__________________
(١) لاحظ المخزومي في كتابه « في النحو العربي » ص ٧٧ ـ ٧٩
٢٧٧
من واد واحد. وذلك كما يلي :
١ ـ انَّه في كثير من الموارد نجد إمكان الإضافة المباشرة لما يدّعى انَّ حرف الجر يقوم بدور إضافته إلى المجرور ومع ذلك لا يمكن الاستغناء فيها عن الحرف ، كما في قولك « سفرك أطول من سفري » أو قولك « زيد قائم في الدار » فان كلاَّ من « أطول » و « قائم » اسم قابل للإضافة ومع ذلك لا يصحّ أن نستغني في المثالين عن الحرف بإضافتهما إلى المجرور.
٢ ـ انَّ هذه النظرية لئن أمكن تطبيقها على مثل حرف « من » في المثال فهي لا تنطبق على أكثر حروف الجرّ كالكاف وحاشا وربّ وغيرها. فقولنا « زيد كعمرو » لا يمكن أن يكون كاف الجر فيها من أجل إضافة ما قبلها إلى ما بعدها. إذ لا يعقل إضافة زيد إلى عمرو ولا إضافة « كائن » أو « مستقرّ » إليه ـ بناء على تقديره في أمثال المقام كما يقوله النحويّون وإن كان لا يوافق عليه الباحث المذكور ـ بل حرف « حاشا » يعطي معنى السلب والاستثناء وهو على العكس من الإضافة تماماً يقتضي تخصيص الحكم بغير المجرور.
ودعوى : إرجاع مثل هذه الحروف إلى الأسماء فالكاف بمعنى « مثل » وحاشا بمعنى « غير » مضافاً إلى عدم التزام الباحث المذكور به. مندفعة : بأن أي حرف بالإمكان اقتناص مفهوم اسمي منتزع عنه كما تنتزع الظرفية من « في » والابتداء لـ « من » وهكذا. ولكن مثل هذه المفاهيم الاسمية المنتزعة ليست هي معاني الحروف بل منتزعة عمَّا هو معناها.
٣ ـ من جملة الفوارق بين حروف الجرّ والإضافة انَّ الحروف يمكن استعمالها بين أطراف جزئية مشخصة فتقول مثلاً « زيد في هذه الدار » ولكن الإضافة لا يمكن أن تكون بين طرفين مشخصين بل يشترط في المضاف دائماً أن يكون مفهوما كليّاً وهذا تعبير آخر عمَّا يقوله النحاة من اشتراط أن يكون المضاف نكرة ولا يشترط ذلك فيما يتعلّق به حرف الجر.
٤ ـ وأخيراً حكم الوجدان لمن يقارن بين موارد الإضافة وموارد استعمالات حروف الجرّ بأن الإضافة لا تفيد من ناحيتها نوع النسبة والعلاقة بين المضاف
٢٧٨
والمضاف إليه وانَّما تفيد أصل العلاقة الملائمة مع أنحاء مختلفة منها خلافاً للحروف فانَّ كلّ واحد منها يتضمّن مدلولاً خاصاً به زائداً على أصل الارتباط والنسبة إلى المجرور ، فأنت تقول مثلاً « الضرب من زيد » فيفيد صدوره منه و « الضرب على زيد » فيفيد ووقوعه عليه وتقول « ضرب زيد » فيلائم كلا الأمرين.
وهكذا يتبرهن : انَّه لا يمكن إرجاع حروف الجرّ إلى الإضافة واعتبارها تقوم بدور الوسيط لتسهيل عملية الإضافة حيث لا يمكن الإضافة المباشرة. نعم هناك في رأينا معنى آخر دقيق لاكتشاف الدور المشترك لحرف الجرّ والإضافة مع عدم طمس معالم الفرق بينهما سوف نتعرّض له فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وحيث ثبت من خلال النقاط المتقدمة وجود فارق في المدلول بين مفاد الإضافة ومفاد الحروف الجارة فسوف نواجه السؤال عن جوهر هذا الفرق وتحديد ما هو المعنى الموضوع بإزائه كلّ منهما. وفي مقام علاج هذه النقطة يمكن أن نطرح عدّة فرضيات نحاول في كلّ منها تفسير وتشخيص جوهر الفرق بين مفاد الإضافة والحروف.
لنرى أنَّ أيّاً منها تستطيع أن تفسّر الفرق بنحو لا نتنازل معه عن شيء من وجداناتنا اللغوية التي أبرزناها من خلال النقاط الأربع المتقدّمة فتكون هي النظرية الصحيحة لتشخيص مدلول الحروف والإضافة على ضوئها.
١ ـ انَّ الإضافة موضوعة للدلالة على التحصيص وتضييق دائرة صدق الاسم المضاف ، فكلمة « ماء » مثلاً مفهوم عام ينطبق على كلّ من ماء النهر والكوز والإناء ولكن بسبب إضافته إلى الكوز مثلاً يتحصص مفهومه وتتحدد دائرة صدقه بخصوص ماء الكوز ، ومن هنا كان المضاف والمضاف إليه في قوّة مفهوم واحد هو مفهوم الحصة الخاصة.
