وَنُقِلَ عَنِ الإِمَامِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلام بأَنَّ أَمِيرَ المُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْونَ يَومَ القِيَامَةِ كَيْلَهُ
296 تَامّاً مِنَ الثَّوَابِ فَلْيَتْلُوا ھذِهِ الآيَاتِ المُبَارَكةِ ـ سبحان ربك إلى آخره ـ فِي دَبْرِ كُلِّ صَلاةٍ
.
وَعَنِ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلام مُرْسَلاً، كَفَّارَاتُ المَجَالِسِ أَنْ تَقُولَ عِنْدَ قيَامِكَ مِنْھَا سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا
297 يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ
.
الكافي بِإِسْنادِهِ عَنْ ابْنِ فَضّالٍ رَفَعَهُ قَالَ: «قَالَ االلهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِيسى عَلَيْهِ السَّلام: يَا عِيسى اذْكُرْنِي فِي
نَفْسِكْ أذْكُرْكَ في نَفْسِي وَاذْكُرْنِي فِي مَلإك أذْكُرْكَ فِي ملأ خَيْرٍ مِنْ مَلأ الآدَميّينَ. يا عيسى ألِنْ لي قَلْبَكَ وَأكْثِرْ
298 ذِكْري فِي الخَلَواتِ وَاعْلَمْ أنَّ سُرُوري أنْ تُبَصْبِصَ إِلَيَّ وَكُنْ فِي ذلِكَ حَيّاً وَلا تَكُنْ مَيِّتاً»
.
«التبصبص» ھو حركة ذنب الكلب نتيجة الخوف أو الطمع. وھذا كناية عن شدّة الالتماس والمسكنة. و(كُنْ فِي
ذلِكَ حَي?ا وَلا تَكُنْ مَيِّتاً) بمعنى انتباه القلب وحضوره. الكافي بِإِسْنَادِهِ عَنْ أبِي عَبْدِ االلهِ عَلَيْهِ السَّلام: قالَ «إنَّ االلهَ
299 عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: مَنْ شُغِلَ بِذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي مَنْ سَأَلَنِي»
.
عَنْ أحْمَد بْنِ فَھْدٍ في عُدَّة الدّاعي عَنْ رَسُولِ االلهِ صَلّى االله عليه وأله وسلم قالَ: «... وَاعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ
أعْمالكُمْ [ عِنْدَ مَليكِكُمْ ] وَأزْكاھا وَأرْفَعَھا في دَرَجاتِكُم وَخَيْرَ ما طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ذِكْرُ االلهِ سبحانه وتعالى فَإِنَّه
300 أخْبَر عَنْ نَفْسِه فَقالَ: أَنَا جَليسُ مَنْ ذَكَرَنِي»
.
إن الأحاديث المأثورة في فضل ذكر االله وكيفيته وآدابه وشرائطه تفوق استيعاب ھذه الصفحات. والحمد الله أوّلاً
وآخراً وظاھراً وباطناً.
294
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب ما يجب ذكر االله في كل مجلس، ح 1.
295
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب ما يجب ذكر االله في كل مجلس، ح 3.
296
جامع الأحاديث، كتاب الصلاة، ح 3487.
297
وسائل الشيعة، المجلد 15 ،ح 28901.
298
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب ذكر اللّه في السر، ح 3.
299
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الدعاء، باب الاشتغال بذكر اللّه، ح 1.
300 عدة الداعي، ص
.238
128
الحديث التاسع عشرَ: الغيبة
بِسَنَدِيَ المُتَّصِلِ إِلى ثِقَةِ الإسْلامِ وَالمُسْلِمينَ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الكُلَيْني ـ رضوان االله تعالى عليه ـ عَنْ عَلِيّ
بْنِ إبْراھِيمَ، عَنْ أبيه عَنِ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبي عَبْدِ االلهِ عليه السَّلام قال: قال رَسُولُ االلهِ صلّى االله
عليه وآله وسلم: «الغِيبَةُ أَسْرَعُ في دينِ الرَّجُلِ المُسْلِمِ مِنَ الأَكْلَةِ فِي جَوْفه».
قالَ: وَقالَ رَسُولُ االلهِ صلّى االله عليه وآله وسلم: «الجُلُوسُ فِي المَسْجِد إِنْتِظارَ الصَّلاةِ عِبادَةٌ ما لَمْ يُحْدِثْ. قيلَ
301 يا رَسُولَ االلهِ وَما يُحْدثُ قالَ: الاغتيابِ»
.
الشرح:
الغيبة كما في اللغة مصدر «غاب»، واسم مصدر لـ «اغْتِيَاب». قال الجوھري: «اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه،
والاسم الغيبة وھو أن يتكلم خلف إنسان مستور بما يغمه لو سمعه، فإن كان صدقاً سمّي غيبة، وإِنْ كانَ كذباً
.
سمّي بھتاناً. انتھى» 302
. انتھى. ولكن يبدو بأن صاحب الصحاح ـ 303 قال المحقق المحدث المجلسي عليه الرحمة: ھذا بحسب اللغة
الجوھري ـ ذكر المعنى الاصطلاحي لا اللغوي. لأن المعنى اللغوي لِـ غاب واغتاب وجميع مشتقاته ليس بذلك.
وإنما ھو معنى أعم من ذلك، وقد يكتب اللغويون المعنى الاصطلاحي أو الشرعي للكلمة في كتبھم. وينقل عن
صاحب القاموس إنّ غاب بمعنى عاب. وعن المصباح المنير: «اغتابه إذا ذكره بما يكرھه من العيوب وھو حقّ».
وحسب اعتقاد الكاتب أن ھذه المعاني المذكورة لا تمتّ إلى المعنى اللغوي بشيء، بل في كل منھا قيود
تداخلت مع المعنى المصطلح. وعلى أيّ حال لا جدوى في البحث عن المعنى اللغوي، فإن المھم ھو الوصول
إلى الموضوع الشرعي الذي أصبح متعلقاً للتكليف الشرعي ـ الحرمة ـ. وحسب الظاھر يكون لھذا الموضوع ـ
الغيبة ـ قيود شرعية لا يرقى إليھا الفھم العرفي والمعنى اللغوي. ونتطرق للبحث في ذلك بعد قليل.
