الشرح:
قَدْ غَفَرَ االله لَكَ إشارة إلى قوله تعالى في سورة الفتح (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
352 ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)
.
اعلم أن العلماء ـ رضوان االله تعالى عليھم ـ ذكروا في تفسير ھذه الآية المباركة وجوھاً لمنع تنافي الآية مع
عصمة النبي المكرّم، ونحن نستعرض بعض الوجوه التي نقلھا المرحوم العلامة المجلسي رحمة االله تعالى ثم
نبيّن بصورة مجملة ما ذكره أھل المعرفة كل حسب ذوقه ومسلكه.
: لأصحابنا فيه وجھان: 353 قال المرحوم المجلسي
(أحدھما أن المراد ليغفر لك االله ما تقدم من ذنب أمّتك، وما تأخّر بشفاعتك، ونسبة معاصي الأمة إلى
الرسول صلّى االله عليه وآله وسلم لشدّة الاتصال بين الرسول والأمة. ويؤيده ما رواه المفضل بن عمر عن الصادق
عليه السلام قال: سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ ھذِهِ الآية فقال: واالله ما كان له ذَنْبٌ وَلَكِنَّ االله ضَمِنَ لَهُ أَنْ يَغْفِرَ ذنُوبَ شِيعَةِ
عَليّ عَليهِ السَّلام ما تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِھم وَمَا تَأخر.
وروى عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد االله عليه السلام عن قول االله عز وجل: (لِيَغْفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
يقول الكاتب: لھذا التوجيه 354 تَأَخَّرَ) قال: «مَا كَانَ لَهُ ذَنْبٌ وَلاَ ھَمَّ بِذَنْبٍ وَلكِنْ حَمَّلَهُ ذُنُوبَ شِيعَتِهِ ثُمَّ غَفَرَھَا لَهُ»
على مسلك العرفاء وجه وجيه، ولا تخلو الإشارة إليه من فائدة. وھي إنه لا بد وأن نعلم كما تقرّر في محله أن
العين الثابت للإنسان الكامل، مظھر اسم االله الأعظم الذي يكون إمام أئمة الأسماء وأما أعيان كافة الموجودات
فھي في ظلّ عين الإنسان الكامل في العلم وعالم الأعيان، متقررة، وفي عالم العين والتحقق تكون موجودة.
إذن تكون أعيان جميع دائرة الوجود مظھر عين الإنسان الكامل في عالم الأعيان، وتكون جميع الموجودات
مظاھر جماله وجلاله في عالم الظھور. ولھذا كل نقص يقع في عالم التحقق، وكل ذنب يبرز من المظاھر، سواء
كان من الذنوب التكوينية أو التشريعية، ينسب إلى الظاھر حقيقة لا مجازاً لمكان الظاھر والمظھر. فإن صدق قوله
350
سورة النساء، آية: 100.
351
أصول الكافي ـ المجلد الأول ـ كتاب الإيمان والكفر ـ باب الشكر، ح6.
352
سورة الفتح، آية: 1 ـ 2.
353
نقلاً عن الطبرسي رحمة االله، المجلد 17 ،ص 76.
354
بحار الأنوار، المجلد 17 ،ص76.
145
. صدق أيضاً قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه) 355 تعالى: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)
. والأخبار الكثيرة 356
ويقول رسول االله 357 تشير إلى ھذا الموضوع. حيث يقول الإمام الصادق عليه السلام: (نَحْنُ السّابِقُونَ الآخِرُونَ)
ويقول رسول االله صلى االله عليه وآله 358 صلّى االله عليه وآله وسلم: (آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوائِي يَوْمَ القِيَامَةِ)
لام: (سَبَّحْنَا فَسَبَّحَتِ المَلاَئِكَةُ، قَدَّسْنَا 359 ويقول عليه الصلاة والس وسلم: (أَوَّلُ مَا خَلَقَ االله رُوحِي أو نُورِي)
ويقول عليه السلام: (لَوْلاَكَ لَما 361 ويقول الإمام الصادق عليه السلام (لَوْلاَنَا مَا عُرِفَ االله) 360 فَقَدَّسَتِ المَلاَئِكَةُ)
363 ويقول عليه السلام: (نَحْنُ وَجْهُ االله) 362 خَلَقْتُ الأَفْلاَكَ)
.
وفي حديث عن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم يقول «أَنَا شَجْرَةٌ وَفَاطِمَةُ فَرْعُھَا وَعَلِيُّ لِقَاحُھَا وَالْحَسَنُ
. فزينة شجرة الولاية الطيبة بمظھرھا، وما يرد من النقص على 364 وَالْحُسَيْنُ ثَمْرَتُھَا وَمُحِبُّوھُمْ مِنْ أُمَّتِي وَرَقُھا»
مظھرھا ينعكس على الشجرة الطيبة.
إذن ذنوب كافة الموجودات، ذنوب الوليّ المطلق، والحق المتعالي برحمته التامة ومغفرته الواسعة، قد رحم
النبي الأكرم صلّى االله عليه وآله وسلم، قائلاً (لِيَغْفِرَ لَكَ االله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) وبشفاعته تصل كل دائرة
الوجود إلى سعادته الكاملة، وآخَرُ مَنْ يَشْفَعُ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ.
وعلى أساس ھذا التوجيه، تندرج ھذه الآية المباركة في عداد تلك الآية التي تقول (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ
. والتي قالوا أنَّھا (أَرْجى آيَةٍ فِي الْقُرآن) 365 فَتَرْضَى)
. ويمكن أن يكون المقصود من قوله (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبكَ) 366
بناءاً على ھذا التفسير ذنوب الأمم السابقة، لأن جميع الأمم، أمة ھذا الوجود المقدس، وأن دعوة الأنبياء
بأسرھم دعوة إلى الشريعة الخاتمة، ومظاھر للولي المطلق وآدم ومن دونه من أوراق شجرة الولاية.
