفھم ديوان، عمل «الفُجّارِ»، ولا أن نرى صور
ھذه الأعمال وھي في سجين.. وسنرى حقيقة الأمر في أحد الأيام ولكن عندھا تقصر أيدينا عن العمل ولا سبيل
حينئذ للنجاة.
أيھا العزيز.. ! استيقظ وأبعد عنك الغفلة والسكرة وزن أعمالك بميزان العقل قبل أن توزن في ذلك العالم،
وحاسب نفسك قبل أن تُحاسب، وآجلُ مرآة القلب من الشرك والنفاق والتلوّن، ولا تدع صدأ الشرك والكفر يحيط
به بمستوىً لا يمكن جلاؤه حتى بنيران ذلك العالم، لا تدع نور الفطرة يتبدل بظلمة الكفر، لا تدع ھذه الآية {فِطْرَةَ
.. أن تضيع لا تخنْ ھذه الأمانة الإلھية بھذا النحو، نظّف مرآة قلبك لكي يتجلّى فيھا 22 اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاَ عَلَيْھَا..}
نور جمال الحق فيغنيك عن العالم وكل ما فيه. ولكي تتوھج نار الحب ـ العشق ـ الإلھي في قلبك، فتحرق الأنواع
الأخرى من الحب، ولا تستبدل حينذاك جميع ھذا العالم بلحظة واحدة من الحب الإلھي، ولكن تحصل على لذة
في مناجاة االله وذكره، تعتبر غيرھا من جميع اللذات الحيوانية، لعباً ولھواً. وإذا لم تكن من أھل ھذه العوالم، وترى
ھذه المعاني غريبة وعجيبة لديك فإياك أن تضيع تلك النعم الإلھية في العالم الآخر المذكورة في القرآن المجيد
وأخبار المعصومين عليھم السلام وتخسرھا من أجل جذب قلوب المخلوقين... لا تُضيّع كل ھذا الثواب من أجل
شھرة وھمية في أيام معدودات، لا تحرم نفسك من كل ھذه الكرامات، لا تبع السعادة الأبدية بالشقاء الدائم.
فصل: في الدعوة إلى الإخلاص
إعلم أن مالك الملوك الحقيقي وولي النعمة الواقعي، الذي تفضّل علينا بكل ھذه الكرامات، وھيأ لنا كل ھذه
النعم، قبل المجيء إلى ھذا العالم، من الغذاء الطيب ذي المواد النافعة المناسبة لمعدتنا الضعيفة، ومن المربّي
الخادم بلا منّة بل بفعل الحب الفطري الذاتي. وھيأ لنا البيئة والھواء المناسبين وباقي النعم العظيمة الظاھرة
والباطنة. كما أعدَّ لنا الكثير في العالم الآخر وفي البرزخ قبل ذھابنا إلى ھناك، ھذا المتفضل قد طلب منا قائلا:
«أخلص قلبك لي ولأجل كرامتي، كي تحصل أنت على النتيجة، وتحصل أنت على الفائدة» ومع ذلك لا يلقى
منا أذناً صاغية بل يرى التمرد والسير على خلاف رضاه، فأي ظلم عظيم نكون قد اجترحناه بذلك؟! وأي مالك
الملوك نحارب؟! ونتيجة ذلك كله تكون وبالاً علينا نحن، أما االله تعالى فلا يصاب سلطانه بضرر ولا ينقص من ملكه
شيء ولا نخرج من سلطنته وسلطت، حتى إذا كنا مشتركين لأننا ألحقنا الضرر بأنفسنا، {... فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ
. فھو غني عن عبادتنا وإخلاصنا وعبوديتنا، ولا يؤثر تمرّدنا وشركنا وابتعادنا عنه شيئاً في مملكته، 23 الْعَالَمِينَ}
وحيث أنه أرحم الراحمين فقد اقتضت رحمته الواسعة وحكمته البالغة أن يعرض لنا طريق الھداية وسبيل الخير
والشر والحسن والقبح ويدلنا على زلاّت طريق الإنسانية، ومزالق طريق السعادة، والله تعالى في ھذه الھداية
والإرشاد بل في ھذه العبادات والإخلاص والعبودية، له سبحانه علينا منن عظيمة وجسيمة بحيث لا يمكن أن
نفھمھا ما لم تنفتح عين البصيرة والبرزخية التي ترى الواقع، وما دمنا في ھذا العالم الضيق والمظلم، وفي ظلام
الطبيعة، وما دمنا مقيدين بسلاسل الزمان، معتقلين في ھذا المكان السجن المظلم فإنّا لا ندرك منن االله
العظيمة علينا، ونتخيل بأن نعم االله علينا تتلخص في ھذا الإخلاص وھذه العبادة، وفي ذلك الإرشاد وتلك الھداية
فحسب.
