وروى الشَّيخ ـ قُدِّس سِرُّه ـ بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد االله عليه السلام: «يُرْفَعُ لِلرَّجُلِ مِنَ الصَّلاةِ
482 ، وَلكِنَّ االلهَ تَعَالى يُتِمُّ ذلِكَ بِالنَّوافِلِ» 481 رُبْعُھا أوْ ثُمْنُھَا أَوْ نِصْفُھَا أَوْ أَكْثَرُ بِقَدْرِ مَا سَھا
.
ومن ھذا القبيل روايات كثيرة. ومن المعلوم أننا لا نخلو من السھو والنسيان وتشويش في الحواس والأمور
الأخرى التي تتنافى مع الصلاة أو مع كمالھا، وقد شرّع االله بلطفه الكامل النوافل حتى تجبر نقيصتھا، ومن اللازم
وبقدر الإمكان إن لا نغفل عن ھذا الأمر ولا نترك النوافل.
وعلى أي حال أيھا العزيز، أفق قليلاً من الغفلة، وتأمل في أمرك، وانظر في صحيفة أعمالك، واخشَ من أعمال
تظن أنھا صالحه مثل الصلاة والصوم والحج وغيرھا، في حين أنھا تكون سبب عنائك وذُلّك في ذلك العالم.
فحاسب نفسك ما دامت الفرصة مؤاتية، وزن عملك بيدك، وزنه في ميزان شريعة أھل البيت وولايتھم، وتبين من
صحته وفساده وكماله ونقصه، وأجبره ما دامت الفرصة سانحة، والمُھلة باقيه. وإن لم تحاسب نفسك ھنا ولم
تصحّح أعمالك فستحاسب ھناك، ويوضع ميزان الأعمال أمامك، فتواجه مصائب عظمى. إتق االله في ميزان عدله،
ولا تغترّ بشيء، ولا تترك الجد والاجتھاد، وراجع صحيفة أعمال أھل البيت عليھم السلام المعصومين من الخطأ
وتأمل فيھا، حتى تعرف بأن الأمر صعب والطريق ضيق ومظلم.
أنظر إلى ھذا الحديث الشريف وانتبه إلى تفاصيل من خلال ھذا الإجمال.
عن فخر الطايفة وسنادھا وذخرھا وعمادھا محمَّد بن النُّعمان المفيد ـ رضوان االله عليه ـ في الإرشاد: عن
سعيدِ بن كُلثومٍ، عن الصادق بن جعفرِ بن محمَّد عليه السلام قالَ: وَااللهِ مَا أكَلَ عَليُّ بْنُ أبِى طالِب عليه السّلام
مِنَ الدُّنْيا حَراماً قَطُّ حَتّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَمَا عَرَضَ لَهُ أَمْرانِ كِلاَھُمَا ِاللهِ رضاً إلاّ أخَذَ بِأَشَدِّھِمَا عَلَيْهِ فِي بَدَنِه (دينه
ـ خ ل) وَمَا نَزَلَتْ بِرَسولِ االلهِ صلى االله عليه وآله وسلم نازلَةٌ قَطُّ إلاّ دَعَاهُ ثِقَةً بِهِ، وَمَا أَطَاقَ أَحَدٌ عَمَلَ رَسولِ االلهِ
صلى االله عليه وآله وسلم مِنْ ھذِهِ الأُمَّةِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ وَجِلٍ كَانَ وَجْھُهُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ يَرْجُو ثَوابَ
ھذِهِ وَيخافُ عِقابَ ھذِهِ.
وَلَقَدْ أَعْتَقَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ مَمْلوكٍ فِي طَلَبِ وَجْهِ االلهِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ مِمّا كَدَّ بِيَدَيْهِ وَرَشَحَ مِنْهُ جَبِينُهُ. وَإِنَّهُ كَانَ
لَيَقوتُ أَھْلَهُ بِالزَّيْتِ وَالخَلِّ وَالعَجْوةِ، وَمَا كَانَ لِبَاسُهُ إِلاّ كَرابيسَ إذا فَضَلَ شَيْءٌ عَنْ يَدِهِ دَعا بِالجَلَمِ فَقَصَّهُ.
وَمَا أَشْبَھَهُ مِنْ وُلْدِهِ وَلاَ أَھْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ أَقْرَبُ شَبَھاً بِهِ فِي لِبَاسِهِ وَفِقْھِهِ مِنْ عَلِيِّ بن الحُسَيْنِ عليھما السّلام،
وَلَقَدْ دَخَلَ أبو جَعْفَرٍ عليه السّلام ابْنُهُ عَلَيْهِ فَإِذَا ھُوَ قَدْ بَلَغَ مِنَ العِبَادَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ، فَرَآهُ قَدِ اصْفَرَّ لَوْنُهُ مِنَ
السَّھَر وَوَمَضَتْ عَيْنَاهُ مِنَ البُكَاءِ وَدَبِرَتْ جَبَھَتُهُ وَانْخَرَمَ أَنْفُهُ مِنَ السُّجودِ وَوَرِمَتْ سَاقَاهُ وَقَدَمَاهُ مِنَ القِيامِ فِي
الصَّلاَةِ.
