٣٣٦
ولنأخذ اسم الإشارة « هذا » محوراً للحديث وعلى ضوئه يفهم الحال في سائر المبهمات وقد ذكر المحقق الخراسانيّ ( قده ) أن « هذا » تدلّ على نفس ما تدلّ عليه كلمة المفرد المذكر ، غاية الأمر : أنّها وضعت ليشار بها إلى المعنى ومن أجل ذلك يكون استعمالها مساوقاً لتشخيص المعنى بسبب الإشارة من دون أن تؤخذ الإشارة قيداً في المعنى الموضوع له.
واعترض عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ : بأنّا لو سلّمنا اتحاد المعنى الحرفي والاسمي ذاتاً واختلافهما باللحاظ لم نسلم ما أفاده في المقام ، وذلك لأن لحاظ المعنى في مرحلة الاستعمال أمر ضروري فلا يلزم على الواضع أن يجعل لحاظ المعنى آلياً كان أو استقلاليّاً قيداً للموضوع له بل هو لغو بعد ضرورة وجوده ، وهذا بخلاف أسماء الإشارة ونحوها فان الإشارة إلى المعنى ليست ممّا لا بدّ منه في مرحلة الاستعمال فلا بدّ من أخذه قيداً في المعنى الموضوع له ، وذلك بأن يقال انّ اسم الإشارة « هذا » وضع للدلالة على قصد تفهيم المفرد المذكر في حالة الإشارة إليه وليس المراد بذلك وضعه لمفهوم المفرد المذكر بل لواقعه على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ.
وكلّ من اعتراض السيد الأستاذ على صاحب الكفاية ومختاره ومدعى صاحب الكفاية محل نظر ، أمّا الأول فلأنّ عدم أخذ الإشارة قيداً في الموضوع له ليس معناه إطلاق الوضع من ناحيتها بل أخذها قيداً في نفس العلقة الوضعيّة بناء على التصورات المشهورة القائلة بإمكان ذلك ، ولو لا هذا لما تمّ مدعى صاحب الكفاية في باب الحروف أيضا فان تصحيحه يتوقّف على أخذ اللحاظ الآلي قيداً في العلقة الوضعيّة. ودعوى : الفرق بين البابين كما أفيد لأنّ اللحاظ ضروري والإشارة غير ضرورية. مدفوعة بأن ما هو ضروري أصل اللحاظ لا آليته بالخصوص فآلية اللحاظ كالإشارة أمر غير ضروري ولا يمكن فرض تقوم الاستعمال به بالخصوص وإبائه عن الاستقلالية إلاّ بأخذه قيداً في الوضع بوجه من الوجوه.
وامّا الثاني : فانّه يرد عليه : أولا ـ ان لازم كون كلمة هذا موضوعة للمفرد المذكر على نحو الوضع العام والموضوع له العام الترادف بين هذا والمفرد المذكر مع انّه خلاف الوجدان ، وثانياً : ما تقدّم منا من ان تقييد العلقة الوضعيّة لا معنى له.
وأما الثالث : فلأن أخذ واقع الإشارة في المدلول معناه كون الدلالة تصديقية ، وهذا يناسب مسلك التعهد ولكنه لا يناسب ما هو التحقيق من أن الدلالة الوضعيّة تصورية بحتة محفوظة حتى عند النطق بالكلمة بدون قصد وشعور. فالصحيح انّ كلمة هذا تستبطن الإشارة بوجه من الوجوه بشهادة الوجدان اللغوي ، ولكن استبطانها لذلك ليس بوضعها لمفهوم الإشارة لوضوح التغاير بين هذا والإشارة على حدّ التغاير بين من ومفهوم النسبة الابتدائية ، فانّ مفهوم الإشارة ليس إشارة كما انّ مفهوم النسبة ليس نسبة وليس أيضا بوضعها لواقع الإشارة الّذي هو فعل من النّفس ونحو توجه خاص لأن هذا يعني كون الكلمة ذات مدلول تصديقي بحسب وضعها وهو خلف المبنى ، وليس أيضا بوضعها للمقيد بهذا الواقع ، لا على نحو دخول القيد والتقيد معاً ، ولا على نحو خروج القيد مع دخول التقيد لنفس المحذور بل توضيح هذا الاستبطان : انّ الإشارة نحو نسبة وربط مخصوص بين المشير والمشار إليه والنسبة الإشارية مع مفهوم الإشارة كالنسبة الابتدائية مع مفهوم الابتدائية ، وكما أن النسبة الابتدائية لها صورة ذهنية في مرحلة المدلول التصوري كذلك تلك النسبة الإشارية ، ولفظة هذا موضوعة لكلّ مفهوم مفرد مذكر واقع طرفاً لهذه النسبة الإشارية لا بمعنى انّ الواقع الخارجي للإشارة مأخوذ ليلزم انقلاب الدلالة الوضعيّة إلى تصديقية ، بل الإشارة بما هي أمر نسبي تصوري مأخوذة على حدّ سائر النسب الحرفية في مرحلة المدلول التصوري. ونفس الشيء يقال في التخاطب أيضا فانّه يحقق نسبة معيّنة تخاطبية على الوجه المذكور وهكذا. وعلى هذا الأساس يكون الوضع في المبهمات من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاصّ.
٣ ـ كيفية الوضع في الحروف والهيئات
بعد ان فرغنا من تحديد معاني الحروف والهيئات من زاوية تمييزها عن المعاني الاسمية واستكشاف خصائصها العامة المشتركة يقع الكلام في تشخيص كيفية وضع الحروف والهيئات وذلك من ناحيتين :
الأولى : من ناحية المعنى الموضوع له فيبحث انّ وضعها هل هو من الوضع العام
٣٣٨
والموضوع له العام كما في أسماء الأجناس أو من الوضع العام والموضوع له الخاصّ.
والثانية : من ناحية اللفظ الموضوع فيبحث انّ وضعها هل هو وضع شخصي أو نوعي.
١ ـ من ناحية المعنى الموضوع له
أمّا من الناحية الأولى : فالكلام فيها يشمل كلّ الحروف والهيئات التي تدلّ على معنى حرفي ، وامّا ما كان منها موضوعاً لمفهوم اسمي كالمشتق بناء على التركب بالنحو المتقدم فهو خارج عن محل البحث لأنّ حاله حال سائر أسماء الأجناس في كونها موضوعة بالوضع العام والموضوع له العام.
وتحقيق الحال في هذه الناحية : انّ المعاني الحرفية ، تارة : تكون نسباً واقعية وهي مداليل الجمل التامة. وأخرى : نسباً تحليلية ناقصة وهي مداليل الحروف وهيئات الجمل الناقصة.
امّا النسب الواقعية فالصحيح انّ الوضع فيها عام والموضوع له خاص إلاّ أن العمومية والخصوصية لا يراد منهما العمومية والخصوصية بلحاظ الصدق الخارجي لوضوح انّ هذه النسبة الواقعية ذهنية وليست خارجية ، بل لا يعقل تحقق النسبة التصادقية والإضرابية في الخارج على ما برهنا عليه فيما سبق. كما أنّ ما جاء في تعبير المحقق النائيني قدسسره في تفسير العمومية والخصوصية من انّ الخصوصية تعني دخول تقيد المعنى الحرفي بطرفيه في المعنى الموضوع له وان خرج عنه ذات الطرفين والعمومية تعني خروج التقيد بالأطراف أيضا عن المعنى الموضوع له ليس بصحيح ، إذ ليس لنا في المعاني الحرفية النسبية زائداً على نفس النسبة التي هي التقيد أمران قيد وتقيد أو طرف وتقيد آخر بينه وبين النسبة لكي يبحث عن خروج التقييد عن حريم المعنى الموضوع له ودخوله فيه ، فان امتياز المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي في انّه بذاته تقيد وربط فلا يحتاج إلى تقيد آخر يربطه بطرف وإلاّ لاحتاج ذلك الربط إلى ربط آخر وهكذا.
وانّما المقصود العمومية والخصوصية بلحاظ عالم الذهن نفسه ، أي انّ أفراد هذه
٣٣٩
النسب الواقعية في الذهن هل يكون فيما بينها جامع حقيقي تكون نسبته إليها نسبة الكلّي إلى مصاديقه في نفس هذا العالم لكي يعقل وضع الجملة بإزاء ذلك الجامع أولا يوجد ثمة جامع ذاتي بين النسب فلا بدّ من وضع الجملة بإزاء مصاديق النسب الموجودة في صقع الذهن. فعلى الأول يكون الموضوع له عاماً وعلى الثاني يكون خاصاً ، وقد تقدّم فيما سبق البرهان على استحالة وجود جامع حقيقي بين النسب الواقعية. فيتعين أن يكون الموضوع له خاصاً في الجمل الموضوعة بإزاء النسب الواقعية.
وامّا النسب الناقصة ، والتي هي نسب أوليّة موطنها الأصلي هو الخارج لا الذهن ولذلك كانت تحليلية ـ على ما تقدّم ـ فالبحث عنها يكون من حيث الوضع والموضوع له معاً فان ما يوضع بإزاء هذه النسب كما يكون مدلوله ضمنيّاً تحليليّاً كذلك يكون وضعه ضمنيّاً ، لأنّ وحدة الوجود الذهني المدلول عليه بجملة « نار في الموقد » يستدعي أن لا تكون هناك دلالات وانتقالات ذهنية ثلاثة للجملة بنحو تعدد الدال والمدلول بل ليس هناك إلاّ مدلول واحد ودال واحد وذلك لأن الوضع ليس إلاّ القرن الموجب للدلالة. وليست الدلالة إلاّ السببيّة في عالم التصوّر واللحاظ بين اللفظ والمعنى ، والسبب دائماً هو الوجود الفعلي ولا يعقل أن يستقل جزؤه التحليلي بالسببيّة فما لا استقلال له في الوجود لا استقلال له في السببيّة والموجدية. فهناك إذن وجود واحد وموجدية واحدة وبالتالي وضع واحد وهذا يعني انّ الوضع في الحروف والجمل الناقصة وضع ضمني كما انّ مدلولها ضمني تحليلي ، بمعنى انّ الواضع قد وضع كلمة « نار » لمعناها الاسمي المستقل وكلمة « موقد » لمعناها الاسمي أيضا ثمّ وضع جملة « نار في الموقد » ـ ولو بنحو الوضع النوعيّ المشار به إليهما إجمالاً ـ للمعنى الوحدانيّ المتضمّن بالتحليل لأجزاء ثلاثة.
ومن الواضح انّ الموضوع له في الحروف ونحوها خاص أيضا لأنّ الواضع قد وضعها لواقع تلك الحصص والصور الوحدانية المحتوية على النسبة التحليلية ولم يضعها لمفهوم الظرفية الاسمي مثلاً ، لما تقدّم من أنّ هذا المفهوم ليس جامعاً حقيقيّاً ذاتيّاً لتلك النسب والتحصيصات. والمراد من الوضع العام والموضوع له الخاصّ هنا الحصص بمعنى انّ الواضع يتصوّر مفهوم الحصة الخاصة المشتملة على الظرف والمظروف ونسبة
٣٤٠
الظرفية التحليلية ويضع الحرف أو الهيئة لواقع تلك الحصص فجملة « نار في الموقد » مثلاً موضوعة لهذه الحصة من الظرفية المتقوّمة بوجود ذهني واحد للنار والموقد والظرفية بينهما وهي حصّة غير النسبة الظرفية في جملة « زيد في الحديقة » المتقومة بوجود ذهني آخر ، وامّا أفراد ومصاديق « نار في الموقد » الخارجية فليس الوضع بلحاظها خاصاً كما كان في النسب الواقعية الذهنية لأنّ ذلك الوجود الذهني الواحد ليس متضمناً على نسبة واقعية حتى يكون متشخصاً ومتقوّماً بأطرافها.
تصوير الوضع العام والموضوع له العام في الحروف
هذا هو المختار في تحقيق الأوضاع للمعاني الحرفية. ومن الجدير بالذكر بهذا الصدد محاولة قام بها المحقق العراقي قدسسره لتصوير كون وضع الحروف من الوضع العام والموضوع له العام. وحاصل المحاولة : انّ الحرف موضوع للقدر المشترك الجامع بين الجزئيات ولكنّه سنخ جامع لا يمكن تصوره إلاّ في ضمن الخصوصيات خلافاً للجامع في المفاهيم الاسمية التي وضعت لها أسماء الأجناس حيث انّه سنخ جامع قابل للورود في الذهن مجرداً عن الخصوصيات وبذلك يتصوّر الوضع العام والموضوع له العام في الحروف بافتراض جامع من ذلك القبيل يكون هو مفاد الحرف وتكون الخصوصية مستفادة من دال آخر على طريقة تعدد الدال والمدلول والدليل على أن وضع الحروف على هذا الوجه تبادر الحيثيّة المشتركة من الحرف في موارد استعماله. ولنا حول هذا الكلام عدة تعليقات.
الأول : انّ المشكلة في تصوير الجامع لم تكن عبارة عن أنّ النسبة الابتدائية مثلاً لا يمكن أن ترد إلى الذهن إلاّ توأماً مع الخصوصيات حتى يقال ان هذا لا ينفي تعقل الجامع لعدم توقّف الجامع على تعقّل وروده مجرداً إلى الذهن ، فالطبيعة اللابشرط المقسمي جامع بين الطبيعة اللابشرط القسمي والطبيعة الملحوظة بشرط شيء ومع هذا فانّها لا ترد إلى الذهن إلاّ في ضمن إحدى الحصتين ، بل المشكلة في تصوير الجامع هي انّ كلّ نسبة متقومة ذاتاً وتقرراً بطرفيها ، فإذا أريد انتزاع جامع ذاتي بين نسبتين فان تحفظنا على خصوصية الطرفين لكل نسبة استحال الحصول على جامع
٣٤١
لتباين الخصوصيات ، وان ألغينا خصوصية الطرفين لم تبق نسبة إذ لا تقرر للنسبة إلاّ بطرفيها فلا يمكن الحصول على جامع بين النسبتين ، وعلى هذا الأساس فالجامع الّذي يفترض المحقق العراقي ( قده ) انّه لا يرد إلى الذهن إلاّ مع الخصوصيات إن كان في تقرّره الماهوي مستقلاً فهذا خلاف البرهان المذكور وإلاّ فهو مساوق لعدم الجامع.
الثاني : انّا لو سلّمنا تعقّل الجامع المذكور الّذي أفاده فهذا لا يفيد في إثبات كون الإفادة بنحو تعدد الدال ، لأنّ تعدد الدال والمدلول انّما يتعقّل في فرض يمكن فيه تعدد الانتقال وهو في المقام غير معقول لأنّ المفروض عدم إمكان الانتقال إلى الجامع إلاّ في ضمن الخاصّ ومع وحدة الانتقال لا معنى لتعدد الدال بل ولا لتعدد الوضع.
الثالث : انّ استدلاله على مدعاه قدسسره بشهادة الوجدان بتبادر الحيثية المشتركة غير واضح لأنّ الحيثيّة المشتركة لا يمكن أن ترد إلى الذهن إلاّ في ضمن الخاصّ كما افترضه ، وعليه فان ادعي شهادة الوجدان بعدم الانتقال إلى الخصوصية فهو خلف الفرض ، وان ادّعي شهادة الوجدان بعدم الانتقال من ناحية نفس الحرف إلى الخصوصية فهذا لا ينافي ما ندّعيه من كون الحرف موضوعاً بوضع ضمني على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ فان مقتضى ذلك انّ الخصوصية مستفادة من المجموع لا من الحرف مستقلاً.
وبالإمكان صياغة برهان آخر على مدّعى المحقق العراقي مركب من أمرين : أحدهما : وجداني ، وهو إدراك وجود تشابه بين النسب الابتدائية على نحو لا يوجد بين نسبة ابتدائية ونسبة ظرفية. والآخر : برهاني ، وهو انّ كلّ تشابه بين أمرين يرجع لا محالة إلى اشتراكهما في حيثية واحدة إذ مع التباين في كلّ الحيثيات لا يبقى فرق بين مباين ومباين ، فإذا تقرّر هذان الأمران يستكشف على أساسهما وجود حيثية مشتركة بين النسب الابتدائية ، وهذه الحيثية ليست عرضية وطارئة لوضوح انّ التشابه ملحوظ بين النسبتين الابتدائيتين بقطع النّظر عن أيّ عارض وطارئ ولا يمكن تصوّر زوال التشابه بزوال هذا العارض أو ذاك فيتعيّن أن تكون الحيثيّة المشتركة ذاتية وبذلك يثبت الجامع الحقيقي بين النسبتين.
وببيان آخر : إن النسب الابتدائية مثلاً ينتزع منها جميعاً مفهوم اسمي واحد
٣٤٢
ولا يمكن انتزاع مفهوم واحد من المتباينات بما هي متباينات ، فحينما ينتزع مفهوم واحد من أفراد عديدة فلا بدّ أن يكون منتزعاً امّا بلحاظ مرتبة ذاتها فيكون جامعاً ذاتيّاً ، أو بلحاظ مرتبة عرض من أعراضها وشأن من شئونها فيكون جامعاً عرضيّاً ، والثاني في المقام باطل لما أشرنا إليه فيتعيّن الأول.
وينحصر الجواب على هذا البرهان : بإنكار مرجعية التشابه حتماً إلى الاشتراك في جامع إلاّ فيما كان له تقرر ماهوي في مرتبة سابقة على الوجود وامّا ما كان تقرّره في طول صقع الوجود فلا يرجع التشابه والتقارب فيه إلى الاشتراك في جامع مفهومي حقيقي كما هو الحال في أنحاء الوجود نفسها ولو كان لا بدّ من جامع كذلك في كلّ تشابه لزم عند تطبيق ذلك على النسب افتراض اشتمالها على جامع ذاتي محفوظ في تمام النسب وجامع ذاتي آخر محفوظ في خصوص النسب الابتدائية مثلاً ، وبهذا تكون النسبة الابتدائية مركّبة من جزءين وهذا الجزءان بنفسيهما بينهما تشابه بالضرورة في مقابل ما لا يدخل في تكوين النسبة من مفاهيم فلا بدّ انسياقاً مع البرهان المذكور من افتراض جامع ذاتي بينهما وهكذا.
٢ ـ من ناحية اللفظ الموضوع
الناحية الثانية : في تشخيص كيفية وضع الحروف والهيئات من جانب اللفظ من حيث انّه شخصي أو نوعي ، والمعروف بين المحققين انّ الوضع في الهيئة نوعي وامّا الوضع في الحروف فلم يتكلّموا عنه وكأنّه لافتراض وضوح كون الوضع فيه شخصياً.
والتحقيق في الحروف : انّ الوضع فيها نوعي بناء على ما حققناه من أنّ الحرف ليس له وضع مستقل بل موضوع بوضع ضمني في ضمن الجملة ، وحيث انّ عناصر الجملة تختلف من مورد إلى آخر وهي غير محصورة فلا بدّ من استحضار عنوان إجمالي يشير إلى كلّ الجمل التي تتألّف من ظرف ومظروف وحرف الظرفية مثلاً ووضعها للمعنى المناسب لها ، وهذا يعني انّ الوضع نوعي لأنّ الموضوع في الحقيقة شخص كلّ جملة وشخص الجملة لم يستحضر في مقام الوضع إلاّ بنوعه.
وأمّا الهيئات ، فالمعروف كما أشرنا ان الوضع فيها نوعي إذ لم تستحضر الهيئة
٣٤٣
المتخصصة بكلّ مادة بالخصوص في مقام الوضع وانّما استحضر نوع الهيئة الملحوظة لا بشرط من حيث المادة ، وهذا بخلاف المادة فانّ وضعها شخصي.
وقد استشكل في ذلك ثبوتاً بأن التمييز بين الهيئة والمادة بالنوعية في الوضع في الأولى والشخصية في الثانية غير متعقّل ، لأن مناط نوعية وضع الهيئة إن كان عدم اختصاصها بمادة من المواد فالمواد كذلك لعدم اختصاصها بهيئة من الهيئات ، ومناط شخصية الوضع في المادة إن كان امتياز كلّ مادة عن الأخرى فالهيئات كذلك لامتياز بعضها عن بعض.
وقد وجهه المحقق الأصفهاني ( قده ) بأن المادة لما كان لها جامع يمكن استحضاره فالواضع يحضر هذا الجامع في ذهنه ويضع له المعنى فيكون الموضوع بحقيقته وشخصه مستحضراً ، ففي وضع مادة « ضرب » مثلاً يتصور الحروف الثلاثة على نحو يكون الضاد مقدماً على الراء والباء متأخراً عنهما فيقول وضعت ذلك للمعنى الحدثي الخاصّ. وامّا في جانب الهيئة ، فلا يمكن حضور الهيئة بنفسها واستحضارها مجردة عن المادة لتقومها بالمادة حيث انّها طور من أطوارها ، فلا يعقل أن يكون هناك جامع حقيقي بين هيئات « ضارب » و « عالم » و « شارب » لأنّه لا جامع بين المواد ، وذلك الجامع حيث انّه هيئة يحتاج إلى ما يقوم به ومع قيامه بمادة خاصة يتشخص فلا يكون جامعاً ، والحاصل : انّ كلّ ما يفرض جامعاً إن كان قائماً بمادة فليس هو بجامع لتخصصه بمادة من المواد وإلاّ فليس بهيئة حقيقة. وإذن فلا بدّ للواضع من إحضار عنوان انتزاعي يشير به إليها ، أو وضع بعضها وقياس الأفراد الأخرى عليه ، وبهذا يكون الوضع نوعيّاً ويختلف عن المادة لوجود الجامع الحقيقي للمادة ، وهذا طريف وجيه ، غير انّ الكلام يبقى إثباتاً في ان وضع الهيئة هل هو نوعي أو شخصي ولدينا هنا إشكال إثباتي نرى أنّه يواجه دعوى النوعية في وضع بعض الهيئات الإفرادية ، كهيئة اسم الفاعل ونحوه ، وملخصه : انّ الهيئة كهيئة اسم الفاعل أو فعل الماضي مثلاً إذا أخذت لا بشرط من حيث المادة ووضعت للذات المتلبسة بالمبدإ بناء على التركيب في المشتق وللنسبة بين الفعل والفاعل بناء على أن مفاد الفعل نسبة أولية ، فهناك أنحاء من التلبّس وأنحاء من النسب بين الفعل والفاعل فهو تارة : يكون صدوريّاً كما في « ضارب » و « ضرب »
٣٤٤
و « قاتل » و « قتل » وأخرى : حلوليّاً كما في « مائت » و « مات » و « عالم » و « علم » فان كان المأخوذ في مدلول الهيئة في مقام الوضع الجامع بين تلك النسب والتلبسات على نحو الوضع العام والموضوع له العام أو على نحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ فيلزم صحة استعمال كلّ هيئة في كلّ نحو من التلبس ، وهذا يعني صحة استعمال « قاتل » فيمن تلبس بحلول القتل عليه وهكذا وهو واضح البطلان ، وإن كان المأخوذ نحواً خاصاً من التلبس كالتلبس الصدوري مثلاً لزم ان لا يجوز استعمال أي هيئة في مورد التلبس الحلولي مع وضوح صحته في بعض الهيئات كما في « مائت » مثلاً فلم يبق إلاّ أن يكون الواضع قد لاحظ كلّ هيئة مقرونة بمادتها الخاصة ووضعها للنحو المناسب من التلبس والنسبة وهو معنى الوضع الشخصي.
ولا يصحّ أن يقال : ان اسم الفاعل موضوع للذات المتلبسة بالمبدإ بالتلبس المناسب لطبيعة ذلك المبدأ ، وحيث انّ المناسب للقتل التلبس الصدوري لم يصح استعمال لفظ « القاتل » في الذات التي حلّ فيها القتل ، وان المناسب للعلم التلبس الحلولي لم يصح استعمال لفظ « العالم » في الذات التي صدر منها العلم. فان هذا الكلام لا محصل له ، وذلك لأن كلاً من القتل والموت والعلم عرض له نسبتان ، نسبة إلى فاعل القتل والعلم ونسبة إلى محلها ، وليس أحدهما أولى من الآخر بإحدى النسبتين فلما ذا صحّ استعمال « قاتل » في فاعل القتل ولم يصح استعمال « مائت » في فاعل الموت.
ولا يصح أن يقال : انّ هيئة اسم الفاعل موضوعة للذات المنتسب إليها المبدأ بالنسبة التي أخذت في المصدر ، وحيث انّ المصادر مختلفة من هذه الجهة ففي بعضها أخذت النسبة إلى الفاعل وفي بعضها النسبة إلى المفعول وهكذا ، فاسم الفاعل يدلّ على صاحب تلك النسبة ومن هنا افترق « قاتل » عن « مائت » فان القتل أخذت فيه النسبة إلى الفاعل والموت أخذت فيه النسبة إلى الميت. فان هذا الكلام غير مستقيم حتى لو بني على تضمن هيئة المصدر للنسبة ، لأنّ النسبة المأخوذة في القتل مثلاً لا نسلم انّها النسبة إلى فاعل القتل بالخصوص بل هي النسبة إلى كل من الطرفين من الفاعل والقابل ، ولذا تكون إضافته إلى القابل على حدّ إضافته إلى الفاعل ، فكما يقال « قتل
٣٤٥
معاوية لحجر جريمة » يقال « قتل حجر من أعظم المحرمات » والوجدان شاهد على ان لفظ القتل لا يوجب انصراف الذهن إلى خصوص النسبة الفاعلية. فلم يبق وجه لاختصاص القاتل بفاعل القتل.
ولا مخلص عن هذا الإشكال إلاّ بالالتزام بأن الهيئة في ضمن كلّ مادة موضوعة بوضع شخصي للنحو المخصوص من النسبة ، أو الالتزام بأن أنحاء النسب مأخوذة في مدلول المادة ووضعها الشخصي ، بأن تكون النسبة الصدورية مثلاً مأخوذة بالخصوص في مدلول المادة ، أو تكون كلّ من النسبة الصدورية والحلولية مأخوذة في مدلولها بنحو الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، ويحافظ حينئذ على الوضع النوعيّ للهيئة.