وامَّا الحروف فتدلّ على نسبة معيّنة خارجية بين طرفين أو أكثر ولهذا كانت تفيد نوعية العلاقة والنسبة بين أطرافها.
وهذا الوجه يمكن أن يفسّر لنا وجداناتنا المتقدمة فانَّه إذا افترض أن الإضافة لمجرَّد تحصيص المعنى العام وتقييده والحروف للدلالة على النسب الخارجية فاستفادة تلك النسب من الحرف دون الإضافة أمر منسجم حينئذ كما أنَّ عدم إمكان تبديل الحرف
٢٧٩
بالإضافة في النقاط المتقدمة قابل لأن يفسر على أساس هذه التفرقة.
ولكن يبقى التساؤل عن المقصود بالتحصيص الموضوع له الإضافة فانَّه إذا أريد مفهوم التحصيص والتقييد فهذا مفهوم اسمي مستقل بضمه إلى مفهوم اسمي آخر لا يتحقق تحصيص وضيق فيه. وإن أريد واقع التحصيص والضيق فهذا لا يعقل إلا بأخذ نسبة من تلك النسب الخارجية بين المفهوم المتحصص والمفهوم المتحصص به حتى يكون المركّب منهما لا يصدق على غير الحصّة الخاصة ومن دون ذلك يستحيل أن لا يصدق مفهوم على ما هو مصداقه بالذات.
وإذا أخذت النسبة الخارجية بين المفهومين في مدلول الإضافة ـ سواءً احتفظ فيها بنوع النسبة وخصوصية كونها ظرفية أو صدورية أو وقوعية أم لم يحتفظ به بل أخذ أصل الربط والنسبة ـ اتّجه النقض بالموارد السابقة لا محالة. فان هذه النسبة الخارجية كما هي ثابتة بين الماء والكوز في قولنا « الماء في الكوز » المصحح لإضافة الماء إلى الكوز وتحصيصه به كذلك بنفسها ثابتة بين القائم والدار في قولنا زيد قائم في الدار من دون أن تصحّ إضافته إليه.
وكذلك الحال في « زيد في الدار » ممَّا يعني انَّ هذا المقدار المبرز في هذه الفرضية من الفرق لا يكفي لعلاج المفارقات المتقدمة جميعاً.
٢ ـ انَّ الذهن في موارد الحروف يلحظ ثلاثة أمور الطرفان والنسبة الخاصة بينهما. وأمَّا الإضافة فاللحاظ فيها ينصب على مفهوم واحد هو المفهوم المضاف بما هو مضاف ومنسوب إلى المضاف إليه فالنسبة الخارجية تخلع على المضاف حالة الانتساب والتحصص وهذه الحالة كالنسبة معنى حرفي على ما سيأتي لدى البحث عن مدلول هيئة المصدر والفعل ، ولكنَّها ليست نسبة متقومة بطرفين بل حالة صالحة للقيام بطرف واحد ولهذا نجد وحدة المفهوم في موارد الإضافة وتعدده في موارد الحروف.
وهذه الفرضية غير تامة أيضا. وذلك.
أولا : لأنَّه لو أريد من وحدة اللحاظ في موارد الإضافة وتعدده في الحروف الوحدة الواقعية في صقع الوجود الذهني. فقد عرفت بأن مفاد الحروف بل كلّ النسب الناقصة الأوليّة يكون كذلك لأنَّها وإن كانت متضمنة للنسبة وهي متقوّمة بطرفين أو أكثر إلا
٢٨٠
أن هذا النوع من النسب تحليلية قام البرهان على استحالة كونها واقعية في الذهن. وإن أريد الوحدة بلحاظ عالم التحليل فالوجدان قاض بعدم وحدة المفهوم في موارد الإضافة أيضا كموارد الحروف تماماً بدليل لحاظ الذهن لمفهوم المضاف إليه وهذا لا ينسجم إلا مع افتراض دلالة الإضافة على النسبة بينه وبين المضاف لا الحالة الخاصة المتقومة بالمضاف فقط كما في هيئة المصدر.
وثانياً : انَّ هذه الفرضية كسابقتها لا تعالج المفارقات المبرزة في النقاط المتقدمة فانَّ في كلّ مورد توجد نسبة حرفية خارجية بين شيئين تتحقق حالة الانتساب أيضا فلما ذا لا تطرد فيها الإضافة.
٣ ـ انَّ الإضافة مفادها مفاد الحروف ولكن بنحو النسبة الناقصة المفروغ عنها بينما الحروف تدلّ على معانيها بنحو النسبة التامة فقولنا : « غلام زيد أو خاتم فضّة » تحويل للنسبة التامة المفادة بقولنا « الغلام لزيد والخاتم من فضة » إلى نسبة ناقصة تقييديّة مفروغ عنها نظير ما قلناه في النسبة التوصيفية من انَّ قولنا « الرّجل الشجاع » نسبة ناقصة منتزعة بلحاظ النسبة التامة الخبرية في قولنا « الرّجل شجاع » ولهذا أيضا نجد أن الإضافة كالتوصيف تستبطن الاخبار ، فإذا قلت « رأيت غلام زيد » كنت قد أخبرت ضمناً انَّ ذلك الغلام لزيد.