وَقَالَ أَبو جَعْفَرٍ عليه السّلام: فَلَمْ أَمْلِكْ حِينَ رَأيْتُهُ بِتَلْكَ الحالِ إلاّ البُكاءَ فَبَكَيْتُ رَحْمَةً لَهُ فَإِذَا ھُوَ يُفكِّرُ، فَالتَفَتَ
إِلَىَّ بَعْدَ ھُنَيْئَةٍ مِنْ دُخُولِي فَقالَ: يَا بُنَيَّ أَعْطِنِي بَعْضَ تِلْكَ الصُّحُفِ الَّتِي فِيھَا عِبَادَةُ عَليِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عليه
480
وسائل الشيعه، المجلد الثلث، باب 17 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلھا، ح 10.
قوله (بقدر ما سھا) أن المقصود من ھذا الحديث الشريف كما ھو في الروايات الأخرى، ھو أنه يرتفع من الصلاة ويقبل منھا بقدر توجه 481
القلب. فقوله (بقدر ما لھا) لأجل بيان أصل النسبة وليس لبيان القدر المرفوع. ويحتمل أن يكون السھو بمعنى سكون القلب ولينه لأن السكون
قد يكون بمعنى اللين كما ذكره الجوھري. (منه عفى عنه).
482
وسائل الشيعة، المجلد الثالث، الباب 17 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلھا، ح 12.
189
السّلام، فَأَعْطَيْتُهُ فَقَرَأ فِيھَا شَيْئاً يَسيراً ثُمَّ تَرَكَھَا مِنْ يَدِهِ تَضَجُّراً وَقَالَ: مَنْ يَقْوى[عَلَى] عِبَادَةَ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَاِلبٍ
483 عليه السّلام
.
وعن أبي جعفر عليه السلام: كانَعليُّ بْنُ الحُسَيْنِ عليھما السلام يُصَلِّي فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ألْفَ رَكْعَةٍ وَكَانَتِ
484 الرِّيحُ تُمَيِّلُهُ مِثْلَ السُّنْبُلَةِ
.
عزيزي: فكّر قليلاً في ھذه الأحاديث الشريفة، وانظر إلى الإمام الباقر عليه السلام المعصوم الذي بكى من
شدّة وكيفية عبادة أبيه. والى الإمام السجاد عليه السلام رغم شدّة محافظته على العبادة وكمالھا والتي بعثت
على بكاء ابنه الإمام الباقر عليه السلام، أنه صلوات االله عليه قرأ شيئاً يسيراً من صحيفة عمل جده علي بن أبي
طالب عليه السّلام، وأظھر عجزه. ومن المعلوم أن الجميع عاجزون عن عبادة مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام
وأن الناس عاجزون عن عبادة المعصومين عليھم السّلام، ولكن لا يجوز للإنسان العاجز عن نيل المقام العالي أن
يترك العبادات نھائيا.
لا بد من معرفة أن ھذه العبادات ـ والعياذ باالله ـ لا يكون عبثاً، بل ان إبداء أھل المعرفة الحقيقيين العجز والذل
وإلحاحھم في الدعاء والمسألة، من أجل أن الطريق ضيق ومحفوف بالمخاطر، وأن مضاعفات الموت، صعبة للغاية.
إن حالة اللامبالاة ھذه التي نعيشھا تكون نتيجة ضعف إيماننا ووھن عقيدتنا وجھلنا.
إلھي أنت واقف على حقيقتنا، وعالم بقصورنا وتقصيرنا، وضعفنا وعجزنا. أنت غمرتنا برحمتك قبل أن نسألھا.
وابتدأتنا بنعمك، وتفضّلت علينا من دون طلب والتماس. نحن نعترف بتقصيرنا وكفرنا لآلائك اللامتناھية، ونجد
أنفسنا من المستحقين لعذابك الأليم، ودخول الجحيم ولا نملك شيئاً يسعفنا ووسيلة تعيننا، إلاّ ما عرفتنا به
على لسان أنبيائك من التفضّل والترحّم وسعة جودك ورحمتك، فقد عرفناك بھذه الصفات حسب فھمنا
واستيعابنا. فماذا تصنع مع حفنة تراب إن لم ترحمه وتتفضل عليه؟
أَيْنَ رَحْمَتُكَ الوَاسِعَةُ؟ أَيْنَ أَيَادِيكَ الشّامِلَةُ؟ أيْنَ فَضْلُكَ العَمِيمُ؟ أَيْنَ كَرَمُكَ يَا كَرِيمُ؟
فصل: في بيان أن التفرغ في العبادة يوجب الغنى في القلب
لا بد من معرفة أن الغنى من الأوصاف الكمالية للنفس، بل يكون من الصفات الكمالية للموجود بما أنه موجود،
ولھذا، يكون الغنى من الصفات الذاتية للذات الحق المقدس جلّ وعلا، وإن الثروة والأموال لا توجب الغنى في
النفس، بل نستطيع أن نقول إن من لا يملك غنىً في النفس، يكون حرصه تجاه المال والثراء والمنال أكثر،
وحاجته أشد. ولمّا لم يكن أحد غنياً حقيقياً أمام ساحة الحق جلّ جلاله المقدسة الغنى بالذات، وكانت
الموجودات كلھا من أدنيھا وھو التراب
إلى ذُروة الأفلاك، ومن والھيولى الأولى إلى الجبروت الأعلى، فقيرة ومحتاجة، لھذا كلما كان تعلق القلب إلى
غير الحق، وتوجّه الباطن نحو تعمير المُلك والدنيا أشدّ، كان الفقر والحاجة أكثر، أما الحاجة القلبية، والفقر
الروحي، فواضح جداً، لأن نفس التعلق والتوجه فقر. وأما الحاجة الخارجية التي تؤكد بدورھا الفقر القلبي، فھي
أيضا أكثر، لأن أحداً لا يستطيع النھوض بأعماله بنفسه، فيحتاج في ذلك إلى غيره. والأثرياء وإن ظھروا في مظھر
الغنى ولكنھم بالتمعن يتبين أن حاجتھم تتضاعف على قدر تزايد ثرواتھم. فالأثرياء فقراء في مظھر الأغنياء،
ومحتاجون في زيّ من لا يحتاج.