والأكَلَةُ كفرحة، داءٌ في العضو يأتَكِلُ منه كما في القاموس وغيره وقد يقرأ بمدّ الھمزة على وزن فاعلة أي
304 العلّة الّتي تأكل اللحم والأوّل أوفق باللغة كذا قال المجلسي
.
وعلى أي حال فالمقصود ھو أن مرض الأكلة عندما يحلّ في العضو وخاصّة الأعضاء اللطيفة من الجسم مثل
الباطن منه يأكله بسرعة ويقضي عليه، كذلك الغيبة تأكل دين الإنسان أسرع من ذلك وتفسده وتقضي عليه.
«مَا لَمْ يُحْدِث» من باب الأفعال، والضمير المستتر فيه يعود إلى «الجالس» المستفاد من «الجلوس» المذكور
في الرواية.
«والاغْتِيَابَ» منصوب ومفعول لفعل مقدر ـ يحدث ـ مفھوم من كلام السائل. وفي بعض النسخ ـ «ما الحدث»
في مكان «ما يحدث» وعليه يكون «الاغتياب» مرفوع على الخبرية.
فصل: في تعريف الغيبة
اعلم أن الفقھاء ـ رضوان االله عليھم أجمعين ـ ذكروا تعاريف كثيرة للغيبة، لا يتناسب عرضھا ومناقشة كل واحد
منھا من ناحية الجامعيّة ـ الشمول لكل أفراد الغيبة ـ والمانعية ـ عدم الاستيعاب لما ليس من الغيبة ـ مع حجم
ھذا الكتاب، إلاّ إذا اقتصرنا على ذكر التعاريف إجمالا.
يقول الشيخ المحقق السعيد الشھيد في (كشف الريبة) وأما في الاصطلاح فلھا تعريفان : أحدھما مشھور:
«ھُوَ ذِكْرُ الإنْسانِ حالَ غَيْبَتِه بِما يَكْرَهُ نِسْبَتَهُ إلَيْهِ مِمّا يُعَدُّ نُقْصاناً فِي العُرْفِ بِقَصْدِ الانْتِقاص وَالذَّمِّ».
وحاصل معنى الأول: أن الغيبة عبارة عن 305 وثانيھما: «التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يَكْرَهُ نِسْبَتَهُ إِلَيْهِ وَھُوَ أَعم من الأَوَّل»
ذكر إنسان في غيبته بما يكره نسبته إليه، مما يُعَدُّ نقصاً وذمّاً لدى الناس، وكون ھذا الذكر بقصد الانتقاص
والطعن. وحاصل المعنى الثاني ھو التنبيه إلى ما ھو كذلك. ثم إن التعريف الثاني يكون أعمّ من الأول فيما إذا كان
301
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الغيبة والبھت، ح1.
302
بحار الأنوار المجلد 75 ص 221.
303
بحار الأنوار المجلد 75 ص 221.
304
بحار الأنوار، المجلد 75 ،ص220.
305
بحار الأنوار، المجلد 75 ،ص221.
129
الذكر ـ في الأول ـ بمعنى القول كما ھو المتفاھم العرفي، فيكون التنبيه ـ في الثاني ـ أعم أن من القول والكتابة
والحكاية وغيرھا من سائر طرق التفھيم. وإذا كان الذكر أھم من القول كما ھو الموافق للّغة، كان مرجع التعريفين
واحداً. والمستفاد من الأخبار أيضاً يدل على ھذين التعريفين.
مثل ما في مجالس الشيخ في حديث أبي بصير في وصيّة النبيّ ـ صلّى االله عليه وآله وسلم ـ لأبي ذَرٍّ ـ
رضوان االله عَليهِ ـ وفيه ـ «قُلْتُ: يا رَسُولَ االلهِ ما الغيبَةُ؟ قالَ: ذِكْرُكَ أخاكَ بِما ھُوَ فِيهِ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِذا ذَكَرْتَهُ بِما
306 لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَھَتَّهُ»
.
وورد في الحديث النبوي الشريف: «ھل تَدْرُونَ مَا الغيبَةُ؟ فَقالُوا: االلهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ: ذِكْرُكَ أخاكَ بِما
307 يَكْرَهُ... الخ»
.
ويرجع ھذا المعنى الأول حسب المتفاھم العرفي إلى معنى الذكر، أو إلى المعنى الثاني بناءً على أن الذكر
أشمل من القول. ولم يذكر الحديث غياب الأخ، لأنه مفھوم من معنى الغيبة فلا حاجة لذكره. ومن الواضح أيضاً أن
المقصود من الأخ ھو الأخ في الإيمان لا في النسب. و(مَا يَكْرَهُ) تعبير عن كل ما فيه نقص عرفاً. وإرادة الانتقاص
والطعن وإن لم تذكر في الحديثين الشريفين: لأبي ذر، والنبوي المشھور، ولكنھا مستفادة من فحوى الكلام. بل
أن صدر رواية أبي ذر يدلّ إلى ذلك، فكان مستغنياً عن ذكره. لأن في صدر الرواية «الغَيْبَةُ أشَدُّ مِنَ الزِّنا. قُلْتُ: وَلِمَ
ذاكَ يا رَسُولَ االلهِ؟ قالَ: لأنَّ الرَّجُلَ يَزْني فَيَتُوبُ إِلَى االلهِ فَيَتُوبُ االلهُ عَلَيْهِ، والغِيبَةُ لا تُغْفَرُ حَتّى يَغْفِرَھا صاحِبُھا ثمّ
. ويفھم من ھاتين الجملتين أن الذكر مع قصد الانتقاص، يكون غيبةً وإن 308 قال:... وأكْلُ لَحْمِه مِنْ مَعاصِي االلهِ»
كان ذكر الغير بقصد الشفقة عليه لما كانت غيبة حتى يحتاج إلى طلب المغفرة. ولما كانت من أكل لحمه.