ثانيھما ما ذكره السيد المرتضى قدّس االله روحه أن الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول
معاً، فيكون ھنا مضافاً إلى المفعول. والمراد ما تقدّم من ذنبھم إليك في منعھم إيّاك عن مكّة وصدّھم لك عن
367 المسجد الحرام
.
ومعنى المغفرة على ھذا التأويل الإزالة والنسخ لأحكام أعداء رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم من
المشركين أي يزيل االله سبحانه وتعالى ذلك عند فتح مكة ويستر عليك ذلك العار بفتح مكة وأنك ستدخل مكة
368 في القريب العاجل ولھذا جعل المغفرة غرضاً من الفتح ووجھاً له
.
قال السيد رحمه االله فإذا أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله (إنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ االله مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِك) معنى معقولاً، لأن المغفرة للذنوب لا تعلق لھا بالفتح وليس غرضاً فيه. فأما قوله (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
369 تَأخَّرَ) فلا يمتنع أن يريد به ما تقدم زمانه من فعلھم القبيح بك وبقومك
.
الثالث أن معناه: (لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك). والقضية الشرطية لا تستلزم صدق طرفيھا
وتحققھا.
الرابع أنه سمى ترك الندب ذنباً وحسن ذلك أنه صلّى االله عليه وآله وسلم ممن لا يخالف الأوامر إلا ھذا
370 الضرب من الخلاف ولعظم منزلته وقدره جاز أن يسمى بالذنب منه فإذا وقع من غيره لم يسمّ ذنباً
.
355 سورة النس
اء، آية: 79.
356
سورة النساء، آية: 79.
357
بحار الأنوار، المجلد 24 ،ح11 ـ ص4.
358
بحار الأنوار، مجلد 16 ،ح1 ـ ص 402.
359
بحار الأنوار، مجلد 15 ،ح 44 ـ ص 25.
360
عيون أخبار الرضا ج1 ـ ص 263.
361
بحار الأنوار، مجلد 26 ،ح 13 ـ ص 247.
362
علم اليقين، ج1 ،ص 381.
363
توحيد الصدوق ص150.
364
أمالي المفيد، مجلس 28 ،ح 5 ،ص 245 ،طباعة دار المرتضى.
365
سورة الضحى، آية: 5.
366
مجمع البيان، ج10 ،ص 505.
367
مجمع البيان، ج9 ،ص11.
368
بحار الأنوار، المجلد 17 ،ص 75.
369
بحار الأنوار، المجلد 17 ،ص 75.
370
بحار الأنوار، المجلد 17 ،ص 74.
146
الخامس أن القول خرج مخرج التعظيم وحسن الخطاب كما تقول غفر االله لك.
قال المجلسي: وَقَدْ رَوَى الصَّدوقُ فِي العُيونِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الجَھْمِ قالَ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ
المَأَمُونِ وَعِنْدَهُ الرِّضَا عليه السّلام فَقَالَ لَهُ المَأَمُونُ: يَا ابْنَ رَسُولِ االله أَلَيْسَ مِنْ قَوْلِكَ أَنَّ الأَنْبِياءَ مَعْصُومُونَ؟ قَالَ:
بَلَى، قَالَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ االله: لِيَغْفِرَ لَكَ االله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ الرِّضا عليه السّلام: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ عِنْدَ
مُشْرِكِي مَكَّةَ أَعْظَمَ ذَنْباً مِنْ رَسُولِ االلهِ صَلّى االلهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم لأَنَّھُمْ كَانُوا يَعْبُدونَ مِنْ دُونِ االله ثَلاَثَمِائَةٍ
وَسِتِّينَ صَنَماً، فَلَمّا جَاءَھُمْ صلّى االله عليه وآله وسلم بِالدَّعْوَةِ إِلَى كَلِمَةِ الإِخْلاَصِ كَبُرَ ذلِكَ عَلَيْھِمْ وَعَظُمَ وَقَالُوا:
{أَجَعَلَ الآلِھَةَ إِلَھًا وَاحِدًا إِنَّ ھَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْھُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِھَتِكُمْ إِنَّ ھَذَا لَشَيْءٌ
371 يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِھَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ ھَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ}
.
فَلَمَّا فَتَحَ االله تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صلّى االله عليه وآله وسلم قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ
االله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) عِنْدَ مُشْرِكِي أَھْلِ َمَّكَةَ ِبدَعاِئَكَ إِلَى تَوْحيِدِ االله فِيمَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؛ لأَنَّ مُشْرِكِي
مَكَّةَ أَسْلَمَ بَعْضُھُمْ، وَخَرَجَ بَعْضُھُمْ عَنْ مَكَّةَ؛ وَمَنْ بَقِيَ مِنْھُمْ لَم يَقْدِرْ عَلَى إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ عَلَيْهِ إِذَا دَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ.
372 فَصَارَ ذَنْبُهُ عِنْدَھُمْ فِي ذلِكَ مَغْفُوراً بِظُھُورِهِ عَلَيْھُمْ. فَقَالَ المَأمُونُ: لِلَّهِ دَرُّكَ يَا أَبَا الحَسَنِ
.
يقول الكاتب. إن ھناك توجيھاً سادساً للحديث تجاه تفسير الآية المباركة وحاصله أن المقصود من قوله
سبحانه من (ذَنْبِكَ) ذنوبه صلوات االله عليه في رأي المشركين وحسب زعمھم الفاسد.