وهذه الفرضية أيضا ممَّا لا يمكن المساعدة عليها.
وذلك أولا : فساد المبنى فان النسب المفادة بالحروف نسب خارجية تحليلية وهي لا تكون إلا ناقصة ولذلك قلنا بضرورة افتراض تقدير في جملة « الغلام لزيد » أي « الغلام كائن لزيد » ليكون هو طرف النسبة التامة كما يتّفق عليه النحاة. وسوف يأتي التعرّض لذلك في بحث الهيئات الإفرادية.
وثانياً : عدم إمكان افتراض النسبة الحرفية تامة في تمام الموارد بل من الواضح نقصانها في مثل قولنا « مررت بزيد » حيث لا تكون الجملة مفيدة لأكثر من نسبة تامة واحدة. ولو فرض استفادة نسبة تامة أخرى وهي كون الرّجل المرور به زيداً فهي نسبة مستبطنة لا صريحة وهي محفوظة في الإضافة أيضا بحسب الفرض.
وثالثاً : انَّ هذا الوجه كسابقيه لا يعالج المفارقات المتقدمة طالما لا يبرز فرقاً بين
٢٨١
مفاد الحروف ومفاد الإضافة إلا من حيث المفروغية وعدمها وقد عرفت لزوم اكتشاف الفارق الجوهري المانع عن صحة استعمال الإضافة في أكثر موارد استعمالات حروف الجر.
٤ ـ انَّ حروف الجر وهيئة الإضافة موضوعتان معاً للتخصيص والنسبة التقييديّة الناقصة ـ أي النسبة الخارجية ـ غير أن بينهما فرقاً من حيث مركز التقييد ومصبّه. فالحروف موضوعة لتقييد المفاهيم التركيبيّة التامة أي مفاد النسب التامة. والإضافة موضوعة لتقييد المفاهيم الإفرادية وتحصيصها. لأنَّ النسبة التامة يتصوّر في حقّها الإطلاق والتقييد بصورة مستقلة عن الإطلاق والتقييد في أطرافها ، فالذهن في موارد النسب التامة كما يمكنه أن ينتزع مفهوماً إفراديّاً محصصاً يجعله ظرفاً للنسبة التامة الحكمية كذلك يمكنه ان يبقى المفاهيم في أطراف النسبة التامة على إطلاقها ولكن يقيّد النسبة التامة نفسها. وفائدة ذلك تظهر في الموارد التي لا يمكن فيها تحصيص المفهوم الواقع طرفاً للنسبة التامة كما إذا كان مشخصاً مثلاً غير قابل للتخصيص والتضييق كقولك « زيد في الدار » فان التقييد بالدار راجع إلى النسبة التامة للجملة. وبهذا البيان يندفع النقض بموارد استعمالات الحروف التي لا يمكن تحويلها إلى الإضافة فانَّ مركز التحصيص والتضييق في تلك الموارد ليس هو الذات الواقعة موضوعاً لكي تضاف إلى المجرور بالحرف وانَّما مركزه هو النسبة التامة كما عرفت.
وما ذكر في هذا الوجه من وضع الإضافة للنسبة الناقصة التقييدية الطارئة على المفاهيم الإفرادية وإن كان صحيحاً إلا أنَّ تعيين معنى الحروف في تقييد مفاد النسب التامة ممَّا لا يمكن المساعدة عليه.
وذلك. أولا : لرجوع التقييد بالحرف في كثير من الأحيان إلى غير النسب التامة كما في موارد تعلّقها بالمصادر والأوصاف والاشتقاقيّة وهي لا تتضمن نسبة تامة. ودعوى : إمكان اقتناص مفاد تام في تلك الموارد باعتبار أنَّ الأوصاف تستبطن الاخبار مدفوعة : مضافاً إلى أنَّه قد لا يكون متعلق الجار والمجرور إلا المصدر وهو حتى لو قيل باشتماله على النسبة لا إشكال في عدم انحلاله إلى اخبار ونسبة تامة مستبطنة. أن الاستلزام المذكور للنسبة التامة لا يختص بالمشتقات بل ثابت في مطلق القيود
٢٨٢
المأخوذة في أطراف نسبة تامة ولو لم تكن مشتقات كما في الإضافة مثلاً فلما ذا لا ترجع إليها الحروف ولا تقيد نسبها التامة المستلزمة؟
وثانياً : وجدانية عدم إمكان تقييد النسب التامة غير المشتملة ـ على مفهوم حدثي بحروف الجرّ ، كما يظهر ذلك من خلال المقارنة وتتبع الأمثلة فاننا عند ما نحكم على ( زيد ) في نسبة تامة بمفهوم جامد كما في قولنا « زيد إنسان أو ابن عمرو » لا نجد مجالاً لإيراد شيء من معاني الحروف لتقيد مفادها لأنَّا لا نجدها صالحة لذلك. ولكن بمجرّد أن نحكم عليه بمفهوم حدثي فنبدل كلمة « إنسان » إلى « قائم » أو أيّ مشتق آخر نجد أنَّه ينفتح المجال واسعاً للتقييد بكثير من معاني حروف الجر الأمر الّذي كان منغلقاً نهائيّاً علينا قبل تبديل المفهوم الجامد بالمشتق. وهذا يوجب القطع بأن الفرق بين حروف الجرّ والإضافة ليس من ناحية الاختلاف بينهما في مركز التقييد من حيث كونه مفهوماً إفراديّاً أو معنىً نسبيّاً تاماً أو ناقصاً بل هناك خصوصية في المعنى الحدثي تقتضي اختصاص حروف الجر بها.