ويستفاد من رواية عائشة أن الغيبة أعم من الذكر القولي: «قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةُ فَلَمّا وَلَّتْ أَوْمَأتُ بِيَدي أَنَّھا
. بل العرف لا يفھم من أخبار الغيبة، خصوصية للفظ، وإنما 309 قَصِيرَةٌ فَقَالَ ـ صلّى االله علية وآله وسلم ـ: اغْتَبْتِھا»
تعرض له من جھة أنه أسلوب من أساليب التفھيم، بمعنى إن الغيبة غالباً ما تكون باللفظ، لا من جھة أن للّفظ
خصوصية مميزة.
يبقي مطلب واحد وھو أن المستفاد من أخبار الغيبة أن كشف ستر المؤمنين حرام بمعنى أنه يحرم إظھار
عيوب المؤمنين المستورة، من دون فرق بين أن تكون ھذه العيوب خلقية أو خُلقية أو سلوكية، سواء كان
الشخص المتصف بالعيب راضياً بكشف عيبه أو لا. وسواء كان ھناك قصد انتقاص أم لا. ولكن يستفاد من مراجعة
عدّة روايات في المقام أن لقصد الانتقاص والطعن دور في حرمة الغيبة، إلاّ إذا كان العمل بنفسه من الأمور التي
يحرم شرعاً ذكره وإشاعته. بأن يكون معصيةً وتعدّياً على حقوقه سبحانه حيث لا يجوز لصاحب المعصية إظھارھا
للآخرين، وإنھا من إشاعة الفاحشة. وھذا لا يكون مرتبطاً بحرمة الغيبة. ولا يبعد أن يكون إظھار المستور من
عيوب المؤمنين عند عدم رضاھم بذلك محرّماً، حتى وإن لم يكن ھناك قصد للانتقاص منھم. وعلى أي حال إن
التفصيل في ھذا الموضوع، أكثر مما ذكرنا، يكون خارجاً عن المطلوب.
فصل: في الغيبة ومساوئھا
اعلم أن حرمة الغيبة محل اتفاق إجمالاً، بل تعدّ من ضروريّات الفقه ومن المعاصي الكبيرة والموبقات المھلكة.
ويكون البحث في ذلك والموارد التي ستثنى منھا، خارجة عن نطاق ھذا الكتاب. واللازم في ھذا المقام التنبيه
على فساد ھذه السيئة الموبقة وعلى مضاعفاتھا، حتى نبتعد عنھا ولا نبتلي بھا إنشاء االله أو إذا ابتلينا ـ لا
سمح االله ـ لتراجعنا وتُبنا، واستئصلنا مادة الفساد، ولا نفسح المجال للرحيل من ھذا العالم مع ھذا الدنس
والابتلاء بھذه المعصية الكبيرة الماحقة للإيمان. لأن لھذه الخطيئة الكبيرة في عالم الغيب، وراء حجاب الملكوت،
صورة مشوھة بشعة، تبعث ـ مضافاً إلى قبح منظرھا ـ على الفضيحة في الملأ الأعلى ولدى محضر الأنبياء
306
وسائل الشيعة، المجلد الثامن، باب 152 من أبواب أحكام العشرة ح 9.
307
المحجة البيضاء، المجلد 5 ،ص 256.
308
وسائل الشيعة، المجلد 8 ،ح16312.
309
جامع السعادات، المجلد 2 ،ص 294.
130
المرسلين والملائكة المقربين. والصورة الملكوتية لھا، ھي التي أشار إليھا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم،
وشرحتھا الأحاديث الشريفة صراحةً وتلويحاً أيضاً. قال االله تعالى: (وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
310 لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِھْتُمُوهُ)
.
نحن غافلون عن أن أعمالنا بأنفسھا في صور تناسب معھا، تعود إلينا، في عالم آخر. وغافلون عن أن لھذا
العمل، صورة أكل الميتة. إن صاحب ھذا العمل ـ المغتاب ـ يضاھي الكلاب الجارحة، في افتراسه لأعراض الناس
ولحومھم، وسترجع إليه الصورة الملكوتية لھذا العمل ـ كلب ينھش لحم الميت ـ في نار جھنم.
311 وفي رواية أن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم لمّا رجم الرجل في الزنا قال رجل لصاحبه: «ھذا أُقْعِصَ
كَما يُقْعَصُ الكَلْبُ فَمَرَّ النَّبِيّ مَعَھُما بِجيفَةٍ فَقالَ: إِنْھَشا مِنْھا، فَقالا: يا رَسْولَ االلهِ نِنْھَشُ جيفَةً؟ فَقالَ: ما أصَبْتُما
312 مِنْ أخيكُما أنْتَنُ مِنْ ھذِه»
.
نعم أن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم قد شاھد نتيجة قوّة نور بصيرته وحدّة مشاھدته ـ النبوية الغيبية
ـ عملھم ـ المغتابين ـ وعرف بأن جيفة الغيبة أشدّ من جيفة الميتة وصورة عمل الغيبة أشدّ قبحاً وفظاعة من
صورة الميتة المتفسخة.
وفي رواية أخرى أن المغتاب يأكل من لحمه يوم القيامة. وفي وسائل الشيعة عن كتاب «المجالس» لصدوق
الطائفة ـ رضوان االله عليه ـ عن نوف البّكالي قال أتى أمير المؤمنين عليه السلام (إلى أن قال) قلت زدني قال:
«أجْتَنِبْ الغيبَةَ فَإنِّھا أدام كِلابِ النَّارِ ثُمَّ قالَ: يا نُوفُ كَذَبَ مَنِ زَعَمَ أنَّهُ وُلِدَ مِنْ حَلالٍ وَھوَ يَأْكُلُ لُحُومَ النّاس بِالغيْبَةِ»
313
ولا تھافت بين ھذه الأحاديث الشريفة. إذ يمكن أن يتحقق كل ذلك: يأكل ـ المغتاب ـ لحم الميتة ويأكل لحم
جسده أيضاً. يكون على صورة الكلب فيأكل الجيفة، ويكون على صورة الميتة تأكله كلاب جھنم أيضاً. ھناك ـ في
عالم الآخرة ـ إن الصورة تابعة للحيثيات التي توجد في الفاعل فيمكن أن تكون لموجود واحد صورٌ مختلفة. كما ھو
مقرّر في محله العلوم الفلسفية والعرفانية ـ.