فصل: في توجيه عرفاني للآية الشريفة
اعلم أن للآية الشريفة تفسيراً يتبين على أساس ذوق أھل العرفان ومسلك ذوي القلوب، وعليه لا بد من ذكر
الفتوحات الثلاثة الشائعة عندھم. فنقول إن الفتح في مشربھم عبارة عن فتح أبواب المعارف والعوارف والعلوم
والمكاشفات على الإنسان من قبل الحق سبحانه بعد أن كانت موصدة في وجھه ومغلقة عليه. فما دام الإنسان
في البيت المُظْلَم للنفس، وأنه مشدود بالتعلقات والرغبات النفسية، تكون أبواب المعارف والمكاشفات عليه
مسدودة، وعندما يغادر ھذا البيت المُظلَم ببركة ترويض النفس، وأنوار الھداية، واجتياز منازل النفس، تنفتح أبواب
قلبه عليھا ـ العلوم والمكاشفات ـ وتلقى المعارف في قلبه، ويصبح من ذوي مقام القلب. ويدعى ھذا الفتح
«بالفتح القريب»، لأنه أول الفتوحات وأقربھا. ويقال بأن الآية المباركة (نَصْرٌ مِنَ االله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) تشير إلى ھذا
الفتح. ومن الواضح أن ھذا الفتح وكافّة الفتوحات تتم بعون االله وامداده ونور الھداية وجاذيبة الذات المقدس
سبحانه عزّ وجلّ.
وما دام السالك يكون في عالم القلب، وتكون النقوش والتعيّنات مستحوذة عليه، كانت أبواب الأسماء والصفات
مغلقة ومسدودة عليه فإذا تلاشت تلك الرسوم من عالم القلب، بواسطة تجلّيات الأسماء والصفات، وأفنت تلك
التجليات، صفات القلب وتعيّناته وكمالاته، تحقق «الفتح المبين» وانفتحت عليه باب الأسماء والصفات، وارتفعت
النقوش المتقدمة النفسية، والمتأخرة القلبية، وغُفرت ذنوبه في ظلّ غفارية الأسماء وستّاريتھا. ويقال بإن قوله
تعالى (إنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ االله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) تلويح إلى ھذا الفتح ومعناه إنا فتحنا
عليك عالم الأسماء والصفات فتحاً مبيناً، حتى نغفر لك في ظل غفارية الأسماء الإلھية، الذنوب المتقدمة
النفسية، والقلبية المتأخرة. ويكون ھذا فتحاً لباب الولاية.
وما دام السالك في حجاب كثرات الأسماء، وتعيّنات الصفات، تكون أبواب التجليات الذاتية مغلقة في وجھه.
وحينما تتم التجليات الذاتية الأحدية عليه، وتُباد النقوش الخلقية والأمرية بأسرھا من قلبه، ويغرق العبد في عين
الجمع يكون «الفتح المطلق» وغُفران الذنب المطلق واستتر بواسطة التجلي الأحدي على الذنب الذاتي الذي
يكون مصدراً لكل الذنوب «وُجُودِكَ ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ» ويقال بأن قوله تعالى (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ). إشارة
إلى ھذا الفتح.
371 س
ورة ص، آيات: 5 ـ 7.
372
عيون أخبار الرضا.
147
فمع الفتح القريب تنفتح أبواب المعارف القلبية، وتغفر الذنوب النفسية. ومع «الفتح المبين» تنفتح أبواب
الولاية، والتجليات الإلھية. وتغفر البقايا من الذنوب المتقدمة النفسية، والذنوب المتأخرة القلبية. ومع «الفتح
المطلق» تتكشف التجليات الذاتية الأحدية، ويغفر الذنب الذاتي المطلق.
ولا بد من معرفة أن «الفتح القريب» و«الفتح المبين» يتيسران للأنبياء والأولياء والعرفاء. وأما «الفتح المطلق»
فھو من المقامات الخاصة بالمرتبة الختمية ـ خاتم النبيين ـ وإذا حصل ذلك لشخص، فإنما ھو بالتبع وبسبب
شفاعة النبي الأكرم صلى االله عليه وآله وسلم.
وعُلم من البيان السابق أن للذنب مراتب يعدّ بعضھا من حسنات الأبرار وبعضھا من سيئات المخلصين. كان
رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم يقول: (لَيُرَانُ ـ أو لَيُغَانُ ـ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ االله فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ
وھذا الرَّين ـ الغبرة ـ ھو الالتفاف إلى عالم الكثرة ولكنه سرعان ما يزول. وفي الحديث (أن رسول االله 373 مَرَّةً)
374 صلّى االله عليه وآله وسلم لا يقوم من مجلس وإن خفّ حتى يستغفر االله خمساوعشرين مرة)
.
فيظھر من ھذه الأحاديث بأن الاستغفار لا يختص فقط بالذنوب التي تتنافى مع العصمة، وأن المغفرة والذنب
في الآية لا تكونا من المغفرة والذنب المصطلح عليھما عرفاً لدى عامة من الناس. ولا تتنافى ھذه الآية الشريفة
مع المقامات المعنوية من العصمة بل تؤكدھا. لأن من لوازم السلوك الروحاني واجتياز المدارج والوصول إلى أوج
الكمال الإنساني، ھو غفران الذنوب. لأن كل موجود في ھذا العالم نتاج ھذه النشأة المُلكية والمادة الجسمية،
وله كافة الشؤونات المُلكية الحيوانية والبشرية والإنسانية المتوفرة بعضھا بالفعل وبعضھا بالقوة.
