الشرح:
(تفرّغ لكذا) على وزن تفعّل بمعنى أنفق وقته جميعاً ولم يبق شيء حتى ينشغل بشيء آخر. وتفرغ القلب
للعباده، معناه إخلاؤه من الانتباه لأي شيء آخر حتى ينشغل بالعبادة خاصة.
وَمَلأ الإناءَ ماءً وَمِنَ الماءِ وَبِالمَاءِ: وَضَعَ فِيهِ بِقَدْرِ مَا يَأخُذُهُ. وَأكِلُ صيغة مُتَكَلِّم مِنْ يَكِلُ وَكَلَ إِلَيْهِ الأَمْرَ أي سَلَّمَهُ
وَفَوَّضَهُ وَتَرَكَهُ إلَيْهِ وَاكتَفى بِهِ. أسُدُّ صيغة متكلمٍ أيضاً مِنْ سَدَّ يَسُدُّ سَدّاً ومِنْ بَابِ نَصَرَ نَقيضُ الفَتْحِ. الفاقة أي
الحاجة والفقر. واملأ قلبك خوفاً مني، الظاھر أنه ـ أَمْلأُ ـ صيغة متكلم لوحده. ويستبعد أن تكون صيغة أمر معطوفة
على أول الكلام. ونحن سنذكر ما يتناسب من الشرح والبيان حول ھذا الحديث الشريف من فصول ان شاء االله.
فصل: كيفية حصول التفرغ للعبادة
اعلم أن التفرغ للعبادة يحصل من تكريس الوقت والقلب بھا. وھذا من الأمور المھمة في باب العبادات. فإن
حضور القلب من دون تفريغه وتكريس الوقت له غير ميسور، والعبادة من دون حضور القلب، غير مجدية. وما يبعث
454
سورة الكھف، آية: 110.
455
مسند أحمد، ج2 ،ص463.
456
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب العبادة، ح1.
181
على حضور القلب، أمران: أحدھما: تفريغ القلب والوقت للعبادة. ثانيھما: إفھام القلب أھمية العبادة. والمقصود
من تفريغ الوقت ھو أن الإنسان يخصّص في كل
يوم وليلة وقتاً للعبادة ويوطّن نفسه على العبادة في ذلك الوقت، رافضاً الانشغال في ذلك الوقت بأي عمل
آخر.
إن الإنسان إذا اقتنع بأن العبادة من الأمور الھامّة، وأنھا أكثر أھميه بالنسبة إلى الأمور الأخرى، بل لا مجال
للمقارنة بين العبادة والأمور الثانية الأخرى، لحافظ على أوقات العبادة وخصص لھا وقتاً.
ونحن بعد ھذه اللمحة الخاطفة من أھمية العبادة، نشرح نبذة من أھميتھا. وعلى أي حال لابد للإنسان
المتعبد، أن يوظف وقتاً للعبادة. وان يحافظ على أوقات الصلاة التي ھم أھمّ العبادات وأن يؤديھا في وقت الفضيلة،
ولا يختار لنفسه في تلك الأوقات عملاً آخر. وكما أنه يخصص وقتاً لكسب المال والجاه والدراسة والبحث، كذلك
لابد أيضاً من تخصيص وقت للعبادات، حتى يكون خاليا من أي عمل آخر، ويتيسّر له حضور القلب الذي ھو بمثابة
اللبّ والجوھر. ولكن إذا فرضنا بأن شخصاً مثلي تكلّف من أداء صلاته، ورأى بأن العبادة من الأمور الزائدة، لأجّل
صلاته إلى آخر الوقت، ولآتى بھا بكل فتور ونقص، لما يرى حين التھيؤ لأداء الصلاة، أن ھناك أموراً أخرى في نظره
أھمّ منھا، وأنھا تتزاحم مع ھذه الأمور الھامة، فيفضّل غير الصلاة عليھا. ومن المعلوم أن مثل ھذه العبادة لا
نورانية لھا، بل تكون مثار سخط الھي، وأنه مستخف بالصلاة ومتھاون في أمرھا. أعوذ باالله من الإستخفاف
بالصلاة وعدم الاكتراث بھا.