وثالثاً : استحالة تصوير أصل طرو النسبة التقييدية الناقصة على النسبة التامة بناء على تصوراتنا في حقيقة النسبة الناقصة من كونها تحليلية لا واقعية. على ما سوف يأتي البرهان عليه لدى التعرّض إلى النسبة الاستفهامية.
وذلك البرهان أيضا لا يختصّ بفرض كون طرف النسبة الناقصة نسبة تامة بل يتمّ أيضا فيما إذا أريد جعل طرفها النسبة الناقصة نفسها لا الحصة المنتسبة.
وهكذا يتبيّن انَّ هذا الوجه لا يمكن تتميمه حتى إذ افترض أن طرف النسبة في حروف الجر هو النسب الناقصة المستلزمة للمشتقات أو الأفعال.
٥ ـ أن يقال باختصاص حروف الجر للدلالة على تقييد المعاني الحديثة بخلاف الإضافة فانَّها قد تقيد المعاني الجامدة كما في « غلام زيد » وقد تقيد المعاني الحديثة كما في « ضارب زيد ».
وهذا الوجه وإن كان صحيحاً فان الوجدان من خلال تتبع موارد الاستعمالات والمقارنة فيما بينهما بالنحو الّذي تقدّم في مناقشة الوجوه السابقة يحكم باختصاص المعاني الحرفية بتحصيص المعاني الحديثة فقط ولذلك التزم النحاة بضرورة تعلّق
٢٨٣
حروف الجرّ بل مطلق الظرف بفعل أو مشتق مذكور أو مقدّر. إلا أن التمييز بين الحروف والإضافة بهذا المقدار يجعل التفرقة بينهما بهذا النحو كأنه تعبّد لغوي بحت لا يستبطن نكتة فنيّة.
وإلا فلما ذا خصّص حرف الجر بوظيفة التحصيص في المعاني الحديثة فحسب؟
وبالإمكان تفسير هذه النقطة بوجه فني حاصله : انَّ هناك فرقاً أساسيّاً بحسب الإحساس الفطري للإنسان بين المعاني الحديثة والمعاني الذاتيّة من حيث انَّ المعنى الحدثي ليس له تشخّص بذاته كما في المعاني الذاتيّة فانَّ الذوات باعتبار استقلالها في الوجود تكون مستقلة في التشخص أيضا لأنَّ الوجود يساوق التشخص.
وأمَّا الحدث فتشخصه من قبل أطرافه وعلاقته بها فتشخص ضرب زيد عن ضرب عمر إنَّما هو بلحاظ صدور هذا من زيد وذاك عن عمرو أو وقوعه على زيد أو على عمرو أو كونه بالعصا أو باليد وهكذا. والحروف ـ وكذلك الهيئات الاشتقاقية ـ موضوعة لإفادة هذه التشخصات في المعاني الحرفية عن طريق تحديد نوع العلاقة والربط بين الحدث وبين ذلك الطرف فليست حروف الجر كالإضافة أو التوصيف لمجرّد تحصيص المعاني الحدثية ـ وإن كانت تستلزم ذلك ـ بل هي لتشخيص المعنى الحدثي وإبرازه حيث لا يتشخص إلا بمثل ذاك ومن هنا كانت تدلّ على خصوصيات تفصيلية زائدة على أصل الربط والنسبة ومن الواضح انَّ هذا الدور لا موضوع ولا معنى له في المعاني الذاتيّة لكي تدخل الحروف عليها فان الذوات متشخصة بقطع النّظر عن علاقتها بأطرافها ومن هنا كان لا بدَّ في موارد لا يوجد في الكلام ما يدلّ على الحدث كما في قولك « هذا غلام لزيد » إمَّا من تقديره فيكون المعنى هذا غلام كائن لزيد فتكون النسبة التحصيصية مفادة بالتوصيف أو تحويل اسم الذات إلى معنى حدثي بأن يفرض انَّ المقصود من غلام لزيد أنَّه مملوك له.
وبهذا التقرير يتّضح الفرق الفني الدّقيق بين قولك « هذا ضارب زيد » و « هذا ضارب لزيد » رغم التشابه الشديد بينهما الموهم وحدة معنى الإضافة وحرف الجر فيه ، فانَّ « ضارب زيد » لا يدلّ على خصوصية مشخصة للضارب فانَّه مشخص في نفسه ولا لضربه لأنَّ المضاف هو الضارب لا ضربه وانَّما يدلّ على تحصيصه وتضييقه في
٢٨٤
حصّة خاصة منه بينما يدلّ « ضارب لزيد » على خصوصية في الضرب الصادر من الضارب تشخصه من ناحية المفعول ومن يكون عليه الضرب.