لا تتوھم أبدا أن لنا المنة على الأنبياء العظام والأولياء الكرام على علماء الأمة وھم الأدلاّء إلى سعادتنا
ونجاتنا، والذين أنقذونا من الجھل والظلمة والشقاء، أخذونا إلى عالم النور والسرور والبھجة والعظمة والذين
تحملوا ولا يتحملون كل ھذه المشاق والمصاعب من أجل تربيتنا وإنقاذنا من تلك الظلمات التي تلازم الاعتقادات
21
أصول الكافي ـ المجلد الثاني ـ كتاب الإيمان والكفر ـ باب الرياء ـ ح 7.
22
سورة الروم، آية: 30.
23
سورة آل عمران، آية: 97.
19
الباطلة، ومن الجھل المركب بكل أشكاله، ومن أنواع الضغوطات والعذاب الذي ھو صورة الملكات والأخلاق الرذيلة،
ومن تلك الصور الموحشة والمرعبة التي ھي ملكوت أعمالنا وأفعالنا القبيحة ـ وكذلك ـ لأجل إيصالنا إلى تلك
الأنوار وأنواع البھجة والسرور والراحة والأنس والنعيم والحور والقصور التي لا نقدر أن نتصورھا، حيث أن عالم الملك
ھذا مع كل ما له من عظمة، أضيق من أن يحتوي على واحدة ن حُلل الجنة، وأن أعيننا لا تطيق رؤية شعرة
واحدة من شعر حور العين، وتكون كل ھذه المثوبات صورا ملكوتية لتلك العقائد والأعمال والتي أدركھا الأنبياء
العظام، خصوصا صاحب الكشف الكلي والكتاب الجامع خاتم الأنبياء صَلّى االله عَلَيهِ وآلِهِ وَسَلَّم، أدركوھا بالوحي
الإلھي ورأوھا وسمعوھا ودعونا إليھا. ونحن المساكين كالأطفال، المتمردين على حكم العقلاء بل المخطئين
لھم، قد واجھناھم دائما بالعناد والمحاربة والانفصال، ولكن تلك النفوس الزكية والأرواح الطيبة الطاھرة ـ الأنبياء ـ
بما يكمن فيھم من الرأفة والرحمة بعبادة االله، لم يقصّروا أبدا في دعوتھم، على الرغم من جھلنا وعنادنا، بل
ساقونا نحو الجنة والسعادة بكل ما يملكون من القوة وأساليب الدعوة أن ينتظروا منا جزاءً ولا شكورا.
