الشرح:
قوله: إلهَ: يكون «أَلَهَ» ـ بفتح الھمزة واللام ـ إِلھَةً على وزن عَبَد عبادة. ويكون إله بكسر الھمزة على وزن فِعال
بمعنى المفعول أي المعبود مثل الإمام بمعنى من يؤتم به. وأن «إله» أساس اشتقاق «االله» حیث أدخلت الألف
واللام وحذفت الھمزة تخفیفاً. وقال البعض أن الألف واللام أدخلتا عوضاً عن الھمزة التي حذفت. ولكل من القولین
دلیل لغوي لا حاجة لذكره. فتطلق «الإلھیة والألوھیة» غالباً في لسان أھل االله ـ العرفاء ـ على مقام التجلي
بالفعل، وعلى مقام الفیض القدس. وتطلق عندھم «االله» : اسم الجلالة، غالباً على مقام الذات المستجمع
للصفات. وقد يستعملون على العكس من ذلك ـ فتطلق الألوھیة والإلھیة على مقام الذات واالله على مقام
التجلي بالفعل ومقام الفیض المقدس ـ.
ويحتمل أن يكون «الإله» في ھذا الحديث الشريف بمعناه اللغوي العرفي أي (أنا المعبود ولا معبود غیري)
وعلیه يكون قصر العبودية في االله سبحانه إما على أساس أن غیره لا يستحق العبادة حتى وان أخطأ الناس ورأوا
غیره معبوداً. وأما على مذھب أھل القلوب وأرباب المعرفة من أن العبادة في أي صورة ومظھر كانت، تكون للكامل
المطلق، وأن الإنسان حسب (فطرة االله الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْھَا) يطلب الجمیل المطلق، وأن كان الإنسان العابد
محجوباً عن ھذه الفطرة، وزاعماً أنه قد ارتبط بالمتعین والمحدود ـ من غیر الإله سبحانه ـ.
ولعلّ المقصود من الإله حسب ما ورد في ذيل الحديث الشريف من نسبة الخیر والشر إلیه سبحانه، ھو مقام
الألوھیة الذي يكون إشارة إلى مقام توحید الأفعال، والذي عبر عنه الحكماء العظام بقولھم (لا مُؤْثِّرَ فِي الْوُجُودِ إلاَّ
اللَّهُ) كما سنشیر إلیه بعد قلیل ان شاء االله تعالى.
قوله: «الخیر» قال محقق المحدثین المجلسي رحمه االله في ذيل ھذا الحديث الشريف: (والخیر والشر
يطلقان على الطاعة والمعصیة وعلى أسبابھما ودواعیھما وعلى المخلوقات النافعة كالحبوب والثمار والحیوانات
المأكولة والضارة كالسموم والحیات والعقارب وعلى النعم والبلايا. وذھب الأشاعرة إلى ان جمیع ذلك من فعله
تعالى. والمعتزلة والإمامیة خالفوھم في أفعال العباد وأوّلوا ما ورد في أنه تعالى خلق الخیر والشر بالمعنیین
الأخیرين ـ ثم قال ـ وأما الحكماء فأكثرھم يقولون لا مُؤَثَّرَ فِي الوُجُودِ إلاَّ اللَّهُ، وإرادة العبد مُعِدَّة لإيجاده تعالى
٧٥٩ الفعل على يده فھي موافقة لمذاھبھم ومذاھب الأشاعرة ويمكن حمله على التقیة)
انتھى كلامه رفع مقامه.
٧٥٧
سورة الحجرات، آية: ٢٩.
٧٥٨
أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب التوحید، باب الخیر والشر، ح١.
٧٥٩
مرآة العقول، المجلد ٢ ،ص ١٧٢.