وكلّما اتجه القلب نحو تدبير الأمور وتعمير الدنيا أكثر، وكان تعلقه أشد، كان غبار الذل والمسكنة عليه أوفر،
وظلام الھوان والحاجة أوسع، وعلى العكس كلّما رَكَلَ بقدمه التعلق بالدنيا، حوّل بوجه قلبه إلى الغنى المطلق،
وآمن بالفقر الذاتي للموجودات، وعرف بأن أحداً من الكائنات لا يملك لنفسه شيئاً، وأن جميع الأقوياء والأعزّاء
والسلاطين قد سمعوا بقلوبھم أمام ساحة الحق المقدسة من الھاتف الملكوتي، واللسان الغيبي، الآية الكريمة
(يَاأَيُّھَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ ھُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
. كلما استغنى الإنسان عن العالمين أكثر، وبلغ 485
483 الإرشاد ص
.256 ـ 255
484 الإرشاد ص
.256
485
سورة فاطر، آية: 15.
190
مستوى استغنائه درجة لا يرى لمُلك سليمان قيمة، ولا يأبه بخزائن الأرض عندما توضع بين يديه مفاتيحھا. كما
ورد في الحديث أن جبرائيل قد ھبط من قبل االله تعالى بمفاتيح خزائن الأرض لخاتم النبيين صلّى االله عليه وآله
وسلم، فتواضع صلوات االله وسلامه عليه ورفض قبولھا وافتخر بفقره.
ويقول علي بن ابي طالب عليه السّلام لابن عباس وَإنّ دُنْيَاكٌمْ عِنْدِي لأھْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرادَةٍ
ويقول الأمام علي بن الحسين عليه السّلام «أَسْتَنْكفُ أنْ أَطْلُبَ الدُنيا مِن خَالِقَھَا فَكَيفَ بِطَلَبِھَا مِن 486 تَقْضمُھَا
مَخْلُوقٍ مثلي».
وورد في كتاب (سلسلة الرعية الكبرى) لنجم الدين، بعد الأيمان المغلظة: لو خيروني بين ثروة الدنيا وجاھھا
مع الجنة وحورھا وقصورھا، وأرادوا مني مجالسة الأغنياء من جھة، وبين البؤس في الدنيا والشقاء في الآخرة
وأرادوا مني مجالسة الفقراء من جھة أخرى، لاخترت الفقراء وابتعدت عن عار مجالسة الأغنياء والنار خير من العار.
نعم إن أھل الحق يعرفون أن التوجه نحو خزائن الدنيا والمال والجاه والمجالسة مع أھلھا يسبّب أي نوع من
الكدورة والظلام في القلب؟ وكيف يبعث على الوھن والفتور في العزيمة، ويوجب الفقر والحاجة لدى القلب
وفقره، ويصرفه عن الانتباه إلى النقطة المركزية الكاملة بصورة مطلقة؟ ولكن عندما أعطيت ـ أيھا العزيز ـ القلب
إلى أھله والبيت إلى صاحبه وأعرضت عن غيره ولم تدفع البيت إلى الغاصب، تجلّى فيه صاحبه. ومن المعلوم
تجلي الغَنيّ المطلق، يدفع إلى الغني المطلق، ويغرق القلب في بحر العزة والغِنى، فيمتلأ من الغنى وعدم
وينھض صاحب البيت بإدارة أموره، ولم يترك الإنسان إلى نفسه، 487 الاحتياج {وَلِلّهِ العِزَّةُ وَلِرَسولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}
وإنما يتدخل ويتصرف في جميع شؤون عبده، بل يصبح ھو سمعه وبصره ويده ورجله، وتتحقق ثمرة التقرب
بالنوافل، كما ورد في الحديث الشريف عن الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث: «وَإِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ
إِلَىَّ بِالنَّافِلَةِ حَتّى أحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَع بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ
488 الَّتِي يَبْطِشُ بِھَا ـ الحديث»
. فتوصد باب فقر العبد وفاقته نھائياً ويستغني عن العالمين.