وإن ھذا الكتاب، لا يسع عرض الأخبار المأثورة في المستخفين بالصلاة. ولكننا سنذكر بعضھا للاتعاظ والاعتبار:
عن محمّد بن يعقوب بإسنادِه عن أبي جعفرٍ عليه السلام قال: «لاَ تَتَھَاوَنْ بِصَلاَتِكَ فَإِنَ النَّبيَّ صلّى االله عليه
وآله وسلم قالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: لَيْسَ مِنِّي مَنِ اسْتَخَفَّ بِصَلاَتِهِ، لَيْسَ مِنِّي مَنْ شَرِبَ مُسْكراً، لاَ يَرِدُ عَليَّ الحَوْضَ لا
457 وَااللهِ»
.
وبإسنادِهِ عن أبي بصيرٍ قالَ: قالَ أبو الحسن الأوَّل عليه السلام: «لَمّا حَضَرَتْ أبِيَ الوَفَاةُ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ لاَ
458 يَنالُ شَفَاعَتَنَا مَنِ اسْتَخَفَّ بالصَّلاَةِ»
.
والأخبار كثيرة في المقام، ويكفي ھذان الحديثان لمن يريد أن يعتبر ويتعظ. ويعلم االله وحده حجم المصيبة
العظمى الناشئة من الانقطاع عن الرسول الأكرم صلى االله عليه وآله وسلم، والخروج من تحت ظل حمايته كما
ورد في الحديثين الشريفين ! كما أن االله يعلم مستوى الخذلان، عندما يُمنى الإنسان بالحرمان من شفاعة
رسول االله وأھل بيته العظام !
لا تظن بأن أحدا يرى رحمة الحق سبحانه، ووجه الجنة، من دون شفاعة رسول االله صلى االله عليه وآله وسلم
وحمايته ورعايته ! والآن أنتبه إلى أن تقديم أي عمل بسيط، بل المصلحة الموھومة على الصلاة التي ھي قرّة
عين الرسول صلّى االله عليه وآلة وسلم، والوسيلة الرفيعة لنزول رحمة الحق، وأن إھمالھا وتأخيرھا إلى نھاية
وقتھا من دون مسوّغ، وعدم المحافظة على حدودھا، أليست ھذه الأمور من التھاون والاستخفاف بالصلاة؟ فإن
كان ھذا من التھاون في الصلاة، فاعلم، حسب شھادة رسول االله صلى االله عليه وآله وسلم وشھادة الأئمة
الأطھار عليھم السلام، أنك قد خرجت عن ولايتھم، ولا تنالك شفاعتھم.
إنتبه، إذا أردت شفاعتھم، ورغبت في أن تكون من أُمّة رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم، اھتم بھذه
الوديعة الإلھية، وعظّم من أمرھا، وإلاّ فأنت تواجه العقاب والعاقبة السيئة. إن االله تعالى وأولياءه في غنى عن
أعمالي وأعمالك، فيُخشى أنك إذا لم تھتم بھا، أدى إلى تركھا وينتھي الأمر إلى جحودھا فتصير من الأشقياء
المؤبدين والھالكين الدائمين.
والأھم من تفريغ الوقت، تفريغ القلب، بل إن تفريغ الوقت، مقدمة لتفريغ القلب أيضاً، وذلك أن الإنسان لدى
اشتغاله بالعبادة، يجرد نفسه من ھموم الدنيا وأعمالھا، وينقذ قلبه من الأوھام المتشتتة، والأمور المختلفة،
457
فروع الكافي، المجلد الثالث، ص 269 ـ 270.
458
فروع الكافي، المجلد الثالث، ص 269 ـ 270.
182
ويفرغ فؤاده نھائياً، ويخلّصه مرة واحدة للتوجه إلى العبادة والمناجاة مع الحق المتعالي. ولو لم يفرغ القلب من
ھذه الأمور، لما حصل لقلبه ولعبادته التفرغ. ولكن شقائنا في أننا نترك كل أفكارنا المتشتتة، وأوھامنا المختلفة
إلى وقت العبادة، وعندما نكبّر تكبيرة إحرام الصلاة، فكأننا فتحنا باب المتجر، أو دفتر الحساب، أو كتاب الدرس،
ونرسل قلبنا للانصراف إلى أمور أخرى، ونغفل كلياً عن العمل العبادي، وعندما
ننتبه للعبادة نجد أنفسنا في نھاية الصلاة !.
وفي الحقيقة إنه لمن الفضيحة أمر ھذه العبادة، ومما يبعث على الخجل أمر ھذه المناجاة.