وعن عقاب الأعمال بإسناده... عن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم في حديث: «.. وَمَنْ مَشى في غيبَةِ
314 أخيهِ وَكَشْفِ عَوْرَتِهِ كانَتْ أَوَّلُ خُطْوَةٍ خَطاھا وَضَعَھا في جَھنَمَّ وَكَشَفَ االلهُ عَوْرَتَهُ عَلى رُؤوسِ الخَلائق»
.
ھذا وضعه يوم القيامة وفي جھنم حيث يفضحه االله تعالى بين الناس وأمام الملكوتيين.
وفي وسائل الشيعة عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليھم السلام في حديث المناھي أن رسول
االله صلّى االله عليه وآله وسلم... ونھى عن الغيبة وقال: «مِنْ اغْتابَ امْرَءً مُسْلِماً بَطَلَ صَوْمُهُ وَنَقَضَ وُضُوءَهُ وَجاءَ
يَوْمَ القِيامَة يَفُوحُ مِنْ فيه رائِحَةٌ أنْتَنُ مِنَ الجيفَةِ يَتَأَذّى بِه أَھْلُ المَوْقِفِ وَإِنْ ماتَ قَبْلَ أنْ يَتُوبَ ماتَ مُسْتَحِلا? لِما
315 حَرَّمَ االلهُ عَزَّ وَجَلَّ»
.
وھذا حاله قبل وروده على نار جھنم حيث يكون أمره مفضوحاً على رؤوس الأشھاد ويعتبر من الكفار، لأن
المستحل لما حرّمه االله يكون كافراً، وتكون نھاية المغتاب ـ يوم القيامة ـ حسب ھذه الرواية تضاھي نھاية الكافر
لأنھما يستحلان ما حرّمه االله.
وروي أيضاً عن رسول االله صلّى االله عليه وآله وسلم في بيان حال المغتاب في البرزخ الرواية التالية:
«عن أَنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ االلهِ صلّى االله عليه وآله وسلم: مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلى قَوْمٍ يَخْمِشُونَ وُجُوھَھُمْ
316 بِأَظافِيرِھِمْ، فَقُلْتُ: يا جَبْرَائيلَ! مَنْ ھؤُلاءِ؟ قَالَ: ھؤلاء الَّذينَ يَغْتابُونَ النَّاسَ وَيَقَعُونَ في أَعْراضِھِمْ»
.
310
سورة الحجرات، آية: 12.
311 القعص
: القتل.
312 المحجة البيضاء، المجلد الخامس، ص
.253
313
وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح 16.
314 عقاب الأعمال، ص
.340
315
وسائل الشيعة، المجلد 8 الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح13.
316
المحجة البيضاء، المجلد 5 ،ص251.
131
فتبين أن المغتاب مفضوح في عالم البرزخ وعلى استحياء أمام أھل المحشر يوم الوقوف بين يدي رب
العالمين، وفي حالّ من الذلّ والمسكنة عندما يزجّ به في نار جھنم، بل إن بعض مراتب الغيبة يدفع بصاحبھا على
الفضيحة في ھذا العالم أيضاً.
ففي أصول الكافي عَنْ إِسْحاقَ بْنِ عَمّارٍ قالَ: «سَمِعْتُ أبا عَبْدِ االلهِ عليه السَّلام يَقُولُ: قالَ رَسُولُ االلهِ صلّى
االله عليه وآله وسلم: يا مَعْشَرَ مَنْ أسْلَمَ بِلِسانِهِ وَلَمْ يَخْلُصِ الإيْمانُ إِلى قَلْبِه لا تَذُمُّوا المُسْلِمينَ وَلا تَتَبَّعُوا
317 عَوْراتھِمْ فَإنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْراتِھِم تَتَبَّعَ االلهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ االلهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَلَوْ فِي بَيْتِه»
.
إن االله سبحانه وتعالى غيور، ويكون ھتك ستر المؤمنين وكشف عوراتھم ھتكاً لناموس إلھي وكرامته. ولو أن
إنساناً تجاوز في الاستھتار الحدود، وھتك حرمات االله، كشف االله الغيور عيوبه التي سترھا عن الآخرين بلطفه
وستّاريته، وھتك أسراره وفضح أمره في ھذا العالم أمام الناس وفي عالم الآخرة أمام الملائكة والأنبياء والأولياء ـ
عليھم السلام ـ.
وفي الحديث الشريف في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام: «قالَ: لَمّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيّ صلّى االله عليه وآله
وسلم قالَ: يارَبِّ ما حالُ المُؤْمِنِ عِنْدَكَ: قالَ: يا مُحَمَّدُ مَنْ أھانَ لي وَلي?ا فَقَدْ بارَزَني بِالْمُحارَبَةِ وَأنَا أسْرَعُ [ شَيْءٍ ]
318 إِلى نُصْرَة أوْلِيائي»
.
والأحاديث في ھذا الموضوع كثيرة.
وعن الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «وَمَنْ اغْتابَهُ بِما فيهِ فَھُوَ خارِجٌ مِنْ وِلايَةِ االلهِ
319 تَعالَى داخِلٌ في ولايَةِ الشَّيْطانِ»
.
ومن الواضح أن من يخرج عن ولاية االله تعالى ويدخل في ولاية الشيطان، لا يكون من أھل النجاة والإيمان. كما
320 ورد في حديث إسحاق بن عمار المتقدم
.
أيضاً من أن إسلام المغتاب بلسانه ولم يخلص الإيمان في قلبه.
ومعلوم أم من يؤمن باالله ويُصدِّق بيوم الجزاء ويعتقد إعتناقه ـ يوم القيامة ـ لصور أعماله وحقائق سيئاته، لا
يقترف موبقة كبيرة، تفضحه في عوالم الغيب والشھادة وفي عالم الدنيا والبرزخ والآخرة، وتقوده إلى شرّ
المصائب، التي ھي نار جھنم، وتخرجه عن ولاية الحق المتعالي وتدخله تحت ولاية الشيطان.