ومن المؤكد أنه يرتفع من وراء ھذا التجلي الخوف من جميع الكائنات، ويحلَّ الخوف من الحق المتعالي محله،
وتملأ القلب عظمة الحق وھيبته، ولا يرى لغير الحق عظمة واحتشاماً وتصرّفاً، ويدرك حقيقة (لا مُؤثر فِي الوُجودِ
إِلاَّ االله) بكل قلبه. وقد أشير في ھذا الحديث الشريف إلى بعض ھذه المطالب التي ذكرناھا (تَفَرَّغْ لِعِبَادَتي املأ
قَلْبَكَ غنىً ـ الخ) وھذا التفرغ القلبي لأجل العبادة يسمو بالإنسان رويداً رويداً إلى أعلى مراتب حضور القلب
للعبادة.
ھذه نبذة من الآثار التي تترتب على العبادة كما ذكرناھا.
فلو أن القلب غفل عن الاشتغال بالحق وأھمل التفرغ في التوجه نحوه لغدت ھذه الغفلة أساس كل الشقاء،
وينبوع جميع النقائص ومبعث كافة الأمراض النفسية، وبسبب ھذه الغفلة يحول بين القلب والحق المتعالي ظلامٌ
داكن وكدورة شديدة وحجب غليظة تمنع من تغلغل نور الھداية فيه، وتحرمه من التوفيقات الإلھية، وينعطف القلب
مرة واحدة إلى الدنيا وملذاتھا من تعمير البطن والفرج. ويغشاه حجاب الأنانية والإنية، وتطغى النفس، ويكون
تحرك صاحب ھذه النفسية من خلال الترفع والأنانية، ويبدو ذله الذاتي وفقره الحقيقي ويبتعد في كل حركاته
وسكناته عن ساحة الحق المتعالي، ويكون نصيبه الخذلان. كما تولى الحديث الشريف بيانه: (وَأَنْ لاَ تَفْرَغْ
لِعبَادَتِي أَمْلأُ قَلْبَكَ شُغْلاً بِالدُّنْيَا ثُمَّ لاَ أَسُدُّ فَاقَتَكَ وَأَكِلُكَ إِلَى طَلَبِكَ).
تنبيه:
لابد من معرفة أن المقصود من إيكال الأمر إلى العبد ـ أَكِلُكَ إلى طَلَبِكَ ـ، ليس بمعنى تفويض الأمر إليه، لأن
ھذا المسلك لدى العرفاء والفلاسفة ومذھب الحق باطل وممتنع. إذ لا يوجد كائن خارج عن نطاق تصرف الحق
سبحانه، وحيطة قدرة ذاته المقدس، ولا يوكل إليه شيءٌ من تدبير أموره. لكن العبد لمّا ينصرف عن الحق ويتوجه
486
الخطبة 224 من نھج البلاغة.
487
سورة المنافقون، آية: 9.
488
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب من أذى المسلمين، ح8.
191
إلى الدنيا وتتحكم فيه الطبيعة وتتغلب عليه الأنانية ويبرز فيه العجب والذاتية والمحورية، يُعبر عن ذلك بإيكال الأمر
إلى العبد. وأما الإنسان الذي يولي وجھه نحو الحق والملكوت الأعلى، ويغمر جوانب قلبه نور الحق، فلا محالة
تكون تصرفاته حقاً، بل يتحول في بعض المراحل وجوده إلى وجود الحق. كما أشير إلى بعض ھذه المقامات في
الحديث الشريف المذكور في الكافي عند عرضه لبعض آثار التقرب إلى االله بالنوافل. واالله العالم.
الحَديث الثَامِن وَالعشرون: لقاء االله
بالسند المتّصل إلى ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكلينيِّ ـ رحمه االله ـ عن محمّد بن يحيى، عن أحمدَ بنِ
محمّدٍ، عن محمَّد بنِ خالدٍ؛ وَالحسينِ بنِ سَعيدٍ جميعاً، عن القاسم بن محمَّد، عن عبد الصَّمد بن بشير، عن
بعض أصحابه، عنى أبي عبد االله عليه السلام قال: «قُلْتُ: أصْلَحَكَ االلهُ مَنْ أحَبَّ لِقاء االلهِ لِقَاءهُ وَمَنْ أبْغَضَ لِقَاء االلهِ
أبْغَض االله لِقاءهُ؟ قالَ: نَعَمْ قُلْتُ: فَوَااللهِ إنّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ: فَقالَ: لَيْسَ ذلِكَ حَيْثُ تَذْھَبُ، إنَّما ذلِكَ عِنْدَ الْمُعايَنَةِ إذا
رَأى ما يُحِبُّ فَلَيْسَ شَيْءٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أنْ يَقْدِمَ عَلَى االلهِ، وَااللهُ تَعالى يُحِبُّ لِقاءَهُ وَھُوَ يُحِبُّ لِقاءَ االلهِ حينَئِذٍ، وَإذا
489 رَأى ما يِكْرَهُ فَلَيْسَ شَيْءٌ أبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ لِقاءِ االلهِ وَااللهُ يُبْغِضُ لِقاءَهُ»
.
الشرح:
أصْلَحَكَ االله دعاء في الخير، ولا يلزم في الدعاء أن يكون المدعو له فاقداً لمضمون الدعاء، بل الدعاء مستحب
حتى وإن كان مضمونه حاصلاً في المدعو له. فيكون الدعاء للإمام الصادق عليه السّلام بالصلاح والسداد ضمن
الحدود المتعارفة.