وحتى عندنا يحدد الرسول الأكرم صَلّى االله عَلَيهِ وآلِهِ وَسَلَّم أجره بـ «المودَّة في القُرْبَى»، فإن صورة ھذه
المودة في العالم الآخر قد تكون بالنسبة إلينا أعظم الصور نورا وعطاءا. وھذا ھو أيضا من أجلنا نحن ومن أجل
وصولنا إلى السعادة
والرحمة. إذاً، فأجر الرسالة عائد إلينا أيضا، ونحن الذين ننتفع به، فأية منّة لنا نحن المساكين عليھم؟!... وأية
فائدة تعود عليھم ـ سلام االله عليھم ـ من إخلاصنا لھم وتعلقنا بھم؟!... أية منّة لكم ولنا على علماء الأمة؟ بدءاً
من ذلك العالم الذي يوضح ويبين لنا الأحكام الشرعية، إلى النبي الأكرم صلّى االله عليه وآله وسلم وإلى ذات االله
المقدسة جلَّ جلاله فإن لكل منھم حسب درجته ومقامه من حيث إرشادھم لنا إلى طريق الھداية مِنَناً لا
نستطيع مكافأتھم عليھا في ھذا العالم، فھذا العالم لا يليق بجزائھم... {فَلِلَّهِ وَلرَسُولهِ وَلأولِيَائِهِ المنّة} وكما يقول
تعالى: {... قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ ھَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ
. إذاً، فإن كنّا صادقين في ادعاء الإيمان، فلله المنّة علينا في ھذا 24 السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
الإيمان نفسه. فاالله بصير وعالم بالغيب، وھو يعلم ماھية صور أعمالنا، وكيفية صورة إيماننا وإسلامنا في عالم
الغيب. أما نحن المساكين حيث لا نعرف الحقيقة، فإننا نتعلم العلم من العالم ونمنّ عليه، ونصلّي جماعة مع
العالم ونمنّ عليه، مع أن لھم المنّة علينا ونحن لا نعلم. بل وإن ھذه المنّة التي نمنُّ بھا عليھم ھي التي تحبط
أعمالنا وتجرّھا إلى «سجين»، وتذروھا في الھواء لكي تفني وتذھب.
المقام الثاني: الرياء
وفي فصلان:
الفصل الأول: الرياء في العمل
اعلم أن الرياء في ھذا المقام، وإن لم يكن بحجم المقام الأول ـ من الدفع نحو الكفر ـ إلاّ أنه، بعد الالتفات إلى
موضوعه، قد يفضي بعمل المرائي أيضا في ھذا المقام (العمل) إلى الكفر فيصبح واحدا في النتيجة مع عمل
المرائي في ذلك المقام: مقام الرياء في العقيدة.
لقد أوضحنا في شرح الحديث السابق، أنه يمكن أن تكون للإنسان في عالم الملكوت صورة تغاير الصورة
الإنسانية، وأن تلك الصور تتبع ملكوت النفس وملكاتھا، فإذا كنتم ذوي ملكات فاضلة إنسانية، فستجعل ھذه
الملكات صوركم، إنسانية عندنا يحشر الإنسان ومعه تلك الملكات ما لم تخرج عن طريق الاعتدال، بل إن الملكات
إنما تكون فاضلة حين لا تتصرف النفس الأمارة بالسوء فيھا، ولا يكون لخطوات النفس دور في تشكيلھا.
يقول أستاذنا الشيخ محمد علي الشاه آبادي دام ظله: «إن المعيار في الرياضة الباطلة والرياضة الشرعية
الصحيحة ھو خطى النفس وخطى الحق، فإذا كان تحرك السالك بخطى النس وكانت رياضته من أجل الحصول
24
سورة الحجرات، الآيتان: 17 ـ 18.
20
على قوى النفس وقدرتھا وتسلطھا، كانت رياضته باطلة وأدى سلوكه إلى سوء العاقبة. وتظھر الدعاوى الباطلة ـ
عادة ـ من مثل ھؤلاء الأشخاص».
أما إذا كان تحرك السالك بخطى الحق وكان باحثا عن االله، فإن رياضته ھذه حقّه وشرعية وسيأخذ االله تعالى
. وسيؤول 25 بيده ويھديه كما تنص على ذلك الآية الشريفة التي تقول: {وَالَّذِينَ جَاھَدُوا فِينَا لَنَھْدِيَنَّھُمْ سُبُلَنَا...}
عمله إلى السعادة. فتسقط عنه «الأنا» ويزول عنه الغرور. ومعلوم أن خطوات الشخص الذي يعرض أخلاقه
الحسنة وملكاته الفاضلة على الناس ليلفت أنظارھم إليه ھي خطوات النفس، وھو متكبر وأناتي ومعجب
بنفسه، وعابد لھا.
ومع التكبر تكون العبودية الله وھماً ساذجاً، وأمراً باطلا ومستحيلا، وما دامت مملكة وجودكم مملوءة يجب
النفس وحب الجاه والجلال والشھرة والترأس على عباد االله، فلا يمكن اعتبار ملكاتكم ملكات فاضلة، ولا أخلاقكم
أخلاقا إلھية. فالفاعل في مملكتكم ھو الشيطان، وليس ملكوتكم وباطنكم على صورة إنسان. وعند فتح العيون
البرزخية، ترون ملكوتكم على غير صورة الإنسان، وإنما ھي صورة أحد الشياطين مثلا. وحصول المعارف الإلھية
والتوحيد الكامل أمر مستحيل بالنسبة إلى قلب كھذا ما دام مسكنا للشيطان، وما دام ملكوتكم غير إنساني، وما
دامت قلوبكم غير مطھرة من ھذه الانحرافات والأنانيات.