وعلى ضوء كلّ ما تقدّم نعرف : انَّ ما ذكره الباحث المذكور من أنَّ حروف الجرّ تقوم بدور الإضافة قد يبرز جانباً من التشابه بين دور حروف الجر والإضافة ولكن هذا لا يفي بتحليل الموقف وانَّما الّذي يفي به تقديم نظرية شاملة للمقارنة بين حروف الجر والإضافة على نحو يبرز جوانب الاتفاق بينهما ويفسر أوجه الاختلاف جميعاً.
تفسير المحقق العراقي للنسبة التامّة والناقصة
وقد اتّضح بما ذكرناه سرّ الفرق بين الجملة التامة والجملة الناقصة والميزان الكلي في تمامية النسبة ونقصانها الراجع إلى واقعيتها في صقع الذهن وتحليلتها ، ولا يلاحظ للمشهور شيء محدد يمكن الحديث عنه بشأن التمييز بين الجملة التامة والناقصة وتفسير الفرق بينهما إلا المحاولة التي أشير إليها في مقالات المحقق العراقي ( قده ) وتوسّع فيها في تقريرات بحثه.
وحاصل المحاولة دعوى : أنَّ هيئة الجملة الناقصة تختلف عن هيئة الجملة التامة في مفادها من وجوه :
الأول : انَّ الهيئة الأولى تحكي عن النسبة الثابتة بينما الثانية تحكي عن إيقاع النسبة.
الثاني : أن المحكي عنه في الجملة التامة هو النسبة بلحاظ وجودها فإذا قال المتكلّم « زيد قائم » حكي عن النسبة الموجودة بين زيد والقيام ، وامَّا الجملة الناقصة فانَّ محكيها هي النسبة بلحاظ نفسها مع قطع النّظر عن وجودها وعدمها في الخارج ، ولهذا يصحّ أن يحكم على الموضوع المتقدّم بها بالنفي.
الثالث : وهو متفرّع على الثاني ، أنَّه كلَّما أخذ القيد في موضوع الحكم الشرعي على نهج النسبة التامة فمقتضاه كونه لوحظ قيداً ووصفاً للموضوع بما هو متحقّق في الخارج ، وكلَّما أخذ القيد فيه على نهج النسبة الناقصة فهو قيد للموضوع بحد ذاته بقطع النّظر عن الوجود والعدم. ومثال الأول : « إذا كان الماء كرّاً اعتصم » ومثال الثاني : « الماء
٢٨٥
الكرّ معتصم » وقد فرع على ذلك ثمرة بلحاظ استصحاب العدم الأزلي.
مناقشة التفسير المذكور
أمَّا الوجه الأول ، فلا محصل له إلا بإرجاعه إلى ما حققناه ، إذ ما المراد بالنسبة الثابتة وبإيقاع النسبة ، فان أريد بإيقاع النسبة إيجادها التصوري في الذهن ومن ثبوتها وجودها التصوّري كذلك فيكون الفرق من باب الفرق بين الإيجاد والوجود وتكون الجملة الناقصة موضوعة لإفادة الوجود والجملة التامة موضوعة لإفادة الإيجاد. فيرد عليه : أن الوجود التصوري والإيجاد التصوري كليهما ليسا دخيلين في مدلول الجملة ، بل مدلولها ذات المعنى في نفسه بلا أخذ الوجود فيه ، فلا بدَّ من تصوير فرق بين ذاتي النسبتين في أنفسهما.
وإن أريد بإيقاع النسبة كونها موجودة في صقع الذهن حقيقة وبالنسبة الثابتة كونها موجودة ضمناً وتحليلاً ، رجع إلى ما حققناه ولم يكن الفرق بالإيقاع والوقوع والإثبات والثبوت بل بالتحليلية والواقعية ، وإلا فمجرّد كون نسبة واقعة أو موقعة أي دخل له في تماميتها في مرحلة المدلول التصوري للكلام بعد فرض كونها نسبة واقعية في صقع الذهن.
أمَّا الوجه الثاني : فيرد عليه : انَّ النسبة التامة كالنسبة الناقصة يمكن ان يرد النفي على مفادها ، فيقال مثلاً : « ما قام زيد » وقوله ان جملة « زيد قائم » تحكي عن النسبة الموجودة بين زيد والقيام إن أريد به أخذ مفهوم الوجود في النسبة فهو واضح البطلان. مضافاً إلى أنَّه كمفهوم يمكن أن يؤخذ قيداً للجملة الناقصة أيضا فيقال : « قيام زيد الموجود » وإن أريد به أخذ واقع الوجود في المدلول بالذات لهيئة الجملة التامة فهو غير صحيح ، لأنَّ الوجود الخارجي لا يعقل أخذه في مدلول اللفظ. على أن للجملة التامة مدلولاً محفوظاً في حالتي الصدق والكذب معاً ، وإن أريد أنَّ المدلول بالذات للجملة التامة يلحظ فانياً في الخارج فنفس الشيء يصحّ في الجملة الناقصة أيضا. فحين تقول « قيام زيد محرم » تلحظ قيام زيد الّذي هو جملة ناقصة بما هو حاك عن الخارج.
نعم ، يمكن أن يعبر عن الوجه بتقريب آخر فيكون منسجماً مع ما هو التحقيق في
٢٨٦
المسألة ، وذلك بأن يقال : انَّ الجملة التامة حيث انَّ مفادها النسبة التصادقية فهي تفترض حتماً كون النّظر التصوري الّذي تحققت النسبة التصادقية في صقعه متجهاً إلى ما وراء هذا الصقع ، إذ لو لا ذلك لا يتعقّل التصادق ولو تصوّراً فتصور النسبة التصادقية بنفسه يعني النّظر ولو تصوّراً إلى ما وراء هذا الصقع. وهذا بخلاف النسبة الناقصة فانَّها لا تقتضي بطبيعتها ذلك. وهذا معنى صحيح مستنتج ممَّا ذكرناه في تحقيق ملاك التمامية والنقصان ، ولا يترتَّب عليه اختلاف الجملتين في كون الناقصة لا تأبى عن ورود النفي عليها وكون التامة تأبى عن ذلك ، لوضوح أن التامة لا تأبى عن ذلك أيضا ـ كما عرفت ـ إذ ليس معنى كون النّظر فيها إلى ما وراء الصقع التصديق بوجود مطابق في الخارج بل مجرّد كون النّظر التصوّري كذلك إذ لا يعقل تصوّر التصادق بما هو نسبة إلا بذلك.
وامَّا الوجه الثالث : فواضح البطلان. لأنَّ النسبة التامة بما هي نسبة تامة لا تختص بما إذا كان موضوعها موجوداً في الخارج ومحمولها ثابتاً لموضوعها بما هو محقق ، فقولنا « الإنسان ممكن » جملة تامة ومحمولها ليس ثابتاً للإنسان بما هو محقق في الخارج بل بما هو ماهية في نفسها ؛ والظهور المدّعى في كلامه إذا تمَّ في مثال الجملة الشرطية للكر فهو من تبعات خصوصية في العبارة لا من تبعات مجرّد التمامية.
الجمل التامة لم توضع لقصد الحكاية
وهكذا تبرهن صحة مدّعى المشهور من أنَّ الجمل التامة موضوعة بإزاء النسب التامة. كما اتّضح انَّ قصد الحكاية خارج عن مدلولها وانَّما تدلّ عليه ظهورات حالية أو سياقية. بل دعوى : وضع الجمل التامة لقصد الحكاية ممَّا لا يمكن المساعدة عليها. وذلك :
أولا : لابتنائه على القول بمسلك التعهد في حقيقة الوضع وافتراض انَّ الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقية وليست تصورية ، وقد تقدّم في بحث الوضع عدم صحّته.
وثانياً : النقض بمثل موارد دخول أداة الاستفهام على الجملة التامة كما في قولك « هل زيد قائم » إذ لا إشكال في أنَّ المستفهم عنه نسبة القيام إلى زيد أي كون زيد
٢٨٧
قائماً لا قصد الحكاية عنها. وقد حاول الأستاذ التخلّص من هذا النقض بافتراض أن أداة الاستفهام أو هيئة الجملة الاستفهامية موضوعة بوضع واحد لإبراز قصد الإنشاء والاستفهام ، فليست استفادة الاستفهام من الجملة الاستفهامية من باب تعدد الدال والمدلول بأن يكون الاستفهام مفاداً بدلالة الأداة والنسبة التامة بالجملة التامة المدخول عليها الأداة حتى يكون نقضاً عليه.
إلا أن هذه المحاولة للتخلّص عن النقض غير تامة أيضا.
فإنَّه أولا : بالإمكان تبديل النقض بما لا يحتمل فيه وحدة الدال والمدلول كما إذا دخل الفعل على الجملة التامة في مثل قولك « أخبرني أن زيداً ميّت » فانَّ المخبر به نفس النسبة لا قصد المخبر الحكاية عنها. والأفعال لا إشكال في كون دلالتها من باب تعدد الدال والمدلول حيث وضعت هيئتها بوضع نوعي مستقل عن وضع المواد التي تدخل عليها.
وثانياً : لو لم تكن استفادة الاستفهام من الجملة الاستفهامية من باب تعدد الدال والمدلول لما صحّ أن يصدق الاستفهام في مقام الجواب بنعم أو ينفي بلا. لأنَّ المدلول الإنشائي غير قابل للتصديق أو للنفي وإنَّما القابل لذلك النسبة التامة المفاد عليها بالجملة التامة في مدخول أداة الاستفهام. اللهم إلا أن يدعى بأن « نعم » أو « لا » في قوة تكرار تلك الجملة التامة واستعمالها في معنى لم تكن مستعملة فيه في سياق الاستفهام وهو النسبة الاخبارية على سبيل الاستخدام ، نظير أن يقول « هل جاءك المولى » بمعنى العبد فيقول « نعم » وهو يريد معنى آخر من المولى غير ما أراده المتكلّم.
إلا انَّ مثل هذه التحميلات واضحة التكلّف والفساد.
٣ ـ الجمل التامة الإنشائية
وامَّا الجمل التامة الإنشائية ، فقد وقع فيها بحث واسع بين الأعلام من خلال مقارنتهم لها بالجمل التامة الخبرية ومحاولة التمييز بين القسمين ، ويمكن تصنيف البحث إلى جهتين : إحداهما : تتصل بنحو علاقة الجملة الإنشائية بالمعنى ودلالتها عليه وأنَّها إيجادية بمعنى كونها موجدة لمعناها باللفظ ، خلافاً لعلاقة الجملة الخبرية بالمعنى ودلالتها
٢٨٨
عليه التي هي إخطار به؟ والجهة الأخرى : تتصل بذات المعنى وتشخيص انَّ ذات المعنى في الجملة الإنشائية هل هو نفس المعنى في الجملة الخبرية أو لا؟
هل المعاني الإنشائية إيجادية؟
امَّا الجهة الأولى ، فهناك اتجاه معروف موروث يفترض كون الجمل الإنشائية موجدة لمعانيها باللفظ ويميّز بين الخبر والإنشاء بأن الأول حاكٍ والثاني موجد لمعناه.
الوجوه المختلفة لتفسير إيجادية الجمل الإنشائية
والإيجادية المدعاة في الجملة الإنشائية تارة : يراد به نفس الإيجادية المدعاة في مداليل سائر الحروف والهيئات ـ على ما تقدّم ـ وهي بهذا المعنى لو صحّت لا تصلح مائزاً بين الجملة الإنشائية والخبرية ، لوضوح أن هيئة الجملة الخبرية تدخل ضمن الحروف والهيئات أيضا ، فإذا تمَّ برهان على أن كلّ ما لا يكون مدلوله معنى مستقلاً في المفهومية والتقرر فلا بدَّ أن يكون إيجاديّاً فهذا يشمل هيئة الجملة الخبرية أيضا وأخرى : يراد بها الإيجادية بنكتة أخرى وبقطع النّظر عن دعوى الإيجادية العامة في الحروف والهيئات ، وعلى الثاني فلها وجوه :
الإيجادية بمعنى التوليد
الأول : انَّ تدعى الإيجادية للجملة الإنشائية بدلاً عن الإخطار بمعنى أن سنخ علاقة اللفظ بالمعنى وتأثيره فيه قد يكون بنحو الإخطار المباشر وإيجاد المعنى تصوراً في ذهن السامع بسبب اللفظ ، وهذا هو الوضع الثابت للكلمات الإفرادية وما يلحق بها ولهيئة الجمل التامة الخبرية ، فانَّها كلّها تؤثر في معانيها بإخطار تلك المعاني. وقد تكون علاقة اللفظ بالمعنى وتأثيره فيه بنحو الإيجاد والتوليد أي انَّ اللفظ يوجد المعنى في الخارج ويكون وجوده هذا سبباً في خطوره في ذهن السامع ، فالخطور في ذهن السامع ليس بسبب اللفظ مباشرة بل بسبب مواجهة المعنى بوجوده الخارجي ، وهذا الوجود الخارجي بسبب اللفظ ، فيدعى أن الجملة الإنشائية من هذا القبيل فهي توجد المعنى
٢٨٩
وفي طول ذلك يتمّ الإخطار ، فحين يقال « صلّ » يوجد بهذه الجملة طلب في الخارج وفي طول ذلك ينتقل ذهن السامع إلى مفهوم الطلب ، إذ ينتزعه من مصداقه الخارجي.
وقد يكون الداعي للذهاب إلى مثل ذلك هو البناء على أن الجملة الإنشائية موضوعة للمفاهيم الاسمية المتعارفة من الطلب والتمنّي والاستفهام والنداء ونحو ذلك. وحيث أنَّه يوجد فرق واضح بين هذه الجمل والأسماء الإفرادية الدالة على هذه المعاني لنقصان هذه الأسماء وتمامية تلك الجمل ، أريد معالجة هذا الفرق بدعوى أن اختلاف جملة « افعل » مثلاً عن اسم الطلب في كونه جملة تامة مع أنَّها موضوعة لنفس المعنى ينشأ من سنخ تأثيرها في مدلولها ، حيث انَّها توجد الطلب باللفظ ، وبذلك كانت جملة تامة يصحّ السكوت عليها لإفادتها لمعنى تصديقي بخلاف كلمة الطلب إذا أطلقت.
ويرد على ذلك : أولا : انَّ هذه الموجديّة إن ادّعي ثبوتها للجملة الإنشائية بقطع النّظر عن وضعها لمعناها فهو واضح البطلان ، لعدم العلاقة الذاتيّة بين اللفظ والمعنى ، وان ادعي ثبوتها بسبب الوضع فهو باطل أيضا بعد أن عرفنا حقيقة الوضع ، وانَّ مرجعه إلى الإشراط والقرن المؤكد وهذا لا يوجب بطبعه إلا التلازم في التصوّر بين اللفظ والمعنى ، فلا يعقل ان يترتّب عليه التلازم أو السببية في الوجود الخارجي.
وثانياً : إن الوجود الخارجي لمعاني الجمل الإنشائية كثيراً ما يكون محفوظاً في المرتبة السابقة على الكلام فكيف يعقل دعوى حصوله بالإنشاء وذلك كما في موارد التمنّي والترجّي والاستفهام ، لقيام مصاديق هذه المعاني بالنفس في المرتبة السابقة. فإن أريد الموجدية الموجدية لهذه المصاديق فهو واضح البطلان ، وإن أريد بالموجدية نحو آخر من الوجود رجع إلى الوجود الذهني وكان من باب الإخطار ، إذ ليس للماهية حقيقة إلا الوجود الخارجي أو الوجود الذهني فان قيل : هناك نحو ثالث من الوجود وهو الوجود الإنشائيّ فالجملة الإنشائية موجدة للتمنّي مثلاً بوجوده الإنشائيّ لا الخارجي ولا الذهني. قلنا : الوجود الإنشائي إن أريد به الوجود الاعتباري للشيء فهو متقوم بالاعتبار ولا يمكن أن يتحقق بمجرّد اللفظ ، مع أن استعمال جملة التمنّي والترجّي
٢٩٠
والاستفهام لا يحتاج إلى ضمّ أيّ اعتبار. وإن أريد به الوجود الحاصل بالجملة الإنشائية ؛ فهذا عود إلى ما يراد تحليله فإنَّنا بصدد معرفة حقيقة هذا الوجود.
ولعلَّ الّذي ساعد على توهّم الإيجادية بالمعنى المذكور ما يرى من ترتّب مصداق المعنى على الجملة الإنشائية أحياناً ، كما في « افعل » حيث يحصل بسببها طلب لم يكن ثابتاً قبل ذلك. إلا أن هذه الموجدية في طول إخطار الجملة لمعناها ، بل في طول مدلولها التصديقي أيضا وليست بدلاً عن الإخطار كما يراد ادعاؤه في هذا الوجه. وستعرف ذلك مفصلاً عند التكلّم في الوجه الثالث.
الإيجادية بمعنى عدم قصد الحكاية
الثاني : أن يراد إيجادية الجملة الإنشائية في عرض الإخطار ، فالجملة الإنشائية تخطر معناها في ذهن السامع على حدّ ما يقع في سائر الجمل والكلمات غير أن الجملة الإنشائية تختلف عن الجملة الخبرية من زاوية المتكلّم في أنَّ المتكلّم يتمحّض قصده من الجملة الإنشائية في تحقيق وجود تنزيلي للمعنى باللفظ فحينما يقول « بعت » إنشاءً أو « يعيد » إنشاءً يقصد إيجاد النسبة تنزيلاً باللفظ على أساس أن اللفظ وجود تنزيلي للمعنى ، وهذا لا ينافي أن يقصد إخطار المعنى تصوّراً في ذهن السامع وأن يكون اللفظ موجباً لهذا الإخطار ، وإنَّما المهم انَّه ليس قاصداً للحكاية عن وقوع النسبة خارجاً ، وامَّا في الجملة الخبرية فهو إضافة إلى ما ذكر يقصد الحكاية ، فالنسبة بين محتوى الجملة الإنشائية ومحتوى الجملة الخبرية نسبة الأقل إلى الأكثر على ما أفاده المحقق الأصفهاني ( قده ).
والتحقيق : أن الإنشاء أو الجملة الإنشائية ، تارة : تقارن بالجملة الخبرية في مرحلة المدلول الجدّي والتصديقي ، وأخرى : تقارن بها في مرحلة المراد الاستعمالي والمدلول الوضعي. امَّا في المرحلة الأولى ، فلا شك في أنَّه كما تزيد الجملة الخبرية على قصد الإيجاد التنزيلي للنسبة باللفظ ـ لو سلّمناه ـ بقصد الحكاية الّذي هو المدلول الجدّي لها ، كذلك تزيد الجملة الإنشائية على القصد المذكور بما هو مدلول جدّي لها من التمنّي النفسانيّ أو الإرادة أو طلب الفهم وغير ذلك من المداليل التصديقية للجملة الإنشائية
٢٩١
ولكن الحديث عن مرحلة المدلول الجدّي أجنبي عن محل الكلام ، لأنَّ المقصود في المقام الكشف عن الفارق بين الجملتين في مرحلة المدلول الوضعي والمراد الاستعمالي ، وذلك لوضوح أن الجملة الإنشائية والخبرية حتى في موارد استعمالها هزلاً وتجرّد هما عن المدلول الجدّي معاً يبقى فارق بينهما لا بدَّ من تفسيره ، فهناك فرق بين أن تقول « بعت داري » في مقام الإنشاء هزلاً أو تقول « بعت داري » في مقام الاخبار هزلاً ، وهذا يعني انَّ الفارق في مرحلة المراد الاستعمالي نفسه.
وامَّا في المرحلة الثانية ، فقصد الحكاية أجنبيّ عن المدلول الاستعمالي للجملة الخبريّة ، فإنَّ مدلولها الاستعمالي ليس إلا إخطار النسبة تصوّراً ، لما تقدّم من انَّ الدلالة الوضعيّة تصورية ، وهذا الإخطار بنفسه محفوظ في الجملة الإنشائية أيضا ، لوضوح انَّ المنشئ يقصد بقوله « بعت » أن يخطر في ذهن المشتري معنى. فلم يتحدد أي فرق بين الجملتين على هذا الأساس.