كما أن جملة غَفَر االلهُ لَكَ ووعَفَا االلهُ عَنْكَ من الأدعية التي يصلح أن ندعو بھا لتلك الذوات المقدسة. وقد حمل
. على ھذا المعنى المذكور، وقالوا إن ھذه الآية 490 بعض الآية الكريمة (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)
المباركة بمثابة أن يقال غَفَرَاالله لَكَ ولا يجب أن يكون الطلب من أجل تحقق مضمونه. ولكن ھذا التفسير في الآية
وعلى كل حال فإن الصحيح ھو عدم 491 المباركة بعيد. ونحن قد بيّنا ذلك في شرح حديث من الأحاديث السابقة
توقع حصول المضمون من ھذه الإنشاءات والأدعية من المدعو غالباً.
اللَقَاء بفتح اللام وكسره، مصدر لقي على وزن رضي، كما أن لِقَاءَهً ولِقَايَةً ولِقْيّاً ولِقْياناً ولِقْيانَةً بكسر اللام في
جميع ذلك ولُقياً ولُقىً ولُقْياناً ولُقْيَةً ولُقْيانَةً بضم اللام في جميع ذلك، مصدر لقي أيضاً، ومعناه لرؤية واللقاء.
ويأتي بيان معنى لقاء االله حسب ما يتناسب وحجم ھذا الكتاب.
وأبْغَضَ من باب الأفعال، وبَغُضَ مثل ـ كَرُمَ، ونَصَرَ وَفَرِحَ بَغَاضَةً فھو بَغيضٌ، بمعنى ضد الحب. وبغْضَة وبَغْضاء شدّة
البغض. وعلى أي حال فإن الحب والبغض من الصفات النفسية المتقابلة، ومعناھما واضح لدى الوجدان، مثل
وضوح كافة المعاني الوجدانية والصفات النفسية التي تكون حقيقتھا أوضح من الإدلاء بمعانيھا. وسيأتي معنى
نسبة الحب والبغض إلى الذات الحق المقدس، وإنھا بأي اعتبار تكون، إنشاء االله تعالى.
قوله إنّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ ولما تصور الراوي الموت ملازما مع لقاء االله أو كان مقصوده من لقاء االله نفس الموت. اعتبر
كره الموت كرھا للقاء االله تعالى، فسأل ھذا السؤال، فأجاب الإمام عليه السلام بأنه ليس المقياس كراھية
الموت بصورة مطلقة بل الميزان كراھية الموت لدى نزع الروح عندما يرى آثار الملكوت والعوالم الأخرى.
وقوله عليه السلام «لَيْسَ ذلك حَيْثُ تَذْھَبُ». يستعمل كثيراً في اللغة العربية مثل ھذا التعبير، ويقصدون منه
ذھاب الوھم، بل التعبير المتداول فبي الذھاب ومشتقاته ھو ذھاب الوھم والعقيدة وأمثالھا. كما أن المذھب يكون
بھذا المعنى. وھذا يبتنى على الاستعارة لأنه مأخوذ من الذھاب الخارجي.
قوله عليه السلام عِنْدَ المُعَايَنَةِ، المعاينة مصدر من باب المفاعلة وعايَنْتُ الشَّيْءَ عِياناً إذا رَأَيْتَهُ بِعَيْنِكَ.
ويسمى حين النزع والاحتضار بالمعاينة، لأن الميّت يشاھد آثارعالم الآخرة بعينه، حيث تنفتح عيونه الغيبية
الملكوتية، وتنكشف له نبذة من أحوال الملكوت، ويعاين بعض آثار وأعمال وأحوال نفسه.
489
" فروع الكافي " المجلد الثالث، ص 134.
490
سورة الفتح، آية: 2.
491
شرح الحديث الواحد والعشرون.
192
ونحن نذكر ما يحتاج من الحديث الشريف إلى الشرح والبيان في خلال فصول. وعلى االله التُّكلانُ.
فصل: في لقاء االله وكيفيته
إعلم أن الآيات والأخبار الواردة في لقاء االله صراحة أو كناية وإشارة، كثيرة لا يسع ھذا المختصر الخوض في
ذلك مفصلاً. ولكننا نشير إلى بعضھا بصورة
مختصرة. ومن أراد التفصيل في ذلك أكثر فعلية مراجعة كتاب (لقاء االله) للمرحوم العارف باالله، الحاج ميرزا جواد
التبريزي قدس سره، حيث جمع إلى حد كبير الأخبار المأثورة في ھذا الموضوع.
إعلم بأنه قد ذھب بعض العلماء والمفسرين إلى سدّ باب السبيل إلى (لقاء االله) نھائياً، والجحود للمشاھدات
العينية والتجليات الذاتية والأسمائية، زاعمين بذلك أنھم ينزھون الذات المقدس، ومفسرين جميع آيات لقاء االله
وأحاديثھا، بلقاء يوم الآخرة، ولقاء الجزاء والثواب والعقاب.
وھذا التوجيه ليس ببعيد كثيراً، بالنسبة إلى مطلق اللقاء واتجاه بعض الآيات والروايات، ولكنّه بالنسبة إلى
بعض الأدعية المعتبرة والأحاديث المأثورة في الكتب المعتبرة، والأحاديث المشھورة التي ارتكز عليھا علماؤنا
العظام، موھون وبعيد جداً.