عزيزي: اجعل مناجاتك مع الحق سبحانه بمثابة التحدث مع إنسان بسيط من ھؤلاء الناس؛ فكيف انك إذا
تكلمت مع صديق، بل مع شخص غريب انصرف قلبك عن غيره، وتوجّھت بكل وجودك نحوه، أثناء التكلم معه،
فلماذا إذا تكلمت وناجيت ولي النعم، ورب العالمين، غفلت عنه وانصرفت إلى غيره؟ ھل إن العباد يُقدَّرون أكثر من
الذات المقدس للحق؟ أو أن التكلم مع العباد أغلى من المناجاة مع قاضي الحاجات؟
نعم أنا وأنت، لا نعرف ما ھي المناجاة مع الحق سبحانه؟ إننا نرى التكاليف الإلھية كلفة، وفرضاً علينا، ومن
الواضح أنه متى ما أصبح شيء ما حملاً ثقيلاً على الإنسان وعلى شؤون حياته، لما أعتبر عنده ذلك الشيء ذا
بال وأھميه. إنه لا بد من إصلاح الينبوع، والعثور على الإيمان باالله، وبكلمات أنبيائه حتى يتم إصلاح الأمور. ان كل
تعاستنا من ضعف الإيمان ووھن اليقين. إن إيمان السيد ابن طاووس رضي االله عنه، يدفعه للاحتفال بيوم بلوغه،
لأن الحق المتعال قد رخّص له بالمناجاة، وزيّنه بزينة التكليف والخطاب. فلاحظ بكل دقه أيّ قلب ھذا الذي يحمل
ھذا القدر الكبير من النور والصفاء. إذا لم يكن عمل ھذا السيد الجليل حجة لك، فعمل سيد الموحدين وأولاده
المعصومين حجة عليك، فتأمل في حياتھم وكيفية عباداتھم ومناجاتھم، حيث كان لون وجه بعضھم يتغير لدى
حلول وقت الصلاة، وتضطرب فرائصه خشية أن يخطأ في الواجب الإلھي، رغم أنھم كانوا معصومين.
اشتھر عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن سھماً قد أصاب قدمه المبارك، فلم يستطع أن يتحمّل
ألم انتزاعه من رجله، فقام وصلى وفي أثناء اشتغاله بالصلاة، انتزع السھم ولم ينتبه أصلاً.
عزيزي: إن ھذا الموضوع ـ عدم إدراك الألم حين التوجه إلى شيء ـ ليس ممن الأمور الممتنعة، فإن له أمثلة
كثيرة في الأمور العادية من حياة الناس. إن
الإنسان عند ھيجان الغضب أو المحبة، يغفل عن كل شيء. قال أحد أصدقائنا الموثوقين (عندما اصطدمت مع
جمع من الأوباش في مدينة أصفھان، تصورت في أثناء المعركة وضربھم لي بأنھم يضربونني بأيديھم ولم أفھم
أكثر من ذلك، وبعد أن وضعت المعركة أوزارھا، علمت بأنھم قد طعنوني بالسكين طعنات، وطرحوني في فراش
المرض لأيام) ووجه ذلك معلوم أيضاً، فإن النفس عندما تلتفت بصورة تامّة إلى شيء تغفل عن مُلك البدن،
وتتوقف القوى الحسيه عن العمل وتتحّول الھموم إلى ھمّ واحد. إننا نشعر بأنفسنا حين السجال في الكلام
والجدال في البحث ـ نعوذ باالله ـ بالغفلة عما يحدث في المجلس. ومع الأسف إننا نتوجه نحو كل شيء توجھاً
تاماً، الا نحو عبادة االله، ولھذا نستبعد مثل ھذا التوجه الكامل في العبادة نحو االله سبحانه.
وعلى أي حال إن تفريغ القلب من غير الحق يعدّ من الأمور المھمة، التي يجب على الإنسان أن يحققھا مھما
كلف الثمن، والسبيل إلى تحصيله ميسور وسھل، فمع قدر قليل من الانتباه والمراقبة نستطيع أن ننجزه ونحققه.
يجب على الإنسان الذي يريد السلوك إلى االله من إمساك الخيال فترة من الزمان، وإلجامه عندما يريد أن
يتحول من غصن إلى غصن آخر ـ ويتشتت ـ وبعد مضي فترة من المراقبة، يُدَجَّن الخيال ويھدأ وتزول عنه حالة
التشتت ويصير الخير من عادته ـ والخير عادة ـ فينصرف فارغ البال إلى التوجه نحو الحق والعبادة.