26 ففي الحديث القدسي يقول االله تعالى: «لا تسعني أَرْضِي وَلاَ سَمَائِي، بَلْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِنِ»
ليس موجود يكون آية جمال المحبوب سوى قلب المؤمن. إن المتصرف في قلب المؤمن ھو االله، لا النفس. الفاعل
ي وجوده ھو المحبوب، فلا يكون قلب المؤمن متمردا ولا تائھا.
«قَلْبُ المُؤْمِنِ بَيْنَ إِصْبَعَي الرَّحْمنِ يُقَلِّبِه كَيْفَ يَشَاء»
27
وأنت أيھا المسكين العابد للنفس، والذي تركت الشيطان والجھل يتصرفان في قلبك، ومنعت يد الحق أن
تتصرف في قلبك، أيّ إيمان لديك حتى تكون محلا لتجلّي والسلطة المطلقة؟
فاعلم إذاً، أنك ما دمت على ھذه الحال، وما دامت رذيلة الغرور موجودة فيك، فأنت كافر باالله، معدود من زمرة
المنافقين، رغم زعمك بأنك مسلم ومؤمن باالله.
الفصل الثاني: خلق االله الإنسان لنقسه سبحانه
أيھا العزيز! استيقظ وانتبه وافتح أذنيك، وحرّم نوم الغفلة على عينيك، واعلم أن االله خلقك لنفسه كما يقول
في الحديث القدسي:
«يا بنَ آدَمَ خَلَقْتُ الأَشْيَاءَ لأَجْلِكَ وَخَلَقْتُكَ لأَجْلِي»
واتخذ من قلبك منزلا له، فأنت وقلبك من النواميس 28
والحرمات الإلھية، واالله تعالى غيور، فلا تھتك حرمته وناموسه إلى ھذا الحدّ، ولا تدع الأيادي تمتد إلى حرمه
وناموسه. احذر غيرة االله، وإلا فضحك في ھذا العالم بصورة لا تستطيع إصلاحھا مھما حاولت. أتھتك في ملكوتك
وفي محضر الملائكة والأنبياء العظام ستر الناموس الإلھي؟ وتقدم الأخلاق الفاضلة التي تخلَّق بھا الأولياء إلى
الحق، إلى غير الحق؟ وتمنح قلبك لخصم الحق؟ وتشرك في باطن ملكوتك؟ كن على حذر من الحق تعالى فإنه
مضافاً إلى ھتكه سبحانه لناموس مملكتك في الآخرة ـ وفضحه لك أمام الأنبياء العظام والملائكة المقربين،
سيفضحك في ھذا العالم ويبتليك بفضيحة لا يمكن تلافيھا... وبتمزيق عصمة لا يمن ترقيعھا.
إن الحق تعالى «ستارُ» ولكنه غيور أيضا... إنه «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ولكنه «أَشَدُّ المَعَاقِبِيَن» أيضا يستر ما لم
يتجاوز الحد. فقد تؤدي ھذه الفضيحة الكبرى ـ لا سمح االله ـ إلى تغليب الغيرة على الستر، كما سمعت في
الحديث الشريف.
25
سورة العنكبوت، آية 69.
12 .اتحاف السادة المتقين ـ المجلد السابع ص 234 غوالي اللئالي ـ المجلد الرابع ص7 وفيه (ولكن 26 إحياء العلوم ـ المجلد الثالث ص
يسعني).
27
صحيح مسلم ـ المجلد 18 ـ ص 51 .إحياء العلوم ـ المجلد الأول ص 76 .الجامع الصغير ـ المجلد الأول ص 83 والمجلد الثامن ص 151.
28
المنھج القوي ـ المجلد الخامس ـ ص 516 .علم اليقين ـ المجلد الأول ـ ص 381.
21