٢٧٦
في تحقیق الخیر والشر
إن الخیر والشر في موارد استعمالیھما يكونان بمعنى الكمال والنقص في الذات أو الصفات وفي الوجود
وكمالاته، وأن جمیع ما ھو خیر بحسب ذاته، فھو عائد إلى حقیقة الوجود وإذا أطلق على غیره، فھو من أجل
الوجود. كما أن الشرَّ بالذات، ھو عدم الوجود أو عدم كمال الوجود، وإطلاقه على غیر ذلك مثل الموجودات المؤذية
والحیوانات الضارّة، فإنما ھو إطلاق بالعرض والمجاز لا بالذات والحقیقة. ولو تصوّرنا ھذا الموضوع مع مبادئه
ومنطلقاته، للزم أن يكون تصديقه ضرورياً، رغم وجود البرھان السديد أيضاً على ذلك.
وما قاله المحقق المجلسي رضوان االله تعالى علیه في موضوع «خلق أفعال العباد» من أن الأمامیة والمعتزلة
قد خالفوا الأشاعرة، وأنھم قاموا بتأويل الآيات والأحاديث التي تنسب الخیر والشر إلى الحق سبحانه. ففیه بعض
الملاحظات: إذ أن مخالفة الإمامیه والمعتزلة، للأشاعرة القائلین بالجبر، الذاھبین إلى مسلك مخالف للعقل
والبرھان والوجدان، ھذه المخالفة تكون صحیحة ولكن لا وجه لتأويل الآيات والأخبار، على مذھب المعتزلة القائلین
بالتفويض الذي يكون أسوأ وأشنع من مذھب الأشاعرة.
وكذلك لا يحتاج الشیعة رضوان االله تعالى علیھم، الذين استناروا بنور ھداية أھل البیت العظام، واختاروا بسبب
بركة أھل بیت الوحي والعصمة مسلك الحق الموافق للآيات الكريمة، والبراھین المتقنة والمطابقة مع مذھب
العرفاء الشامخین ومسلك أصحاب القلوب، ھؤلاء لا يحتاجون إلى تأويل ھذه الأخبار والآيات الكثیرة، وخاصّة التأويل
الذي عرضه المحدث المذكور رحمه االله والذي يعتبر مرفوضاً وغیر ممكن. بل إن الإمامیة وأئمتھم علیھم السلام،
لا يعزلون إرادة الحق سبحانه عن أي فعل من أفعال العباد، ولا يرون تفويض أي أمر من الأشیاء إلى العباد.
وأما ما ذكره في نھاية كلامه: (أكثر الحكماء يقولون بأنه لا مؤثر في الوجود إلا االله، وھذا يتطابق مع مذھبھم
ومذھب الأشاعرة).
فإن ھذه الكلمة «لاَ مُؤَثِّرَ فِي الوُجُودِ إِلاَّ اللَّهُ» صحیحة لدى أكثر الحكماء، بل لدى جمیع الحكماء وأھل المعرفة
بل يقولون إن من لم يذعن لھذه القضیة من الفلاسفة، لم ينفذ نور الحكمة في قلبه، ولم يشعر عمق قلبه
بالمعرفة ولكن لیس معناھا أن إرادة العبد من الأمور المُعِدَّة لإيجاد الحق سبحانه، الفعل في العبد، كما ھو واضح
لدى أھل العلم والفلسفة.
وقوله (ويوافق مع مذھب الأشاعرة) غیر صحیح فإن من الغرابة بمكان عطف مذھب الأشاعرة على مذھب
الحكماء، لوجود البعد الشاسع بین مذھب الحكماء ومذھب الأشاعرة، ولا تجد حكیماً محققاً لم يطعن في مذھب
الأشاعرة ولم يخالفه.
وأما ما ذكره (يمكن حمل ھذه الأخبار على التقیة) فتتوجه نحوه الملاحظات التالیة:
أولاً: لا مجال لمثل ھذا التوجیه، لأن ظواھر الأخبار تتوافق مع مذھب الحق والبرھان القويم.
ثانیاً: إن ھذه الأخبار تتطابق مع آيات كثیرة من القرآن الكريم، ولا معنى لتوجیه الآيات والأخبار الموافقة لھا
على التقیة.
ثالثاً: لا توجد أخبار تتعارض مع ھذه الأخبار، حتى نحملھا على التقیة التي تكون من المرجحات في باب
التعارض، إذ يمكن الجمع بینھا وبین ما يدل على أن الإنسان فاعل للخیر والشر.