لو أننا اجترحنا مثل ھذه المعصية العظيمة لوجب أن نعرف بأن الأساس غير سليم، وأن حقيقة الإيمان لم
يدخل في قلبنا. ولو أن الإيمان تغلغل في القلب، لصلحت الأمور، لأن آثاره ـ الإيمان ـ تتسرب إلى الظاھر والباطن
والسرّ والعلن.
فلابد من معالجة الباطن وأمراض القلب. ويستفاد من الأحاديث أن ضعف الإيمان وعدم خلوصه كما يسبب
فساداً في الأخلاق وانحرافاً في الأعمال، كذلك توجب الفاسد الأخلاقية نقصاً في الإيمان بل زواله. وھذا الكلام
يتطابق مع بعض البراھين. كما تقرر في محلّه.
واعلم أن ھذه المعصية من جھة أخرى أشد من كافة المعاصي، وأن آثارھا أخطر من آثار الذنوب الأخرى، لأن
الغيبة مضافاً إلى أنھا تمسّ حقوق االله، تمسّ حقوق الناس أيضاً. ولا يغفر االله للمغتاب حتى يرضى صاحب الغيبة.
كما ورد ھذا المضمون في الحديث الشريف المأثور بطرق مختلفة.
عن محمّد بن الحسن في المجالس والإخبار بإسْناده عن أبي ذَرٍّ، عَنِ النَّبيّ صلّى االله عليه وآله وسلم في
وَصِيَّةٍ لَهُ قَالَ: «يا أبا ذَرٍّ إِيّاكَ وَالغيبَةَ، فَإنَّ الغيبَةَ أشَدُّ مِنَ الزِّنا. قُلْتُ: وَلِمَ ذاكَ يا رَسُولَ االلهِ؟ قالَ: لأنَّ الرَّجُلَ يَزْني
321 فَيَتُوبُ إِلَى االلهِ فَيَتُوبُ االلهُ عَلَيْهِ وَالغيبَةُ لا تُغْفَرُ حَتّى يَغْفِرَھا صاحبھا»
.
وفي كتاب علل الشرائع والخصال ومجمع البيان وأخوان الصفا أحاديث بھذا المعنى أو قريب من ھذا المعنى.
317
أصول الكافي، المجلد 2 ،كتاب الإيمان والكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين، ح2.
318
أصول الكافي، المجلد 2 ،كتاب الغيمان والكفر، باب من آذى المسلمين، ح 8.
319
بحار الأنوار، المجلد 75 ،باب الغيبة، ح 12.
320 المنقول عن أصول الكافي
.
321
وسائل الشيعة، المجلد الثامن، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، ح9.
132
ولو أن الإنسان والعياذ باالله مات وعليه حقوق الناس، كان أمره صعباً جداً. إذ أن علاقة الإنسان في حقوق االله
تكون مع الكريم الرحيم الذي لا يتطرق إلى ساحته القدسية شيء من البغض والضغينة والعداوة والتشفي ولكنه
ـ في حقوق العباد قد يرتبط بإنسان فيه تلك الصفات الفاسدة ولا يتجاوز عنه بسرعة أو لا يرضى عنه نھائياً.
فلا بد للإنسان من المواظبة على نفسه كثيراً، والانتباه إلى الملاحظات التي ذكرناھا فإن الأمر خطير جداً
وصعب للغاية. والأحاديث في خطورة الغيبة أكثر من مجال ھذه الصفحات. ونحن نقتصر على ذكر بعضھا.
مثل ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيّ صلّى االله عليه وآله وسلم أنَّهُ خَطَبَ يَوْماً فَذَكَرَ الرِّبا وَعَظَّمَ شَأْنَهُ فَقالَ: «إنَّ الدرْھَمَ
322 يُصيبُهُ الرَّجُلُ مِنَ الرِّبا أعظْمُ مِنْ سَتِّ وَثَلاثينَ زَنْيَةً وَإِنَّ أرْبى الرَّبا عِرْضُ الرَّجُلِ المُسْلِمِ»
.
323 ورُوِيَ عنه صلّى االله عليه وآله وسلم أنَّهُ قالَ: «مَا النّارُ في اليَبْس بِأسْرَعَ مِنَ الغيبَةِ في حَسَناتِ العَبْدِ»
.
وَعَنِ النَّبِيّ صلّى االله عليه وآله وسلم: «يُؤْتى بِأحَدٍ يَوْمَ القِيامَةِ يُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ الربِّ عَزَّ وَجَلَّ وَيُدْفَعُ إلَيْهِ كِتابُهُ
فَلا يَرى حَسَناتِهِ فيهِ فَيَقُولُ إلھي لَيْسَ ھذا كِتابِي [ فإنّي ] لا أرى فيهِ حَسَناتي. فَيُقالُ لَهُ إنَّ رَبَّكَ لا يَضِلُّ وَلا
يَنْسى ذَھَبَ عَمَلُكَ بِاغْتِيابِ النّاسِ. ثُمَّ يُؤْتى بِآخَرَ وَيُدْفَعُ إلَيْهِ كِتابُهُ فَيَرى فيهِ طاعاتٍ كَثيرةً فَيَقُولُ: إلھي ما ھذا
324 كِتابي فَإنّي ما عَمِلْتُ ھذِهِ الطّاعاتِ، فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ فُلاناً اغْتابَكَ فَدُفِعَ حَسَناتُهُ إِلَيْكَ»
.
وعن النبي صلى االله عليه وآله وسلم «أَدْنَى الكُفْرِ أَنْ يَسْمَعَ الرَّجُلُ مِنْ أَخِيْهِ كَلِمَةً، يَحْفَظُھَا عَلَيْهِ يُرِيدُ أَنْ
325 يَفْضَحَهُ بِھَا أولئِكَ لا خَلاقَ لَھُمْ»
.
ھذه الأخبار المأثورة في خصوص الغيبة. في حين أن عناوين أخرى من المعاصي المذكورة في الروايات تنطبق
أيضاً على الغيبة وتعمّھا تلك الآثام مع مضاعفاتھا الفاسدة مثل: إھانة المؤمن سبب مستقل لھلاك الإنسان ,
والأحاديث في تشنيع كل واحد منھا قاصمة للظھر.