فإذا أراد السفر من ھذا العالم إلى عالم آخر، ومنه إلى مقام القرب المطلق، لا بد من اجتياز ھذه المدارج،
والعبور من المنازل الواقعة في الطريق، وعندما يصل إلى مرتبة، تغفر له ذنوب المرتبة السابقة وھكذا حتى تغفر
له جميع الذنوب في ظل التجليات الذاتية الأحدية، ويستتر الذنب الوجودي الذي ھو منشأ كافة الذنوب في ظل
الكبرياء الأحدي. وھذه ھي غاية عروج كمال الموجود. ويحدث في ھذا المقام الموت والفناء التام. ولھذا عندما
نزلت الآية الشريفة (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) على رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم قال: إن ھذه السورة تنبأ
375 بموتي
. واالله العالم.
فصل: في حقيقة الشكر
اعلم أن الشكر عبارة عن تقدير نعمة المنعم. وتظھر آثار ھذا التقدير في القلب في صورة، وعلى اللسان في
صورة أخرى، وفي الأفعال والأعمال بصورة ثالثة.
أما آثاره القلبية فھي من قبيل الخضوع والخشوع والمحبة والخشية وأمثالھا. وأمّا آثاره على اللسان، فالثناء
والمدح والحمد، وأمّا آثاره في الأعضاء فالطاعة واستعمال الجوارح في رضا المنعم وأمثاله.
عن الراغب (الشكر تصور النعمة وإظھارھا. قيل وھو مقلوب عن الشكر أي الكشف ويضاده الكفر وھو 376 ونقل
نسيان النعمة وسترھا، ودابّة شكور مُظھر بسمنه إسداد صاحبه إليه. وقيل أصله من عَيْنٌ شَكْري: أي ممتلئة،
فالشكر على ھذا ھو الامتلاء من ذكر المنعم عليه. والشكر ثلاث أضرب: شكر بالقلب وھو تصور النعمة. وشكر
باللسان وھو اللسان وھو الثناء على المنعم. وشكر بسائر الجوارح وھو مكافأة النعمة بقدر استحقاقھا) انتھى.
وقال العارف المحقق الخواجة الأنصاري (الشكر اسم المعرفة والنعمة، لأنھا طريق لمعرفة المنعم).
وقال الشارح المحقق (إن تصور النعمة من المنعم، ومعرفة أن ھذه النعمة منه، ھو الشكر بعينه كما روي عن
النبي داوود عليه السّلام أنه قال: يا رب كيف أشكرك مع أن لاشكر نعمة أخرى، وتستدعي شكراً آخر؟ فأوحى
االله تعالى عليه: يا داوود عندما عرفت بأن كل نعمة نازلة عليك تكون مني، فقد شكرتني).
41 .وفي الحديث 22 من كتاب أربعين الشيخ البھائي " مَاءة مرة ". 373 صحيح مسلم، كتاب الذكر، ص
374
سفينة البحار، المجلد الثاني، ص 322.
375 تفسير نور الثقلين ـ المجلد الخامس ص
.689
376
بحار الأنوار، المجلد 71 ،ص22.
148
يقول الكاتب: إن ما ذكره المحققون في الشكر مبني على المجاز والمسامحة، لأن الشكر لا يكون نفس
المعرفة بالقلب، والاظھار باللسان، والعمل بالأعضاء والجوارح، بل ھو حالة نفسية ناجمة عن معرفة المنعم
والنعمة وأن ھذه النعمة من المنعم، وتُنتج من ھذه الحال الأعمال القلبية القالبية ـ العمل بالجوارح ـ. كما ذكر
للشكر بعض المحققين معنىً يقترب من ھذا المعنى، رغم أن كلامھم أيضاً لا يخلو من المسامحة.
الطوسيُّ قدِّس سرُّه الشكر أشرف الأعمال وأفضلھا واعلم أنَّ الشكر مقابلة النعمة بالقول 377 وقال المحقّق
والفعل والنيّة وله أركان ثلاثة:
الأوَّل معرفة المنعم وصفاته اللائقة به، ومعرفة النعمة من حيث إنّھا نعمة لا تتمُّ تلك المعرفة إلاّ بأن يعرف أنَّ
النعم كلّھا جليّھا وخفيّھا من االله سبحانه وتعالى وأنّه المنعم الحقيقيُّ وأنَّ الخلق كلّھم منقادون لحكمه
مسخّرون لأمره.
الثاني الحال التي ھي ثمرة تلك المعرفة، وھي الخضوع والتواضع والسرور بالنعم، من حيث إنّھا ھدية دالّة
على عناية المنعم بك، وعلامة ذلك أن لا تفرح من الدُّنيا إلاّ بما يوجب القرب منه.
الثالث العمل الّذي ھو ثمرة تلك الحال فإنَّ تلك الحال إذا حصلت في القلب حصل فيه نشاط للعمل الموجب
للقرب منه، وھذا العمل يتعلّق بالقلب واللسان والجوارح.
أمّا عمل القلب فالقصد إلى تعظيمه وتحميده وتمجيده، والتفكّر في صنائعه وأفعاله وآثار لطفه، والعزم على
إيصال الخير والإحسان إلى كافّة خلقه، وأمّا عمل اللّسان فإظھار ذلك المقصود بالتحميد والتمجيد والتسبيح
والتھليل، والأمر بالمعروف والنھي عن المنكر إلى غير ذلك. وأمّا عمل الجوارح فاستعمال نعمة الظاھرة والباطنة
في طاعته وعبادته، والتوقّي من الاستعانة بھا في معصيته ومخالفته كاستعمال العين في قراءة مصنوعاته،
وتلاوة كتابه، وتذكّر العلوم المأثورة عن الأنبياء والأوصياء عليھم السّلام وكذا سائر الجوارح. انتھى كلامه.