رابعاً: إن ھذه الأخبار تنسجم حسب زعمه مع مذھب الأشاعرة الذي لم يعتنقه الغالب من الناس فلا مسوّغ
لحمل الأخبار على التقیة.
خامساً: أن المرجحات لدى تعارض الخبرين لا تجري على الموضوع الذي نحن فیه من المسائل العقائدية كما
ھو واضح.
قوله: طوبى. قال الجوھري (إن طوبى على وزن فُعلى وأنه مشتق من الطیّب، فبمناسبة الضمة السابقة
على الطاء انقلبت الیاء إلى الواو). وفي مجمع البحرين: (طوبى لھم أي طیب العیش، وقیل طوبى الخیر وأقصى
الأمنیة. وقیل طوبى اسم للجنة بلغة أھل الھند. وقیل طوبى شجرة في الجنة. ويقال طوبى لك وطوباك على نحو
٢٧٧
الاضافة إلى ضمیر المخاطب. وفي الخبر عن النبي صلّى االله علیه وآله وسلم: (طُوبى شَجَرةً فِي الجَنَّةِ أصْلُھا
فِي دارِي وَفَرْعُھا فِي دارِ عَليٍ فَقِیلَ لَهُ فِي ذلِكَ فَقالَ لِي دارِي وَدارِ عَليٍّ فِي الْجَنَّةِ بِمَكَانٍ وَاحِدٍ).
قوله: ويل. قال الجوھري (إن ويح كلمة رحمة كما أن ويل كلمة عذاب) وقال الیزدي ھما بمعنى واحد تقول ويح
لزيد وويل لزيد ترفعھما على الابتداء وتنصبھما بإضمار فعل مثل ألزمه االله الويل. ويقال ويل واد في جھنم لو
أرسلت فیه الجبال لذابت من حرّه. وقیل انه اسم بئر في جھنم.
فصل: في بیان أن كلاً من الخیر والشر يتعلق به الإيجاد والخلق وبیان كیفیة ذلك
وفیه إشارة إلى كیفیة وقوع الشرّ في القضاء الإلھي إعلم انه قد ثبت بكل وضوح في الفلسفة المتعالیة، أن
نظام الكون في أسمى مرتبة من الكمال والخیر، وأقصى درجة من الحسن والجمال. وبُرھن على ذلك بنوع من
البرھان اللمي على نحو إجمالي تارة، وعلى نحو تبسیطي وتفصیلي أخرى. والوقوف على تفاصیل ذلك بصورة
دقیقة، مختص بالخالق تقدست أسماؤه أو بمن يوحي له االله سبحانه ويخبره عن ذلك. ولكن ما يستدعیه الكتاب
في ھذا الموضوع ھو ما أومأنا إلیه سابقاً: من أن ما ھو من سنخ الكمال والجمال والخیر، لا يكون خارجاً عن نطاق
حقیقة الوجود لأنه المتحقق، دون غیره. ومن الواضح أن ما يقابل حقیقة الوجود، ھو العدم أو الماھیة، وكل منھما
حسب ذاته وفي نفسه لا شيء، وبطلان محض، أو اعتبار محض، ولا يكون لھما ثبوت إلاّ إذا تنورا بنور الوجود،
وظھرا بظھوره، ومن دون الوجود لا ثبوت في ذاتھما ولا في صفاتھما وآثارھما، وعندما يلقي الوجود بظلّه على
رؤوسھما، ويمسح بید رحمته الواسعة على وجھھما، يصبح لكل منھما ظھوراً وخصائص وآثاراً. فإذن تكون كافة
الكمالات نتیجة جمال الجمیل المطلق، وتجلي النور المقدس للكامل المطلق. وأما الكائنات الأخرى فھلاك في
نفسه، وفقر محض وبطلان مطلق. فجمیع الكمالات تصدر من الوجود وتعود إلى الوجود.
وتقرر أيضاً في محلّه أن الصادر من الذات المقدس ھو أصل حاقّ الوجود، وصرفه من دون أن يكون محدوداً
بحدود عدمیة أو ماھوية، لأن العدم أو الماھیة لا يكونان صادرين من شيء، وأن التحديد المفروض على الفیض،
يكون ناشئاً من المفیض المحدود. ومن تدبر في شرح أھل المعرفة حول كیفیة الإفاضة والفیض، لأذعن بأنه لا
يمكن بتاتاً تصور التقیید والتحديد في الفیض النازل من الباري عز وجل. فكما أن ذاته القدسیّة منزّھة من كل نقص
وإمكان وتقیید، فكذلك يجب تنزيه فیضه المقدس وتقديسه من كافة الحدود والإمكانیه، والأمور المنبثقة من
الماھیات والتحديدات الراجعة إلى الحدود والنقائص. إذن فیضه الذي ھو ظل
للجمیل المطلق، يكون جمیلاً مطلقاً، وجمالاً تاماً، وكمالاً تاماً، فَھُوَ جَمِیلٌ فِي ذَاتِهِ وَصفاتِهِ وأفعالِهِ، فلا يتعلق
الجعل والإيجاد إلا بالوجود.
وقد برھن أيضاً في محلّه، أن جمیع الشرور والإحترام ـ الموت المبكر ـ والھلاك والأمراض والحوادث الغربیة
والمھلكة والحیوانات المؤذية وغیر ذلك من المصائب والآلام الموجودة في ھذا العالم المادي الطبیعي، وفي ھذه
الھاوية الضیقة المظلمة، ينشأ من التضادّ والاصطدام الحاصل بین الموجودات، ھذا التضاد، الذي لم يكن نتیجة
الجھة الوجودية للموجودات بل يحصل من جرّاء النقص في ھذه النشأة وضیق المحلّ والمقرّ للموجودات، ويعود
ذلك إلى الحدود والنقائص الخارجة عن إطار نور الجعل بل تكون في الحقیقة دون الجعل.
إن الوجود ھو الحقیقة وھو كل شيء وھو البريء والمقدّس من كل الشرور والعیوب والنواقص وأن النقائص
والشرور والأشیاء الضارة والمؤذية التي تعود إلى جھة النقص والضرر، وإن كانت غیر مجعولة بالذات، ولكنھا
مجعولة بالعرض حسب الأدلة والبراھین. لأنه لو لم يتحقق أصل العالم المادي ولم يتعلق الجعل للجھة الوجودية
من عالم الطبیعة لما كان ھناك نقص وشرّ كما أنه لم يكن نفع وخیر وكمال، لأن ھذه النقائص والأعدام لم تكن
من الأعدام المطلقة، بل ھي من نوع الأعدام المضافة التي تتحقق بالعرض تبعاً لملكاتھا، والقضیة التي تتألف من
الأعدام المضافة تعتبر من القضايا المعدولة أو القضايا الموجبة السالبة المحمول ولیست من السالبة المحصلة.
وملخّص الكلام أنّ ما ھو مخلوق ومجعول بالذات الله سبحانه ھو الخیر والكمال، وإنَّ تخلُّل الشرور والمضارّ
وغیرھا في القضاء الإلھي، يكون بالتبع والانجرار. وقد أشارت الآية الكريمة التالیة القرآن الكريم (مَا أَصَابَكَ مِنْ
٢٧٨
. إلى المقام الأول ـ الوجود مصدر الخیر والكمال وأنه (قُلْ ٧٦٠
َسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَیِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)
. إلى المقام الثاني ـ مجعول بالذات والشرور والنقائص مجعولة بالعرض ـ ووردت في الآيات ٧٦١ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
الشريفة وأحاديث أھل
بیت العصمة علیھم السّلام إشارات كثیرة إلى ھذين الاعتبارين، ومن تلك الأخبار ھذا الحديث الشريف الذي
يحتوي على ھذه الجملة (خَلَقْتُ الخَلْقَ وَخَلَقْتُ الشَّرَ).
فصل: في بیان كیفیة إجراء الحق سبحانه الخیر والشر على أيادي عباده
يتبین لأصحاب العلم والتحقیق بعد التأمل في الأبحاث السابقة، كیفیة إجراء الحق سبحانه، الخیر والشرعلى
أيدي مخلوقه، من دون أن يستلزم الجبر وآثاره الباطلة. والتحقیق في ذلك على مستوى يتّضح الموضوع وتندفع
الملاحظات، يستدعي ذكر مقدمات كثیرة، وعرض المذاھب الفلسفیة بصورة مسھبة، في حین أن ھذا الكتاب لا
يسع ذلك، فاعتذر عن الخوض فیه بصورة مفصلة، ولكنني سأشیر بصورة مجملة تنسجم مع بحثنا ھذا فنقول:
اعلم أنه لا يمكن أن يكون موجوداً من الكائنات مستقلاً في عمل من الأعمال، إلاّ بعد أن ينھض الموجد
والفاعل، بسدّ كافة أبواب العدم التي قد تنفتح على المعلول. مثلاً إذا كان لوجود معلول وتحققه مائة شرط مثلاً،
وقامت العلة بتوفیر تسع وتسعین شرطاً أي بإغلاق تسع وتسعین باباً من العدم المنفتحة على المعلول
المفروض ـ إذ في عدم تحقق كل شرط عدم للمعلول ـ ولم يبق الا باب واحد، لما أمكن أن تكون العلة مستقلة
في إيجاد المعلول، فالاستقلال في العلیّة يتوقّف على قیام العلّة بسدّ أبواب العدم الممكن فتحھا على المعلول
سدّاً نھائیاً، حتى يصل المعلول إلى حد الوجوب لكي يصیر موجوداًـ الشيء ما لم يجب لم يوجد ـ.
ومن المعلوم بالضرورة والبرھان، أن القوى الفعّالة الظاھرية والباطنیة من جمیع الممكنات في ھذا العالم من
أھل عالم الجبروت العظمى والملكوت العلیا حتى سُكّان عالم المُلك والمادة، قاصرون وعاجزون عن القیام بمثل
ھذا العمل، لأن العدم الأول الذي يمكن أن ينفتح على المعلول، ھو عدم المعلول عند عدم علته الفاعلة والمؤثرة،
ولا تجد في سلسلة الممكنات، موجوداً يستطیع أن يغلق ھذا الباب بنفسه، لأن ذلك يوجب انقلاب ما ھو ممكن
بالذات إلى ما ھو واجب
بالذات، وخروج الممكن عن حدود بقعة الإمكان، وھو محال بالبداھة والضرورة، لدى العقل. فاتضح بأن
الاستقلال في الإيجاد يتطلب الاستقلال في الوجود، وھذا الشيء لا يتحقق في عالم الممكنات.
ويتبین بأنه لا يمكن التفويض في الإيجاد، في أي شأن من الشؤون الوجودية، ولأي موجود، من الكائنات، وأنّ
عدم الإمكان ھذا، لا يختص بالمكلفین وأفعالھم، كما يُفھم ذلك من الكلمات الجارية على ألسنة المتكلمین، ولكن
ملاحظة أقوالھم في الأبواب المختلفة، تفید أن عدم الإمكان ھذا يعمّ المكلّف وأفعاله وغیرھما.
وحیث أن أصحاب علم الكلام قد اھتموا بأفعال المكلفین وجعلوھا محور بحثھم، نجد بأن دراساتھم تدور حول
أفعال المكلفین.
والخلاصة أننا لا نقترب من أقوال المتكلمین وأبحاثھم، وإنما نبحث عن قول الحق في الموضوع، وقد ثبت
واتضح عدم امكان التفويض في أي أمر من الأمور ولأي موجود من الكائنات.
في إبطال الجبر
ويعلم بطلان مذھب الجبر أيضاً، بعد أن نشیر إلیه وھو: (أنه لا دور لأي واسطة وجودية في خلق الكائنات
والموجودات، وإنما يتوھم الإنسان ذلك. مثلاً: إن النار لا تؤثر أبداً في الحرارة ولا توجدھا، وإنما جرت سنة االله على
تحقق الحرارة إثر تحقق النار، من دون أن يكون للنار دور في ذلك. ولو كانت سنّة االله جارية على تحقّق البرودة
عقیب تحقق النار، لما اختلفت الأمور عما ھو علیه الآن. والخلاصة أن الحق سبحانه من دون أي واسطة، يباشر
جمیع أفعال المكلفین، ويخلق آثار الكائنات). ويزعمون أنھم ارتأوا ھذا المذھب كي ينزّھوا الحق المتعالي
٧٦٠
سورة النساء، آيات: ٧٩ ـ ٧٨.
٧٦١
سورة النساء، آيات: ٧٩ ـ ٧٨.
٢٧٩
. ولكن يستلزم ھذا الضرب من التنزيه والتقديس، ٧٦٢ ويقدّسوه، حتى لا تكون يد االله مغلولة (غُلَّتْ أيّديھِمْ وَلُعِنُوا)
النقص والتشبیه، كما ثبت ذلك بالأدلة والبراھین، ولدى مذھب أھل العرفان. ويستلزم التفويض المذكور التعطیل،
كما أشیر إلیه في الفصل المتقدم حیث قلنا: بأن الحق سبحانه كمال مطلق، ووجود صرف، ولا يتصور الحدّ
والنقص في ذاته وصفاته، وأن متعلق إيجاده عز وجل وجعله، الموجود المطلق، والفیض المقدس الإطلاقي، ولا
يمكن صدور الموجود المحدود الناقص من الذات المقدس، ونشوئه من النقص في الإيجاد، بل ھو نتیجة النقص
في المعلول والمستفاض، وھذا لا يتنافى مع الفاعل بالإرادة كما يزعم المتكلمون منافاته. وقد ثبت ذلك في
محله، فما يمكن أن يكون مرتبطاً من الموجود والمعلول، بالذات المقدس الحق المتعالي مباشرة ھو الموجود
المطلق وصريح الوجود وھو إما الفیض المقدس بناءً على مسلك العرفاء، أو العقل المجرد أو النور الشريف الأول
بناءاً على مذھب الحكماء والفلاسفة، وأما الوجودات الأخرى فتوجد مع الوسائط لا بالمباشرة.
وبعبارة أخرى لاشك في أن الموجودات تختلف فیما بینھا من جھة تقبل الوجود، فبعض الموجودات، تقبل
الوجود ابتداءاً واستقلالاً مثل الجواھر، وبعض الموجودات لا تقبل الوجود الا بعد موجودية شيء آخر، وتبعاً لموجود
آخر، مثل الأعراض والأشیاء التي يكون وجودھا ضعیفاً، مثل تكلم زيد، حیث لا يتحقق ولا يوجد إلاّ تبعاً لزيد. ومثل
الأعراض والأوصاف التي تأبى الوجود من دون وجود الجواھر والموصوف، وترفض التحقق لوحدھا. ويكون ھذا
الرفض نتیجة النقص الذاتي، والنقص الوجودي لھذا الموجود، ولیس من آثار نقص الفاعل وموجدية الحق تعالى
شأنه. فتبین أن الجبر ونفي الوسائط الوجودية غیر ممكن في سلسلة الكائنات الموجودة بل ھناك وسائط في
الإيجاد.
ومن البراھین القوية السديدة في موضوع بطلان الجبر ھو أن الماھیات في نفسھا عديمة التأثیر والتأثر، وغیر
مجعولة بالذات، في حین أن حقیقة الوجود بذاته منشأ للتأثیر وأن سلب التأثیر عنه بصورة مطلقة يستلزم
الانقلاب الذاتي أي سلب ما ھو من ذاته التأثیر عن ذاته كي يتحول إلى عدم التأثیر. فإيجاد مراتب من الوجود غیر
مؤثرة ومسلوبة التأثیر كلیاً، غیر ممكن، وموجب لنفي الشيء عن ذاته بل تكون مؤثرة وموجدة حسب الوسائط
والمراتب.
فتبین بصورة مجملة أن مذھب التفويض والجبر نتیجة البراھین القاطعة، والمقايیس العقلیة يكونا باطلین
وممتنعین، وأن مذھب الأمر بین الأمرين لدى أھل المعرفة والفلسفة العلیة ھو الثابت والصحیح.
غیر أن العلماء رضوان االله علیھم قد اختلفوا في معنى الأمر بین الأمرين اختلافاً عظیماً، والقول السديد
المتقن، الذي يكون أبعد من المناقشات وأقرب إلى التوحید، ھو رأي العرفاء الشامخین وأصحاب القلوب. ولكن
مسلك العرفاء في كل موضوع من المعارف الإلھیة من قبیل (السھل الممتنع) حیث لا يمكن فھمه على أساس
البحث والبرھان، ولا استیعابه من دون التقوى الكاملة والسداد الإلھي، ولھذا نتركه لأھله الذين ھم أولیاء الحق
سبحانه، ونسلك منھج الأصحاب في البحث وھو:
أننا نرفض كلاً من التفويض الذي ھو عبارة عن استقلال الموجودات في التأثیر، والجبر الذي ھو عدم تأثیر
الموجودات نھائیاً ونؤمن بالمنزلة بین المنزلتین التي ھي إثبات التأثیر ونفي الاستقلال في التأثیر، ونقول:
إن منزلة الإيجاد مثل الوجود وأوصافه، فكما أن الكائنات موجودة ولیست بمستقلة في الوجود، وأن الأوصاف
ثابتة لھا وغیر مستقلة فیھا، وأن الآثار والأفعال ثابتة فیھا وصادرة عنھا ولكنھا غیر مستقلة في الوجود، فكذلك
الفاعل والموجد، يفعل ويوجد ولكنه غیر مستقل في الفاعلیة والإيجاد.
ولا بد من معرفة أنه قد اتضح بعد التدبر في البیان المذكور في الفصل المتقدم بأن كلاً من الخیر والشر يصحُّ
أن ينتسب إلى كل من الحق والخلق، ولھذا قال علیه السّلام في الحديث الشريف «وَخَلَقْتُ الْخَیْرَ وأجْرَيتُه عَلى
يَدي مَنْ أُحبّ فَطُوبى لِمَنْ أجْرَيتُه عَلى يَدَيْه، وأنا االله لا إلهَ إلاّ أنَا خَلْقتُ الْخَلْقَ وَخَلَقْتُ الشَّرَّ وَأَجْريتُه عَلى يَدَيْ
مَنْ أُرِيدُ» ومع ذلك تكون نسبة الخیر إلى الحق سبحانه، بالذات، وإلى العباد والكائنات، بالعرض، في حین أن
٧٦٢
سورة المائدة، آية: ٦٤.
٢٨٠
نسبة الشرور إلى الموجودات الأخرى بالذات، وإلى الحق سبحانه بالعرض، وقد أشار إلى ھذا المعنى الحديث
القدسي القائل «يا بَنِي آدَمْ أنَا أولى مِنْك بِحَسَناتِكَ وأنْتَ أوَلى بِسَیِئَاتِكَ منّي» وقد أشرنا إلى ھذا المعنى قبل
ذلك، ونغض الطرف عنه ھنا فعلاً. والحمد الله أوَّلاً وآخِراً.
الحَديث الموَفّى للأربَعین: تفسِیر سورة التوحید وَالآيَات الأولى من سورة الحديد
بالسّند المتّصل إلى الشیخ الأقدم والركن الأعظم محمَّد بن يعقوب الكلینيِّ ـ رضوان االله عنه ـ عن محمَّد بن
يحیى، عن أحمد بن محَمَّد، عن الحسین بن سعید، عن النّضر بن سويد، عن عاصم بن حُمَید قالَ: «سُئِلَ عَليُّ
بْنُ الْحُسَیْنِ علیھما السّلام عَنِ التَّوْحیدِ، فقَال: إنَّ اللّه عَزَّ وَجَلَ عَلِمَ أنَّهُ سَیَكُونُ في آخِرِ الزَّمانِ أقْوامٌ مُتَعَمِّقونَ
فَأنْزَلَ اللّهُ تَعالى:[قُلْ ھُوَ اللّهُ أحَدٌ] وَالآياتِ مِنْ سورَةِ الْحديدِ إلى قوْلِهِ [وَھُوَ عَلیمٌ بِذاتِ الصُّدورِ] فَمَنْ رامَ وَراء ذلِكَ
٧٦٣ فَقَدْ ھَلَكَ»
.