ونحن أعرضنا عن نقلھا للمحافظة على الاختصار.
فصل: المفاسد الاجتماعية للغيبة
كما أن ھذه المعصية الكبيرة وھذه الجريرة العظيمة، من المفسدات للإيمان والأخلاق والظاھر والباطن، وممَّا
تدفع بصاحبھا إلى الفضيحة في الدنيا والآخرة. حيث ذكرنا سلفاً في الفصل السابق نبذة يسيرة منھا، كذلك
تشتمل ھذه الرذيلة على مفاسد إجتماعية ونوعية أيضاً، ولھذا يكون فسادھا وقبحھا أعظم من كثير من
المعاصي.
إن من الأھداف الكبيرة للشرائع الإلھية والأنبياء العظام ـ سلام االله عليھم ـ مضافاً إلى كونه ـ الھدف الذي
نذكره ـ ھدفاً مستقلا? وليس بمجرد أداة وواسطة وإنّما ھي الوسيلة التي تبعث على إنجاز الأھداف الأساسية
الكبيرة، وشرط ضروري لتحقيق المدينة الفاضلة. مضافاً على ذلك، ھو توحيد الكلمة وتوحيد العقيدة والاتفاق في
الأمور الھامة، والحدّ من ظلم الجائرين الباعث على فساد بني الإنسان ودمار المدينة الفاضلة، ولا يتحقق ھذا
الھدف الكبير المصلح للمجتمع والفرد إلا في ظل وحدة النفوس وإتحاد الھمم والتآلف والتآخي، والصداقة القلبية
والصفاء الباطني والظاھري، وتربية أفراد المجتمع على نمط يساھم كلھم في بناء شخص واحد، يحوّل المجتمع
إلى فرد، ويجعل الأفراد بمنزلة الأعضاء والأجزاء لذلك الفرد وتدار كافة الجھود والمساعي حول الھدف الإلھي
الكبير، والأمر الھامّ العقلي العظيم ـ الوحدة والاخوة ـ الذي فيه مصلحة الفرد والمجتمع. ولو أن مثل ھذه الوحدة
والاخوة ظھرت في طائفة أو نوع، لتغلبوا على جميع الطوائف والأمم التي لا تحظى بالأخوة والوحدة كما يتضح
ذلك من مراجعة التاريخ وخاصة دراسة الحروب الإسلامية والفتوحات العظيمة، حيث تمتع المسلمون لدى بزوغ
القانون الإلھي ـ الإسلام ـ بشيء من الوحدة والاتحاد، واقترنت مساعيھم بشيء من الخلوص في النية، فحققوا
في فترة قصيرة إنجازات عظيمة، وھزموا القوى الجبارة
322
المحجة البيضاء، المجلد الخامس، ص 253 وص 264.
323
المحجة البيضاء، المجلد الخامس، ص 253 وص 264.
324
جامع الأخبار، ص 171.
325
أصول الكافي، المجلد 2 ،كتاب الإيمان والكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين، رواية تضاھي ھذه الرواية.
133
آنذاك المتمثلة في إيران والروم وانتصروا رغم قلة عددھم وعُدّتھم على الجيوش المدجّجة بالسلاح وعلى
المجتمعات الكبيرة.
إن نبي الإسلام قد أجرى عقد الأخوة في الأيام الأولى بين المسلمين، فسادت الأخوّة حسب الآية الكريمة
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)
326
. بين جميع المؤمنين.
وفي الكافي الشريف: عَنْ العَرْقُوفي قالَ: سَمِعْتُ أبا عَبْدِااللهِ عليه السَّلام يقول لأصْحابه: «إِتَّقُوا االلهَ وَكُونُوا
327 إِخْوَةً بَرَرَةً فِي االلهِ مُتَواصِلينَ مُتَراحِمينَ. تَزاوَرُوا وَتَلاقَوْا وَتَذاكَرُوا أمْرَنا وَأحْيُوهُ»
.
وَعَنْ أبي عَبْدِااللهِ عليه السَّلام قالَ: يَحِقُّ عَلَى المُسْلِمِينَ الإجْتِھادُ فِي التواصُلِ وَالتَّعاوُنَ عَلَى التَّعاطُفِ
328 وَالمُواسَاةِ لأَھْلِ الحاجَةِ وَتَعاطُفِ بَعْضِھِمْ عَلى بَعْضٍ حَتَّى تَكُونُوا كَما أمَرَكُمُ االلهُ عَزَّ وَجَلَّ: «رُحَماءُ بَيْنَھُمْ...»
.
329 وعنه عليه السَّلام: «تَواصَلُوا وَتَبارُّوا وَتَراحَمُوا وَكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً كَما أمَرَكُمُ االلهُ عَزَّ وَجَلَّ»
.
ومن المعلوم أنه كلما يبعث على ازدياد ھذه الصفات، يكون محبوباً ومرغوباً فيه وكلما ينقض ھذه الاخوة ويفرّط
عقد التواصل ويدفع نحو التمزّق، يعتبر مبغوضاً عند صاحب الشريعة ومناقضاً لأھدافه الكبيرة. ومن الواضح لدى
الجميع بأن ھذه المعصية الكبيرة الخطيرة ـ الغيبة ـ إذا أشيعت في المجتمع، أصبحت سبباً للضغينة والحسد
والعداوة والبغض وترسيخ جذور الفساد في المجتمع، وغرس شجرة النفاق فيه، وضعضعة وحدة المجتمع
وتضامنه، ووھن أساس الديانة، وفي النھاية تزداد في المجتمع القبائح والفساد.
فيجب على كل مسلم غيور ملتزم، لصيانة نفسه من الفساد، أھل دينه من النفاق وللمحافظة على المجتمع
الإسلامي ووحدته ولتحكيم عقد الأخوة أن يبتعد عن ھذه الرذيلة، ويمنع المغتابين من ھذه الموبقة القبيحة،
ويتوب إلى االله من ھذا العمل الكريه، إذا كان مبتلياً به، ويسترضي مَنْ اغتابه إذا أمكن، من دون أن يفضي إلى
مشكلة، ويستحلّه فإذا جعله في حلٍّ، وإلاّ استغفر له. وتخلّى عن ھذه الخطيئة، وأنعش من جديد في قلبه
جذور الصداقة والاتحاد، حتى يصبح من الأعضاء الصالحين في المجتمع وينقلب إلى جزء ھامّ في عجلة الإسلام
واالله الھادي إلى سبيل الرشاد.