ولا بد أن تعرف بأنه ليس مقصود من أجاز فتح الطريق على لقاء االله ومشاھدة جمال الحق وجلاله، جواز اكتناه
ـ التعرف على الحقيقة والذات ـ ذاته المقدس، أو إمكان الإحاطة في العلم الحضوري والمشاھدة العينية
الروحانية، على ذاته، المحيط بكل شيء على الإطلاق، فإن امتناع الاكتناه لذاته المقدس بالفكر في العلم الكلي
ـ الفلسفة ـ وامتناع الإحاطة بالبصيرة في العرفان، من الأمور البرھانية، ومتّفق عليه لدى جميع العقلاء، وأرباب
القلوب والمعارف. بل المقصود لدى من يدعي مقام لقاء االله ھو: أنه بعد حصول التقوى التامة والكاملة، وانصراف
القلب نھائياً عن جميع العوالم، ورفض التوجه نحو النشأتين ـ المُلك والملكوت ـ ووطأ الأنانية والإنيّة، والإقبال
الكلي نحو الحق المتعالي وأسماء ذاته المقدس وصفاته، والانصھار في عشق ذاته المقدس وحبّه، وتحمّل جھد
وترويض القلب، يحصل صفاء في القلب لدى السالك يبعث على تجلّي أسماءه وصفاته، وتمزّق الحجب الغليظة
التي أسدلت بين العبد من جھة والأسماء والصفات. من جھة أخرى، والفناء في الأسماء والصفات، والتعلق بعزّ
قدسه وجلاله والتدلّي التام بذاته. وفي ھذا الحال لا يوجد حاجز بين روح السالك المقدسة والحق المتعالي
سوى حجاب الأسماء والصفات.
ويمكن أن يرفع الستار النوري للأسماء والصفات لبعض أرباب السلوك أيضاً، وينال التجليات الذاتية الغيبية،
ويرى نفسه متدلياً ومتعلقاً بالذات المقدس، ويشھد الإحاطة القيومية للحق والفناء الذاتي لنفسه، ويرى بالعيان
أن وجوده ووجود كافة الكائنات، ظلا? للحق المتعالي.
وكما قامت البراھين على أنه لا حجاب بين الحق سبحانه وتعالى والمخلوق الأول المجرد عن جميع المواد
والتعلقات، بل البرھان قائم على عدم وجود حجاب بين الحق وكافة المجردات بشكل عام، فكذلك لا يوجد حجاب
بين ھذا القلب الذي يبلغ في سعته وإحاطته الموجودات المجردة بل اجتيازھا ووطئ بأقدامه على رؤوسھا، وبين
الحق المتعالي. كما في الحديث الشريف المنقول عن (الكافي) و(التوحيد) :
«إنَّ رُوحَ المُؤْمِنِ لأَشَدُّ اتِّصالاً بِرُوحِ االلهِ مِنْ اتِّصالِ شُعاعِ الشَّمْسِ بِھَا»
وفي المناجاة الشعبانية المقبولة 492
لدى العلماء، والتي يدل مضمونھا على أن ھذه المناجاة من الأئمة المعصومين عليھم السّلام: «إِلھي ھَبْ لِي
كَمَالَ الانْقِطَاع إِلَيْكَ، وَأَنْرِ أَبْصَارَ قُلوبِنَا بِضِياءِ نَظَرِھا إِلَيْكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ
العَظَمَةِ وَتَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ. إِلھِي وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ نَادَيْتَهُ فأجابَكَ وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ فَناجَيْتَهُ سِرّاً
. وفي الكتاب الإلھي الشريف، لدى حكاية معراج الرسول الأكرم صلّى االله عليه وآله وسلم 493 وعَمِلَ لَكَ جَھْراً»
(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)
. ولا تتنافى ھذه المشاھدة الحضورية الفنائية، مع البرھان على 494
492
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب أخوة المؤمن، ح4.
493
مفاتيح الجنان، المناجاة الشعبانية.
494
سورة النجم، آية: 8 و9.
193
عدم الاكتناه والإحاطة للذات المقدسة، ومع الأخبار والآيات التي تدل على تنزيه الحق جلا وعلا من كل عيب
ونقص وحدّ. بل يكون مؤكداً ومؤيّداً لھا. فانظر الآن ما جدوى ھذه التوجيھات والتأويلات البعيدة؟ ھل نستطيع أن
نوجه كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام الذي يقول «فَھَبْني صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ
ھل أن تحرّق وتألّم أولياء االله، من فراق حور العين وقصور الجنه؟ وھل يمكن 495 فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلى فِراقِكَ»
تفسير ھذه الجملة (ما عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نارِكَ وَلا طَمَعاً فِي جَنَّتِكَ بَلْ وَجَدْتُكَ أَھْلاً لِلْعِبادَةِ فَعَبَدْتُكَ عِبادَةَ الأَحْرارِ)
على أن ھذا الأنين ھل ھو من جرّاء الفراق عن الجنه وأطعمتھا؟ ھيھات أن يكون ذالك، إنه لكلام غير موزون،
وتوجيه غير مقبول.
ھل يمكن القول أن تجلّي جمال الحق سبحانه ليلة المعراج، والمجلس الذي أقيم في تلك الليلة من دون أن
يحضرھا أحد من الكائنات أو لم يطلع على أسراره أحد، حتى أمين الوحي جبرائيل، بأنه مشاھدة للجنة وقصورھا
المشيّدة، وأن أنوار العظمة والجلال ھي رؤية لنعم الحق؟
ھل أن التجلّيات التي حصلت للأنبياء عليھم السلام، التي ورد ذكرھا في الأدعية المعتبرة ھي من قبيل النعم
والمأكول والمشروب أو البساتين والقصور؟
ومن المؤسف أننا نحن المساكين، المسجونين في الحجب المظلمة، والمصفدون بسلاسل الآمال والأمنيات،
لا نفھم إلاّ المطعومات والمشروبات والمنكوحات وأمثالھا، وإذا أراد فيلسوف أو عارف أن يرفع ھذه الحجب، اعتبرنا
سعيه ھذا غلطاً وخطأً، وما دمنا مسجونين في البئر المظلم، عالم المُلك لم نستوعب شيئا من أصحاب المعارف
والمشاھدات.
ولكن عزيزي: لا تقارن نفسك مع الأولياء، ولا تظن بأن قلبك يضاھي قلوب الأنبياء وأھل المعارف. إن قلوبنا
المشحونة بغبار التعلق بالدنيا، وملذاتھا وإن انغماسنا في الشھوات يمنع قلوبنا من أن تكون مرآة لتجلي الحق
سبحانه، ومحلاً لظھور المحبوب. ومن المعلوم أننا لا نعي شيئا من تجليات الحق وجماله وجلاله عندما نشعر
بالأنانية والذاتية والمحورية بل يجب أن نكذب في ھذا الحال أحاديث الأولياء وأھل المعرفة، فإن لم نكذّبھا بألسنتنا
في الظاھر، لكذّبناھا في قلوبنا. وإن لم نجد سبيلاً للتكذيب، بأن كانت أحاديث النبي صلى اله عليه وآله وسلم
أو الأئمة المعصومين عليھم السلام، لفتحنا باب التأويل والتفسير، وفي النھاية نسدّ باب معرفة االله.
فنفسر قوله (مَا رَأَيْتُ شَيْئاً إلاّ وَرَأَيْتُ االلهَ مَعَهُ وَقَبْلَهُ وَفِيهِ) على رؤية الآثار. وقوله لَمْ أَعْبُدْ رَبّاً لَمْ أَرَهُ بالعلم
بالمفاھيم الكلية التي تضارع علومنا، وقوله في آياته الكريمة التي تتحدث عن لقاء االله، بلقاء يوم الجزاء. وقوله لي
مَعَ االله حَالَةٌ بحالة الرقّة في القلب. وقوله وَارْزُقْنِي النَّظَرَ إِلَى وَجْھِكَ الْكَرِيمِ وتأوّه الأولياء وتحرّقھم في معاناة
الفراق، بالبعد عن حور العين، وطيور الجنة وھذه التفاسير لا تكون إلا نتيجة أننا لا نكون رجال تلك الساحات، ولا
نفھم إلا المتع الحيوانية والجسمانية دون غيرھا، ولھذا ننكر جميع المعارف. والأنكى من كل ذلك، ھذا الإنكار
الذي يفضي إلى غلق باب كل المعارف، ويحجزنا عن السعي والطلب، ويجعلنا نقتنع بمستوى الحيوانية
والبھيمية، ويحرمنا من عوالم الغيب والأنوار الإلھية. لقد أصبحنا نحن المساكين المحرومين نھائياً من المشاھدات
والتجليات في منأى حتى عن الإيمان بھذه المعاني التي ھي درجة من الكمال النفسي والتي يمكن أن تسوقنا
إلى مرحلة متقدمة. إننا نھرب من العلم الذي قد يكون منطلقاً وبذرة للمشاھدات، ونغلق عيوننا وأسماعنا نھائياً
ونضع القطن في آذاننا حتى لا يتطرق كلام الحق إليھا. وإذا سمعنا حقيقة من لسان عارف ھائم أو سالك حزين
أو فيلسوف متأله، نتصدى فوراً نتيجة عدم طاقة آذاننا على استماع تلك الحقيقة، ونتيجة أن حُبَّ النفس يمنعنا
من جعل ھذه الحقائق أسمى من قدرة استيعابنا لھا، ونتصدى فوراً للطعن فيه ولعنه وتكفيره وتفسيقه، ولا نأبى
من أي غيبة أو تھمة.
إننا نوقف الكتاب ونشترط على كل من يستفيد منه أن يلعن المرحوم الملاّ محسن فيض الكاشاني ـ صاحب
كتب الأخبار والأخلاق والكلام والتفسير ـ يومياً مائة مرة. ونرمي صدر المتألھين الذي ھو قمة التوحيد بالزندقة ولا
495
مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
194
نبخل عن إھانته أبداً، ونقول عنه بأنه صوفي رغم عدم ظھور أي رغبة منه في كل كتبه نحو مذھب التصوف ورغم
تأليفه لكتاب (كسر أصنام الجاھلية في الرد على الصوفية).
إننا نترك الذين يستحقون اللعن، ويكونون ملعونين على لسان االله ورسوله صلى االله عليه وآله وسلم، ونلعن
من يصرخ بالإيمان باالله ورسوله والأئمة الھادين عليھم السلام. وإنني أعلم بأن ھذا اللعن والتوھين لا يسيء إلى
مقامھم، بل قد
يضاعف حسناتھم ويرفع من درجاتھم، ولكنه يسيئ إلينا وقد يبعث على الخذلان وسلب التوفيق منّا.
يقول شيخنا العارف ـ الشاه آبادي ـ روحي فداه (لا تلعنوا الأشخاص حتى الكافر الذي مات ولم تعرفوا أنه على
أيّ دين مات، إلاّ إذا أخبر وليّ معصوم عن حاله بعد الموت، إذ من الممكن أنه أصبح مؤمنا لدى سكرات الموت،
وإنما العنوا بصورة عامة وكلية).
فكم الفرق بين شخص يملك مثل ھذه النفس القدسية التي لا ترضى أن يلعن من مات على الكفر ظاھراً،
لإمكان أنه غداً مؤمناً في اللحظات الأخيرة من حياته، وشخص آخر من أمثالنا ـ وإلى االله المشتكى ـ يرقى المنبر
مع أنه من أھل العلم والفضيلة ويقول أمام العلماء والفضلاء مستغرباً (أن فلان رغم انه فيلسوف، يتلو القرآن).
وھذا الكلام يشبه ما إذا قلنا (أن فلان رغم كونه نبياً، يعتقد بالمبدأ والمعاد).
إنني أيضاً لا أعتقد كثيراً بالعلم فقط، إن العلم الذي لا يفضي إلى الإيمان أراه الحجاب الأكبر، ولكن لو لم نرد
الحجاب ولم نتعلم لما تمكنّا من خرقه. إن العلوم بذور المشاھدات. وإنه لمن الممكن أن يبلغ الإنسان إلى
مقامات شامخة من دون تعلّم حجاب المصطلحات والعلوم، ولكن ھذا خلاف العادة، وخلاف طبيعة السنن، وإنه
نادراً ما يحصل. فالطريق الطبيعي لمعرفة االله وطلبه ھو أن الإنسان يبتدئ أولاً بإنفاق وقت في التفكر بالحق
سبحانه، ويحصل على العلم باالله وأسماء ذاته المقدس وصفاته حسب الأساليب المتبعة من التلمذة على يد
رجال ذلك العلم، ثم يتزوّد من العارف بواسطة الرياضة العلمية والعملية وينتھي بذلك حتماً إلى النتيجة
المنشودة.
وإن لم يكن الإنسان من أھل المصطلحات ـ العلم ـ يستطيع أن يصل إلى النتيجة من خلال تذكّر المحبوب،
وانشغال القلب بالذات المقدّس. ومن المعلوم إن مثل ھذا الانشغال القلبي والتوجه الباطني سيكون سبباً
لھدايته وأن االله سبحانه وتعالى سيعينه في ذلك، وأن حجاباً من الحجب سيرفع له، وأنه سيتنازل قليلاً عن
موقفه
المُنكر ـ تجاه العرفاء والفلاسفة ـ ولعلّ االله سبحانه وتعالى يفتح عليه ببركة عناياته الخاصة، باباً من المعارف
إنه وليّ النعم.
فصل: في بيان انكشاف بعض الأحوال الغيبيّة على الإنسان لدى موته
يفھم من ھذا الحديث الشريف، أن حين المعاينة وعند الموت، تنكشف على الإنسان الذي أوشك على
الرحيل بعض مقاماته وأحواله. ويطابق ھذا ضرباً من البراھين ويوافق مكاشفات أصحاب الكشف والعيان. ويجاري
الأحاديث والآثار الأُخرى أيضاً.
إن الإنسان ما دام يشتغل بتعمير ھذا العالم، ويكون قلبه متجھاً نحو ھذه النشأة، وما دام سكر الطبيعة ـ عالم
المادة ـ قد أغماه وأفقده وعيه، والشھوة والغضب المخدرتان قد خدّرتاه وسلبتا لُبّه، يكون محجوباً نھائياً عن صور
أعماله وأخلاقه، وتكون آثار أعماله وأخلاقه مھجورة في ملكوت قلبه. ولكن عندما تغشاه سكرات الموت وتواجھه
صعابھا وضغوطھا، ويبتعد قليلاً عن ھذه النشأة، فإذا كان من أھل الإيمان واليقين، وكان قلبه متعلقاً بھذه العوالم
المادية، اتجه قلبه في نھاية المطاف من حياته إلى ذلك العالم، والسائقون المعنويون، وملائكة االله الموكّلون
عليه، يسوقونه جميعاً إلى ذلك العالم وبعد ھذا السوق، وذاك الانصراف ينكشف له نموذج من عالم البرزخ،
195
وتنفتح عليه من عالم الغيب كُوّةٌ ويتكشّف له حاله ومقامه قليلاً كما نقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
496 إنَّهُ قَالَ: «حَرَامٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ أن تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيا حَتّى تَعْلَمَ أنَّھَا مِنْ أَھْلِ الجَنَّةِ ھِيَ أمْ مِنْ أھْلِ النَّار»