فصل: في كيفية الشكر
اعلم أن الشكر نعم الحق المتعالي سبحانه الظاھرية والباطنية، من المسئوليات اللازمة للعبودية، حيث يجب
على كل شخص حسب قدرته المتيسرة أن يشكر ربه، رغم أن أحداً من المخلوقين لا يستطيع أن يؤدي حق
شكره تعالى. ويكون منتھى الشكر في معرفة الإنسان عجزه عن النھوض بحق شكره سبحانه. كما أن غاية
العبودية تكون في معرفة الإنسان عجزه عن القيام بحق العبودية له تعالى. ومن ھذا المنطلق اعترف الرسول
الأكرم صلّى االله عليه وآله وسلم بالعجز، مع أن شخصاً لم يشكر ربه ولم يعبده، بمثل شكر ذلك الوجود المقدس
وعبوديته، لأن كمال الشكر ونقصه يتبعان التعرف الكامل على المنعم وإحسانه، والتعرف الناقص على المنعم
وجميلة. ولھذا لم يستطع أحد من النھوض بحق شكره. لأنّ أحداً لم يعرفه حق معرفته.
إنما العبد يكون شكوراً، إذا علم ارتباط الخلق بالحق، وعلم انبساط رحمة الحق من أول ظھوره إلى ختامه،
وعلم ارتباط النعم بعضھا مع بعض وعلم بداية الوجود ونھايته على ما ھو عليه. ومثل ھذه المعرفة لا تحصل إلاّ
للخُلّص من أولياء االله الذين كان أشرفھم وأفضلھم، الذات المقدس خاتم الأنبياء صلّى االله عليه آله
وسلم، وأنّ كافة الناس محجوبون عن بعض مراتب ھذه المعرفة بل عن أكثر مراتبھا وأعظمھا. بل ما دامت
حقيقة سريان ألوھية الحق لم تنتقش في قلب العبد بعد ولم يؤمن بأنه (لاَ مُؤَثِّرَ فِي الوُجُودِ إلاَّ االله) ولا تزال غبرة
الشرك والشك عالقة في قلبه، لا يستطيع أن يؤدي شكر الحق المتعالي كما يجب أن يكون. إن الذي يلتفت إلى
الأسباب، ويرى تأثير الموجودات بصورة مستقلة، ولا يُرجع النعَمُ إلى ولي النعم ومصدرھا، يكون كافراً بنعم الحق
المتعالي. إنه قد نحت أصناماً وجعل لكل واحد منھا دوراً مؤثراً. إنه قد ينسب الأعمال إلى نفسه، بل يجعل
شخصه متصرفاً في الأمور. وقد يتحدث عن فعّالية طبائع عالم الكون. وقد يرى الناس بأن النعم من الأرباب
378 الظاھريين الصوريين، ويجرّدون الحق من التصرف، ويقولون بأن يد االله مغلولة (غُلَّتْ أَيْدِيھِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا)
.
في حين أن يد الحق مبسوطة وأن كل دائرة الوجود منه في الواقع والحقيقة، ولا مجال للآخرين فيھا. بل إن العالم
377
بحار الأنوار، المجلد 71 ،ص 22.
378
سورة المائدة، آية: 64.
149
بأسره مظھر قدرته ونعمته، وأن رحمته وسعت كل شيء وأن جميع النعم منه، وليست لأحد نعمة حتى يُعدَّ
منعماً. بل إن وجود العالم منه، وغيره لا وجود له حتى يصدر عنه شيء، ولكن العيون عمياء، والآذان صمّاء والقلوب
محجوبة. نصف بيت شعر:
«أبحث عن عينٍ تثقب الأسباب الظاھرية كي ترى السبب الحقيقي».
إلى متى وإلى أي مستوى تكفر قلوبنا الميتة بنعم الحق سبحانه، وتتعلق بھذا العالم وظروفه وأشخاصه؟ إن
ھذه التعلقات والتوجھات، كفران لنعم ذاته المقدس وإسدال ستار على رحمته.
ومن ھنا يعلم أن النھوض بحق شكره لا يكون في مستطاع أي شخص، كما يقول الحق المتعالي جل جلاله
(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)
. فإن القليل من العباد يعرفون كما ينبغي نعم الحق. ولھذا فإنّ القليل من العباد 379
يؤدون الشكر للحق جل جلاله كما يستحق.
ولا بد من معرفة أنه كما تختلف مستويات معرفة العباد، كذلك تختلف مراتب شكرھم. وأيضاً أن مراتب الشكر
مختلفة، لأن الشكر ھو الثناء على النعم التي وھبھا المنعم. فإذا كانت النعم من قبيل النعم الظاھرية كانت له
مرتبة من الشكر، وإذا كانت من نوع العلوم والمعارف كان شكرھا من نوع آخر، وإن كانت من تجلّيات الأسماء، كان
لھا شكر وإن كانت من قبيل التجليات الذاتية الأحدية كان ھناك شكر آخر. وحيث أن جميع مراتب النعم متوفرة
لقليل من العباد، كان النھوض بأداء الشكر على جميع المستويات لقليل من العباد، وھم الخُلّص من الأولياء
الجامعين لجميع الحضرات، والذين ھم برزخ البرازخ، والحافظين لكل المراتب الظاھرة والباطنة، ولھذا يكون
شكرھم مع جميع الألسنة الظاھرة والباطنة والسّرّية.
والشكر وإن قالوا إنه من المقامات العامّة ـ لأنه مقرون بدعوى مكافأة المنعم على أنعامه. فيعدّ ھذا من إساءة
الأدب للمنعم ـ ولكنّ ھذه المقارنة تكون لغير الأولياء خصوصاً الكامل منھم، الجامع للحضرات، والحافظ لمقامي
الكثرة والوحدة. ولھذا قال الشيخ العارف الخواجة الأنصاري، رغم قوله بأن الشكر من المقامات العامة: «وَالدَّرَجَةُ
الثَالِثَةُ أَنْ لا يَشْھَدَ الْعَبْدُ إِلاَّ الْمُنْعِمَ فَإِذَا شَھِدَ الْمُنْعِمَ عُبوديةً اسْتَعْظَمَ مِنْهُ النِّعْمَةَ، وَإِذَا شَھِدَهُ حُب?ا اسْتَحْلَى مِنْهُ
الشِّدَّة، وَإِذَا شَھِدَهُ تَفْريداً لَمْ يَشْھَدْ مِنْهُ نعمة وَلاَ شِدَّةً».
توضيحه: إن الدرجة الثالثة من الشكر ھو مشاھدة العبد لجمال المنعم والتأمل فيه وله مقامات ثلاثة:
الأول: ن يشاھد جمال المنعم مشاھدة العبد الذليل لمولاه، ويغفل عن نفسه ويستغرق في آداب الحضور، ولا
يرى لنفسه اعتبارا. فإذا أنعم عليه في اللحظات التي فيھا يحتقر نفسه، بنعمة استعظمھا، ويجد نفسه غير
مؤھل لتلك النعمة.
الثاني: أن يشاھده مشاھدة الصديق لصديقه، وفي ھذه الحال يستغرق في جمال محبوبه، وكل ما يرى منه
يكون محبوباً لديه ومستمتعاً منه، حتى إذا كان شاقاً ومجھداً.
الثالث: يشاھده مشاھدة التفريد ومن دون تعيّنات الأسماء، بل يشاھد نفس الذات، فيغفل عن نفسه وعن
غيره، ولا يكون مشھوداً له إلا ذات الحق من دون أن يرى نعمةً أو يشاھد شدّة.
فعلم أن أوائل المقامات في كل من مقامات الساكين ھي من السبل العامة، وفي نھاية المقامات يتخصّص
الأمر للخُلّص بل للكملين.
تكملة: في فضيلة الشكر على ضوء الأخبار المأثورة
ونختم ھذا المقام بذكر بعض أحاديث الشكر.
في الكافي: بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِاالله عليه السّلام قالَ: قال رَسولُ االله صلّى االله عليه وآله وسلم: الطَّاعِمُ
الشّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ الصّائِمِ الْمُحْتَسِبِ. وَالْمُعافَى الشّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ المُبْتَلي الصَّابِرِ. وَالْمُعْطى
380 الشّاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ كَأَجْرِ الْمَحْرُومِ الْقَانِعِ
.
379
سورة سبأ، آية: 13.
380
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح 1.
150
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ عُبَيداالله بن الْوَلِيدِ قالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاالله عليه السّلام يَقولُ: «ثَلاثٌ لاَ يَضُرُّ مَعَھُنَّ شَيْءٌ: الدُّعَاءُ
381 عِنْدَ الكَرْبِ، وَالاسْتِغْفَارُ عَلَى الذُّنُوبِ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ النِّعْمَةِ»
.
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي بَصيرٍ قَالَ: قال أبو عَبْدِاالله عليه السّلام: «إنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ مِنَ المَاءِ فَيوجِبُ
االله لَهُ بِھَا الجَنَّةَ. ثم قالَ: إنَّهُ لَيَأْخُذُ الإنَاءَ فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ فَيُسَمِّى ثُمَّ يَشْرَبُ فَيُنَحِّيهِ وَھُوَ يَشْتَھِيهِ فَيَحْمَدُ االله ثُمَّ
382 يَعودُ فَيَشْرَبُ ثُمَّ يُنَحِّيهِ فَيَحْمَدُ االله ثُمَّ يَعودُ فَيَشْرَبُ ثُمَّ يُنَحِّيهِ فَيَحْمَدُ االله فَيوجِبُ االله عَزََّ وجَلَّ بِھَا لَهُ الجَنَّةَ»
.
وحمد االله يساوي الشكر. كما ورد في الروايات الكثيرة أن من قال (الحمد الله) فقد شكر االله. كما في كتاب
الكافي الشريف بسنده إلى عمر بن يزيد:
383 قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاالله عليه السّلام يَقولُ: شُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ وَإِنْ عَظُمَتْ أَنْ تَحْمَدَ االله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْھا»
.
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِاالله عليه السّلام قالَ: «شُكْرُ النِّعْمَةِ اجْتِنَابُ المَحَارِمِ، وَتَمَامُ الشُّكْرِ قَوْلُ الرَّجُلِ: الحَمْدُ
.
اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ» 384
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ حَمَادِ ْبِن عُثْمَانَ قَالَ: «خَرَجَ أبُو عَبْدِاالله عليه السّلام مِنَ الْمَسْجِدِ وَقَدْ ضاعَتْ دَابَّتُهُ فَقَالَ: لَئِنْ
رَدَّھَا االله عَلَىَّ لأَشْكُرَنَّ االله حَقَّ شُكْرِهِ. قالَ: فَمَا لَبِثَ أَنْ أُتِيَ بِھَا، فَقَالَ: الحَمْدُ اللهِ. فَقالَ لَهُ قَائِلٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ
385 أَلَيْسَ قُلْتُ: لأَشْكُرَنَّ االله حَقَّ شُكْرِهِ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِاالله عليه السّلام: أَلَمْ تَسْمَعْنِي قُلْتُ: الحَمْدُ اللهِ»
.
ويفھم من ھذا الحديث، أن حمد االله سبحانه وتعالى من أفضل مصاديق الشكر باللسان.
إن من آثار الشكر، زيادة النعمة ووفورھا، كما صرّح بذلك الكتاب الكريم (لَئِنْ شَكَرتُمْ لأَزِيدّنكُمْ). وفي كتاب
الكافي الشريف عن الإمام الصادق عليه السّلام:
386 قال: «مَنْ أُعْطِيَ الشُّكْرَ أُعْطِيَ الزِّيَادَةَ، يَقُولُ االله عَزَّ وجلَّ: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدّنكُمْ)»
.
تتميم:
إعلم أن عائشة قد حَسِبت بأن سرّ العبادات، ينحصر في الخوف من العذاب أو في محو السيئات، وتصورت بأن
عبادة النبي الأكرم صلّى االله عليه وآله وسلم، مثل عبادة كافة الناس، ولھذا بادرت إلى الاعتراض عليه قائلة:
لماذا تجھد نفسك؟ وقد نشأ ھذا الظن من جراء جھلھا لمقام العبادة والعبودية ولمقام النبوة والرسالة، حيث لم
تعرف بأن عبادة العبيد والأُجراء بعيدة عن ساحة قدسه، وان عظمة الرب، وشكر نعمه اللامتناھية قد سلبت
الراحة والقرار من حضرته ـ صلوات االله عليه ـ، بل إن عبادة الأولياء الخُلَّص، انتقاش للتجليات اللامتناھية للمحبوب،
كما أشير إليه في الصلاة المعراجية.
إن الأولياء عليھم السلام رغم أنھم ينصھرون في الجمال والجلال، ويفنون في الصفات والذات، لا يغفلون عن
كل مرحلة من مراحل العبودية. وإن حركات أبدانھم تتبع حركاتھم العشقية الروحانية، وھي تتبع كيفية عليه ظھور
جمال المحبوب، ولكن لا يمكن التحدث مع عائشة بجواب مفحم، بل عليه الصلاة والسلام على جواب مقنع، حيث
بيّن مرتبة من المراتب النازلة للعبادة حتى تعرف ھذا المقدار بأن عبادات حضرته ليست لھذه الأمور الدنية
الحقيرة. والحمد الله.
فصل: في تفسير كلمة «طه» وبيان كيفية دعوة رسول االله الناس ألى االله
رَوى عَلِيُّ بنُ إبراھيمَ فِي تَفْسِيرِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السّلام وَأَبِي عَبْدِاالله عليه السّلام قالا: «كانَ
: «طه» ـ بِلُغَةِ طَيٍّ: يَا مُحَمَّدُ ـ 387 ،فَأَنْزَلَ االله تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَسُولُ االله إذا صَلّى قامَ عَلَى أصابعِ رِجْلَيْهِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ»
388 ـ مَا أَنْزَلْنَا ـ الآية
.
381
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح 7.
382
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح 16.
383
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح 11.
384
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح 10.
385
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح 18.
386 أصول الكافي، المجلد الثاني
، كتاب الإيمان والكفر، باب الشكر، ح 8.
إن قيامه صلى االله عليه وآله وسلم على أصابع رجليه كما في الأحاديث. وقيامه على رجل واحدة كما في بعض روايات أخرى لعله من 387
الأحكام الخاصة به صلّى االله عليه وآله وسلم أو كان مشتركاً بينه وبين غيره ولكنه نسخ. واالله العالم (منه عفى عنه).
151
وَعَنِ الصَّدوقِ فِي مَعَانِي الأخْبَارِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوريِّ عَنِ الصَّادِقِ عليه السّلام في حَديثٍ طوَيلٍ قالَ
فيه: «وَأَمّا «طه» فَاسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلّى االله عليه وآله وسلم وَمَعْنَاهُ: يَا طَالِبَ الحَقِّ الھادي إلَيْهِ».
روي عن ابن عباس وآخرين أن (طه) بمعنى أيھا الرجل. ونقل عن بعض العامة أن (ط) إشارة إلى طھارة قلب
الرسول الأكرم من غير االله و(الھاء) تلويح إلى أن قلبه اھتدى إلى االله. وقيل إن (ط) طرب أھل الجنة و(الھاء) ھوان
أھل جھنم. وقال الطبرسي رحمة االله (رُوي عن الحسن أنه قرأ طه بفتح الطاء وسكون الھاء.
فإن صح ذلك فأصله طَأ، فأبدل من الھمزة ھاء ومعناه طَإِ الأرض بقدميك جميعاً. انتھى).
ومجمل الكلام أنه يوجد اختلاف شديد في الحروف المقطعة الواقعة في أوائل بعض السور. وما يوافق الاعتبار
أكثر من غيره ھو أنھا إشارات ورموز تستعمل بين المحب والحبيب ولا يستطيع أحد أن يعرف شيئاً عنھا. وما ذكره
بعض المفسرين حول تلك الحروف حسب تخريصھم وحدسھم فھو حدس موھون لا مستند له غالباً. وفي حديث
أبي سفيان الثوري أيضاً إشارة إلى أنھا رموز. ولا يستبعد أن تكون أموراً فوق القدرة الاستيعابية للإنسان، وقد
خص االله سبحانه فھمھا بالمخاطبين المخصوصين من أوليائه.
والشقاء والشقاوة ضد السعادة، ومعناھا النصب والتعاسة. قال الجوھري (الشقاء والشقاوة ـ بالفتح ـ نقيض
السعادة).