فصل: في علاج ھذه الموبقة
اعلم أن معالجة ھذه الخطيئة العظيمة وغيرھا من الخطايا تكمن في العلم النافع والعمل.
أما العلم النافع فھو أن يفكر الإنسان في الآثار الناجعة التي تترتب على معالجة ھذه الموبقة، ويقارنھا مع
المضاعفات السيئة والآثار الشنيعة التي تترتب على الغيبة، ثم يعرض كلا الأمرين على العقل ويستھديه لما فيه
الحسن والخير والصلاح.
إن الإنسان لا يعادي نفسه البتة من اقترافه للمعصية، وإنما يجترح السيئات من جرّاء الجھل والغفلة عن
بواعثھا ونتائجھا. ومن جرّاء الفائدة الموھومة المترتبة على تلك المعصية، من إرضاء رغباته النفسية في ذكر
مساوئ الناس وكشف عوراتھم دقائق محدودة، ومن تضييع الوقت في ذكر اللطائف اللاذعة والأحاديث الشنيعة
المنسجمة مع الطبيعة الحيوانية أو الشيطانية ولھوه في جلسته مع أصدقائه وإشفاء غيظه ممن يحسدھم.
ولكن آثار الغيبة القبيحة قد عرفت قسماً منھا في الفصول السابقة وعليك أن تقف على قسم أخر وتتعظ منه،
وتأخذه بعين الاعتبار لدى المقارنة بين حسنات الكفّ عن الغيبة ـ بالمعالجة ـ وسيئات الانھماك فيھا. وتنجم عن
ھذا التفكر والمقارنة، آثار طيبة.
أما آثارھا الشنيعة في ھذا العالم فھو سقوط الإنسان من أعين الناس وسحب ثقتھم به. إن طبائع الناس
مجبولة على حب الكمال والجمال والحسن،
326
سورة الحجرات، آية: 10.
327
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ح 1 و4 و3.
328
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ح 1 و4 و3.
329
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ح 1 و4 و3.
134
والنفور من كل نقص وقبح وانحطاط. وملخّص الحديث أن الناس يفرّقون بين من يتجنّب، ھتك أستار الناس
وكشف أعراضھم وأسرارھم، وبين غيره، حتى إن الذي يتولّى الغيبة يرى في نفسه فطرة وعقلاً، الإنسان الذي
يكون على حذر من ھذه الأمور ـ ھتك الأستار وكشف الأعراض والأسرار ـ مفضّلاً على نفسه. وإذا تمادى الإنسان
وتجاوز الحدود، وھتك أسرار وأعراض الناس، فضحه االله في ھذه الدنيا. كما صُرِّح بذلك في حديث إسحاق بن
عمار المتقدم. ويجب أن يكون على حذر من فضيحة يريدھا االله للإنسان حيث لا يمكن تداركھا.
أعوذ باالله من غضب الحليم. إن من المحتمل أن يفضي ھتك حرمات المؤمنين وكشف عوراتھم بالإنسان، إلى
سوء العاقبة. لأن ھذا العمل الشنيع إذا أصبح ملكة راسخة لدى الإنسان، ترك آثاراً في النفس: منھا الضغينة
والعداوة تجاه المستغاب التي تزداد شيئاً فشيئاً فعندما يدنو منه الأجل، وتنكشف عنه حجب الملكوت، ويرى
المقامات الشامخة للذين اغتابھم وتعظيم الحق لھم، قد تحصل عنده الكراھية للحق سبحانه، لأن الإنسان
يعادي، المحب لعدوه، ويبغض المحب لمبغوضه، فيخرج من الدنيا وھو كاره للحق والملائكة ويمنى بالخذلان
الأبدي والشقاء الدائم.
عزيزي تصادق مع عباد االله الذين تشملھم رحمة االله ونعمه، ويتزينون بالإسلام والإيمان وأحببھم في قلبك.
وإيّاك أن تعادي محبوب الحق المتعالي، لأنه سبحانه يعادي أعداء أحبائه وسوف يبعدك عن ساحة رحمته. إن
عباد االله المخلصين مجھولون بين سائر عباده، ومن الممكن أن يعود عداءك لمؤمن وھتكك حرمته وكشفك عورته،
إلى ھتك حرمة االله تعالى ومعاداته!.
إن المؤمنين أولياء الحق، والتحابّ معھم، تحابّ مع الحق، والتخاصم معھم تخاصم مع الحق. إياك وإثارة غضب
الحق سبحانه، ومعاداة شفعاء يوم القيامة «ويلٌ لِمَنْ شُفَعاؤه خُصَماؤه». فكّر قليلاً في النتائج الدنيوية والأخروية
لھذه المعصية، وتأمل يسيراً في تلك الصور ـ صور تجسّد الأعمال ـ الموحشة المدھشة التي يبتلى بھا الإنسان
في القبر والبرزخ ويوم القيامة. وراجع الكتب المعتبرة لعلمائنا العظام ـ رضوان االله عليھم ـ والأحاديث المأثورة عن
الأئمة الأطھار ـ عليھم سلام االله ـ التي تقصم الظھر، من شدة العقاب المتوعد عليه. ثم قارن بين ربع ساعة من
اللغو في الحديث والثرثرة في ظل تحقيق رغبة وھميّة، وبين آلاف السنين من المعاناة، إذا كنت من أھل النجاة
وارتحلت عن ھذه الدنيا مع الإيمان. وإلاّ تكن ـ من أھل الإيمان والنجاة ـ فقارن تلك الدقائق اليسيرة مع الخلود في
نار جھنم والعذاب الأليم ـ المؤبّد ـ نعوذ باالله منه ـ.