والأھم من كل ذلك والذي يجب أن نجعل الأمور الأخرى مقدمة له، ھو حضور القلب الذي ھو روح العبادة،
والذي ترتبط به حقيقة العبادة، ومن دونه لا يكون له أھمية، ولا تقع مقبولة في ساحة المتعالي، كما ورد في
الروايات الشريفة:
183
في الكافي: بإسناده عن أبي جعفر وأبي عبد االله عليھما السلام أنَّھُما قالا: «إنّما لَكَ مِنْ صَلاَتِكَ مَا أَقْبَلْتَ
459 عَلَيْهِ مِنْھَا، فَإِنْ أَوْھَمَھا كُلَّھا أوْ غَفَلَ عَنْ آدَابِھَا لُفَّتْ فَضُرِبَ بِھَا وَجْهُ صَاحِبِھَا»
.
وَرَوَى الشَّيخُ الأقدم محمّدُ بنُ الحسن ـ رضوان االله عليه ـ في التَّھذيب باسناده عن الثُّماليِّ قالَ: «رَأيْتُ عَلِيَّ
بْنَ الحُسَيْنِ عليھما السلام يُصَلِّي فَسَقَطَ رِداؤُهُ عَنْ مَنْكِبهِ فَلَمْ يُسَوِّهِ حَتّى فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ. قَالَ: فَسَألْتُهُ عَنْ
ذلِكَ، فَقالَ: وَيْحَكَ أَتَدْرِي بَيْنَ يَدَيْ مَنْ كُنْتُ؟ إِنَّ العَبْدَ لاَ يُقْبَلُ مِنُهُ صَلاَةٌ إلاّ مَا أقْبَلَ عَلَيْهِ مِنْھَا. فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ
460 ھَلَكْنَا. قَالَ: كَلاَ، إِنَّ االلهَ مُتَمِّمٌ ذلِكَ لِلْمُؤمِنينَ بالنَّوافِلِ»
.
وعن الخصال: بإسناده عن عليّ عليه السلام في حديث الأربعمائة قالَ: «لا يَقومَنَّ أحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ
مُتَكَاسِلاً وَلاَ نَاعِساً، وَلاَ يُفَكِّرَنَّ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ مَنْ صَلاَتِهِ مَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ مِنْھَا
461 بَقَلْبِهِ»
.
والأخبار في ھذا المضمار كثيرة. وھكذا بالنسبة إلى فضيلة توجه القلب. ونحن نذكر بعضھا في المقام
ونكتفي به، فإنه كاف لمن أراد أن يعتبر ويتعظ.
عن محمّد بن عليّ بن الحسين صدوقِ الطائفة بإسناده عن عبداالله بن أبي يَعْفورٍ قالَ: قال أبو عبد االله عليه
السلام: «يا عَبْدَ االلهِ إذا صَلَّيْتَ فَصَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ يَخافُ أَنْ لاَ يَعُودَ إلَيْھَا أبَداً، ثُمَّ اصْرِفْ بِبَصَرِكَ إِلَى مَوْضِعِ سُجودِكَ،
462 فَلَو تَعْلَمُ مَنْ عَنْ يَمِينكَ وَشِمالِكَ لأَحْسَنْتَ صَلاَتَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَرَاكَ وَلاَ تَرَاهُ»
.
وبإسناده عن أبي عبد االله عليه السلام في حديث أنَّهُ قالَ: «لأُحِبُّ لِلرَّجُلِ المُؤْمِنِ مِنْكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَة
فَرِيضَةٍ أَنْ يُقْبِلَ بِقَلْبِهِ إِلَى االلهِ وَلاَ يَشْغُلَ قَلْبَهُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، فَلَيْس مِنْ عَبْدٍ يُقْبلُ بِقَلْبِهِ فِي صَلاَتِهِ إِلَى االلهِ تَعالى إلاّ
463 أَقْبَلَ االلهُ إلَيه بِوَجْھِهِ وَأَقْبَلَ بِقُلوبِ المُؤمِنينَ إلَيْهِ بِالمَحَبَّةِ بَعْدِ حُبِّ االلهِ إيَاهُ»