رَوَى الطَّبرسِيُّ فِي الاحْتِجَاجِ عَنْ مُوسى بْنِ جَعْفَرٍ عليه السّلام عَنْ آبائِهِ عليھم السّلام قالَ: قالَ أميرُ
المُؤمِنينَ عليه السّلام: «وَلَقَدْ قَامَ رَسولُ االله صلّى االله عليه وآله وسلم عَشْرَ سِنِينَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ حَتّى
تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ وَاصْفَرَّ وَجْھُهُ، يَقُومُ اللَّيْل أَجْمَعَ حَتّى عُوتِبَ فِي ذلِكَ، فَقَالَ االله عَزَّ وَجَلَّ: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ
389 لِتَشْقَى) بَلْ لِتَسْعَدَ بِهِ»
.
وروى عن الإمام الصادق عليه السّلام (أن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم كان يرفع إحدى رجليه في
العبادة، كي يزيد تعبه وجھده، فأنزل االله عليه ھذه الآية المباركة). وقال بعض المفسرين ھو جواب للمشركين
حين قالوا إنه شقي فقال سبحانه يا رجل (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى).
وقال شيخنا العارف الكامل الشاه آبادي: إن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم عندما دعا الناس إلى
رسالته ولم يجد الإصغاء المطلوب والدخول في دين االله حسب المستوى المرغوب فيه، أبدى احتمالاً في نفسه
وھو النقص في دعوته ـ الداعي ـ فانصرف إلى ترويض نفسه طيلة عشرة أعوام حتى ورمت قدماه، فنزلت ھذه
الآية المباركة مخاطبة إياه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إنك طاھر وھادٍ، ولا يوجد عيب ونقص فيك، بل النقيصة
390 في الناس (إِنَّكَ لاَ تَھْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)
.
وعلى أي حال يستفاد من ھذه الآية المباركة، أن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم كان في ترويض وتعب
وجھد. ويستفاد من مجموع أحاديث المفسرين ھذا المعنى أيضاً، رغم اختلافھم في كيفية الترويض والتعب.
ويجب أن تكون ھذه الآية المباركة، قدوة للناس جميعا وخاصة للعلماء الذين يريدون القيام بالدعوة إلى االله
تعالى، حيث أن رسول االله مع طھارة قلبه وكماله التجأ إلى الترويض وأتعب نفسه حتى نزلت الآية الشريفة من
الحق المتعالي ونحن رغم ثقل الخطايا والذنوب، لم نفكر البتة في مَعادنا ومآلنا وكأننا نحمل صك الخلاص والبراءة
من جھنم والأمان من العذاب. وھذا لا يكون إلا نتيجة أن حب الدنيا قد أصمَّ آذاننا فلا نسمع كلمات الأولياء
والأنبياء.
الحَديث الثَاني وَالعشرون: الإنسان وكراھته للموت
بِالسّند المتّصلِ إلى ركنِ الإِسلامِ وَثِقَتِهِ محمَّد بنِ يَعْقوبَ الكُلَيْنيِّ، عن محمَّدِ بنِ يحيى، عن أحمَد بن محمَّدٍ،
عن بعضِ أصحابِهِ، عنِ الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي عثمانَ، عن واصلٍ، عَن عبدِاالله بن سنان، عن أبي عبدِاالله عليه
السّلام قال: «جاء رَجُلٌ إلى أبي ذَرٍّ فَقالَ: يا أبا ذَرٍّ ما لَنا نَكرَهُ المَوْتَ؟ فَقالَ: لأَنَّكُمْ عَمَّرْتُمُ الدُّنْيا وأَخْرَبْتُم الآخِرَةَ،
388
تفسير علي بن إبراھيم، المجلد الثاني، ص 58.
389
احتجاج الطبرسي، المجلد الأول، ص 326.
390
سورة القصص، آية: 56.
152
فَتَكْرِھُونَ أَنْ تُنْقَلُوا مِن عِمْرانٍ إلى خَرابٍ، فَقَالَ لَهُ: فَكَيْفَ تَرى قُدُومَنا عَلَى االله؟ فَقالَ: أمَّا المُحْسِنُ مِنْكُمْ
فَكَالغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أھْلِهِ، وَأَمَّا المُسِيءُ مِنْكُمْ فَكَالآبِقِ يُرَدُّ عَلَى مَوْلاَهُ. قالَ: فَكَيْفَ تَرى حالَنا عِنْدَ االله؟ قالَ:
إِعْرَضوا أَعْمَالَكُمْ عَلَى الكِتَاب، إنَّ االله يَقولُ: (إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعيم. وإنَّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ). قال: فَقالَ الرَّجُلُ: فَأَيْنَ
رَحْمَةُ االله؟ قالَ: رَحْمَة االله قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنينَ». قَالَ أبو عَبْداالله عليه السّلام: «وَكَتَبَ رَجُلٌ إلى أبي ذَرٍّ ـ رَضِيَ
االله عَنْهُ ـ : يَا أَبَا ذَرٍّ: أطْرِفْنِي بِشَيْءٍ مِنَ العِلْمِ. فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنَّ العِلْمَ كَثِيرٌ وَلكِنْ إنْ قَدَرْتَ أنْ لاَ تُسيء إلى مَنْ
تُحِبُّهُ فَافْعَلْ. فَقالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَھَلْ رَأَيْتَ أَحَداً يُسيءُ إلى مَنْ يُحِبُّهُ؟ فَقالَ لَهُ: نَعَمْ، نَفْسُكَ أَحَبُّ الأنْفُسِ إلَيْكَ فَإِذَا
391 أَنْتَ عَصَيْتَ االله فقد أَسَأَت إلَيْھَا»
.