يضاف إلى ذلك أنك إذا خاصمت الشخص الذي تستغيبه، فمقتضى إيمانك بالأحاديث الشريفة أن تكفّ عن
استغابته. لأنه ورد في الخبر أن حسنات المستغيب تنتقل إلى صحيفة عمل المستغاب، وسيئات المستغاب
تنتقل إلى سجلّ عمل المستغيب. فإنك أردت أن تعاديه، ولكنك في الحقيقة قد عاديت نفسك.
إذن اعلم أنك لا تستطيع أن تحارب االله. إن االله قادر على أن يجعل المغتاب نتيجة غيبتك إياه عزيزاً ومقدراً بين
الناس، ويجعلك حقيراً وذليلاً. ويقوم سبحانه أمام الكروبيّيّن ـ المقربين ـ بنفس العملية، فيملأ صحيفة عملك من
السيئات ويفضحك، ويملأ صحيفة عمله من الحسنات معزّزاً مكرّماً.
فافھم أنك تحارب ـ بغيبتك ـ أيّ قادر جبار، وكن على حيطة وحذر من معاداته.
وأما من الناحية العملية فلا بد من كفّ النفس عن ھذه المعصية لبعض الوقت مھما كان صعباً، ولجم اللسان،
والمراقبة الكاملة للنفس، ومعاھدة النفس بعدم اقتراف ھذه الخطيئة، ومراقبتھا والحفاظ عليھا ومحاسبتھا. حيث
يمكن أن يتم إصلاح النفس بعد مضي فترة قصيرة بمشيئته تعالى. واستئصال مادة ھذا الفساد، ويسھل عليك
الأمر قليلاً قليلاً. وبعد فترة تحسّ بأنك تتنفر منھا بحسب طبيعتك وتنزجر عنھا. ثم تكون راحة النفس ومتعتھا في
ترك ھذه المعصية.
فصل: الأولى ترك الغيبة في الموارد الجائزة
إعلم بأن العلماء والفقھاء ـ رضوان االله عليھم ـ استثنوا موارداً من حرمة الغيبة تبلغ في كلمات بعضھم العشرة
ولسنا بصدد عرضھا وتعدادھا، حتى لا تكون
135
ھذه الصفحات ساحة لبيان الأبحاث الفقھية. والذي يجب أن نذكره ھنا ھو أن على الإنسان أن لا يعيش حالة
الاطمئنان أبداً من مكائد النفس، بل يجب أن يتحرك في منتھى الحذر والاحتياط، ولا يكون في صدد التبرير ـ لغيبته
ـ بالأعذار بأن يقول أن ھذا المورد ھو من الموارد المستثناة فيسمح لنفسه بالبحث عن عيوب الناس وإشاعتھا
في المجتمع.
إن مكائد النفس بالغة الدقة، فيمكن أن تَخدع الإنسان عن طريق الشرع، وتزِجّه في مھلكة. فمثلاً إن غيبة
المتجاھر بالفسق جائزة، وإذا توقف ردعه بعض الأحيان على استغابته وجبت غيبته من باب النھي عن المنكر،
ولكن يجب أن يتأمل الإنسان بأن الدافع النفسي لغيبته ھو الداعي الشرعي الإلھي ـ النھي عن المنكر ـ أو أن
الباعث، أھواء شيطانية، ورغبة نفسانية ـ العداوة والتشفي و... ـ فإن كان الھدف الدافع الإلھي ـ النھي عن
المنكر ـ كان عمله من العبادات، بل كانت غيبته ھذه بنيّة إصلاح المتجاھر بالفسق والإساءة إليه، من أوضح
مصاديق الإحسان والإنعام إليه وإن لم يشعر المغتاب بذلك. ولكن إذا كان قصده مشوباً بالفساد والميول
النفسانية، فلا بد من تخليص النية ـ من غير الدافع الإلھي ـ والصفح عن أعراض الناس وحرماتھم عند عدم وجود
ھدف صحيح.
بل إن تعويد النفس على الغيبة في الأحوال الجائزة، يضرّ بحالھا أيضاً. لأن النفس تميل نحو الشرور والقبائح،
فمن المحتمل أن ينجرّ رويداً رويداً من الموارد الجائزة إلى مرحلة أخرى وھي الموارد المحرمة , كما أن الدخول
في الشبھات غير محمود، رغم جوازه، لأنھا حمى المحرمات ومن الممكن أن الاقتحام في الحمى يفضي إلى
الدخول في المحرمات. يجب على الإنسان مھما أمكن أن يبعد النفس عن الغيبة في الأحوال المسموحة، ويحترز
عن الأمور التي يحتمل أن يكون فيھا طغيان للنفس.
نعم في الأحوال التي تجب الغيبة فيھا، مثل غيبة المتجاھر بالفسق بھدف منعه إذا كان لا يرتدع إلا بھا،
والموارد الأخرى التي ذكرھا العلماء، فلا بد من الإقدام عليھا، مع السعي الحثيث لتخليص النية عن ھوى النفس
ومتابعة الشيطان. ولكن ترك الغيبة في الموارد الجائزة، أولى وأحسن ومن الأجدر أن لا نفعل كل
عمل جائز وخاصة الأمور التي يكون فيھا لمكائد النفس والشيطان دور بارزٌ. في الحديث: مَرَّ عِيْسَى بْنِ مَرْيَمَ
عَلَيْهِ السَّلامُ وَمَعَهُ الحَوَارِيُّونَ عَلَى جِيْفَةِ كَلْبٍ، فَقَالَ الحَوَارِيُّونَ مَا أَنْتَنَ رِيْحَ ھذَا الكَلْبِ فَقَالَ عِيْسَى عَلَيْهِ السَّلامُ:
«مَا أَشَدَّ بَيَاضَ أَسْنَانِهِ»
330
.
إن المربي والموجه للإنسان لا بد وأن يكون ذا نفس طاھرة نقيّة. إن عيسى لم يسمح أن يذكر مخلوق االله
بالسوء. إنھم شاھدوا عيبه وھو قد لوّح بكماله.
سمعت رواية منقولة عن السيد المسيح عليه السلام أنه قال لا تكونوا مثل البعوض الذي يفتش عن الأوساخ
والقاذورات فلا تركزوا على عيوب الناس.
331 وروي عن رسول االله صلى االله عليه وآله وسلم أنه قال: «طوبى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ»