الفصل الخامس
اشتراك علاقتين في طرف
إذا افترضنا علاقتين وضعيتين ، فقد تكونان متباينتين لفظا ومعنى ، وهذا لا كلام فيه. وقد تكونان مشتركتين في لفظ واحد بأن يكون لفظ واحد موضوعا لمعنيين ، أو في معنى واحد بأن يكون لفظان موضعين لمعنى واحد ، وتسمى الحالة الأولى بالاشتراك والحالة الثانية بالترادف.
والكلام هنا يقع في ثلاث جهات :
الأولى : في الضرورة اللغوية للاشتراك. وهذا البحث يختص في كلامهم بالاشتراك بالمعنى المقابل للترادف ، إذ لم يتوهم كون الترادف ضروريا. وسيأتي إمكان دعوى كونهما معا ضروريين بمعنى من المعاني.
الثانية : في منافاته الحكمة الوضع. وهذا البحث يختص أيضا بالاشتراك ولا يشمل الترادف ، لعدم توهم منافاته للحكمة المذكورة.
الثالثة : في إمكانه النظريّ ذات. وهذا بحث يشمل الاشتراك والترادف معا ، إذ يتوهم عدم الإمكان النظريّ في ذاك تارة وفي هذا أخرى.
مدى الحاجة إلى الاشتراك
أما الحديث في الجهة الأولى ، فقد يدعى ضرورة الاشتراك ببرهان كثرة المعاني وعدم تناهيها مع كون الألفاظ محدودة ومتناهية فلو فرض اختصاص كل لفظ بمعنى واحد لزم تطابق المتناهي مع اللامتناهي وهو محال.
١١١
والتحقيق : انه إذا أريد بضرورة الاشتراك ما يعم الاشتراك الناتج من الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، نظرا إلى أنه يؤدي إلى كون اللفظ الواحد مشتركا بين معنيين أو معان ولو بوضع واحد ، فالصحيح هو ان الاشتراك بهذا المعنى ضروري ، إذ بدونه لا بد أن نفترض لكل ربط ونسبة لفظا دالا عليه ولما كان كل ربط مغايرا ذاتا وماهية لأي ربط آخر ولا جامع بين الربطين ولو كان طرفا الربطين فردين من جامع واحد ـ على ما يأتي في المعاني الحرفية ـ فهناك إذن أنحاء من الربط غير متناهية لعدم تناهي الأفراد والجزئيات ، ولا يتوفر من الألفاظ ما يوازيها عددا ليكون لكل معنى لفظ يختص به.
وإن أريد بضرورة الاشتراك ضرورة تعدد وضع لفظ واحد لمعنيين أو أكثر من أجل عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ ـ كما هو المقصود بالاشتراك عند إطلاقه عادة ـ فيرد عليه :
أولا : ان جعل لفظ يدل على كل معنى من المعاني الاسمية أو الحرفية لا ينحصر طريقه بالاشتراك بهذا المعنى المساوق لتعدد الوضع بعدد الدلالات الوضعيّة ، بل يمكن أن يحصل عن طريق الوضع العام والموضوع له الخاصّ فالاشتراك بالمعنى المساوق لتعدد الوضع غير ضروري ولو سلمنا عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ.
وثانيا : ان الحاجة إلى الاستعمال في حياة الإنسان لا يمكن أن تتعلق إلا بمقدار محدد من تلك المعاني غير المتناهية لأنها فرع تصور الإنسان للمعنى لوضوح ان ما لا يتصور فعلا لا يحتاج إلى استعمال اللفظ فيه. فالأوضاع إذن لا يمكن أن تزيد عن المجموع الكلي للمعاني التي تصورها الإنسان في حياته ، وحيث ان هذا المجموع محدود ومتناه فلا يتطلب إلا أوضاعا متناهية وبالتالي ألفاظا متناهية. ولا فرق في ذلك بين أن يقال ان الواضع هو نفس المستعمل أو هو الله سبحانه وتعالى ، فان الّذي يدعو إلى الوضع دائما إنما هو حاجة المستعمل والحاجة إلى الاستعمال في معنى فرع تصوره ، ولما كان التصور محدودا كان الوضع محدودا لا محالة.
وثالثا : ان الاشتراك إذا كان قد وقع ضرورة بسبب زيادة المعاني على الألفاظ لكان من الطبيعي ان لا نجد لفظا مهملا مع ان الألفاظ المهملة في اللغة كثيرة
١١٢
وقد لا تقل عن عدد الألفاظ المشتركة ، وهذا يعني ان الاشتراك لم يحصل نتيجة استيفاء الألفاظ وزيادة المعاني عليها لعدم تناهيها ، فمثلا جل الكلمات اللغوية في سائر اللغات تعتبر مهملة في اللغة العربية فكيف يصح أن نفسر الاشتراك فيها على أساس الضرورة المذكورة.
ورابعا : ان تفهيم المعنى الكلي لا يتوقف دائما على أن يوضع له لفظ خاص لكي يدل عليه بالخصوص ، بل قد يحصل تفهيمية على نحو تعدد الدال والمدلول أو بنحو الإشارية ـ كما في تفهيم الجزئيات ـ فإذا أردت أن تفهم معنى « البغل » فقد لا تستعمل كلمة « البغل » بل تقول الكائن المتولد من حصان وحمار ، وبذلك تحصل نتيجة الوضع بدون التزام بأوضاع متعددة بعدد المعاني ليتوهم ضرورة الاشتراك. بل قد يحصل تفهيم جملة من المعاني بلا استعانة بدلالة وضعية أصلا ، كما في موارد الإطلاق الإيجادي والإحضار الحسي للمعنى ، كما في قولك زيد اسم ـ على ما يأتي من أن الإطلاق الإيجادي لا يتوقف على الوضع أصلا ـ.
هذا ، وأما إذا قطع النّظر عن هذه الاعتراضات ، فلا يمكن الاعتراض تارة : بأن المعاني الكلية متناهية فلا تزيد على عدد الألفاظ والوضع إنما يكون للمعاني الكلية (١) وأخرى : بأن التركيبات اللفظية غير متناهية فلا تقل عن عدد المعاني (٢) وثالثة : بأنه يمكن التعويض عن الاشتراك بالاستعمال المجازي (٣).
أما الأول ، فلأنه يرد عليه : أنا لو أدخلنا في الحساب المعاني الاعتبارية فلا برهان على تناهي المعاني الكلية ، بل البرهان على الخلاف ، إذ المعاني منها ما يكون بسيطا كمفهوم الوجود والعدم ، ومنها ما يكون مركبا حقيقيا كمفهوم الإنسان ، ومنها ما يكون مركبا اعتباريا كمفهوم الدار والمدينة فلو فرض تناهي القسمين الأولين فالقسم الثالث لا تناهي له لكونه منتزعا من ملاحظة مجموع أمرين أو أكثر بعد إلباسهما ثوب الوحدة الاعتبارية ، وهذا الانتزاع أمر غير قابل للتناهي إذ أي مفهوم اعتباري يفترض
__________________
(١) كفاية الأصول ج ١ ص ٥٣ ( ط ـ مشكيني )
(٢) محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٢١١
(٣) كفاية الأصول ج ١ ص ٥٤ ( ط ـ مشكيني )
١١٣
يمكن أن ينتزع منه ومن مفهوم آخر عنوان اعتباري آخر وهكذا ..
أضف إلى ذلك : أن الالتزام بعدم تناهي مجموع المعاني الكلية والجزئية كاف لإثبات مدعى القائل بضرورة الاشتراك ولو بلحاظ المعاني الجزئية التي لا إشكال أيضا في تعلق الأغراض الاستعمالية بها كثيرا ما لم نرجع إلى جواب آخر عن الشبهة.
وأما الثاني ، فيرد عليه : أن الألفاظ مهما كان لها صور فانها تظل دائما أقل من المعاني ببرهان أن أي تركيب لفظي كما يحقق لفظا جديدا كذلك يحقق معنى جديدا قد يراد التعبير عنه نفسه كما هو واضح.
وأما الثالث ، فيرد عليه : بأن المعاني الحقيقة اما أن تكون غير متناهية أو متناهية ، وعلى الأول يجري برهان الاشتراك ، لزيادتها حينئذ على الألفاظ. وعلى الثاني يلزم ان تكون المعاني الأخرى كلها مجازية وهي غير متناهية ، وهذا يفترض علاقات غير متناهية بينها وبين المعاني الحقيقية وكل علاقة تمثل حيثية في المعنى الحقيقي ويؤدي ذلك إلى اشتمال المعاني الحقيقة على حيثيات غير متناهية وكل منها بحاجة إلى لفظ دال عليه فيعود المحذور.
وإن أريد بضرورة الاشتراك كونه ظاهرة طبيعية في اللغة فهذا أمر بالإمكان تفسيره وقبوله إلى حد ما ، لأن كل لغة لا تمثل مجتمعا واحدا بل مجتمعات صغيرة بعدد الوحدات البدائية التي تنتمي إليها من قبائل ومجاميع والحاجات اللغوية في كل واحد منها تتجدد وتزداد باستمرار وتتخذ كل مجموعة طريقة في إشباع تلك الحاجات ، ولما كانت مقررات اللغة المشتركة بين تلك القبائل محدودة نسبيا وكانت الصلة اللغوية الكاملة مفقودة بين كل مجموعة والأخرى كان من الطبيعي بحساب الاحتمالات أن يقع اختيار هذه المجموعة على لفظ معين للدلالة على معنى ويقع اختيار المجموعة الأخرى على نفس اللفظ للدلالة على معنى اخر ، وعند ما انصهرت هذه المجاميع في لغة واحدة واندمجت حياة بعضهم ببعض ظهر الاشتراك بسبب ذلك.
والشيء نفسه يمكن أن نقوله بالنسبة إلى الترادف ، فان حساب الاحتمالات يقتضي أيضا استبعاد أن يتطابق عفويا اختيار مجموعتين منتميتين إلى إطار لغوي
١١٤
واحد بصورة مستمرة ، بل قد يجعل هؤلاء لفظا دالا على معنى ويجعل أولئك لفظا آخر لنفس المعنى.
ولكن ، هذا لا يعني حصر الاشتراك ضمن هذا النطاق بل يمكن افتراضه من بداية الأمر على صعيد لغوي واحد ، فكما يتصور الاشتراك في الأعلام الشخصية في بيئة واحدة وعائلة واحدة كذلك لا مانع من افتراضه على هذا النحو في أسماء الأجناس ونحوها.
الاشتراك لا ينافي حكمة الوضع
وأما الحديث في الجهة الثانية ـ فقد يدعى ـ على عكس ما ادعي في الجهة السابقة ـ امتناع الاشتراك في اللغة لكونه لغوا ، إذا الحكمة والغرض المطلوب من الأوضاع اللغوية إفهام المعنى الموضوع بإزائه اللفظ بذلك اللفظ وهذا فرع أن يكون ما وضع بإزائه اللفظ متعينا لا مرددا بين معان متعددة كما في المشترك.
وهذه النكتة لا تجري في الترادف ، لوضوح ان تكثر الألفاظ الدالة على معنى واحد لا يدخل إجمالا على دلالة أي واحد منها.
إلا أن هذه الدعوى غير صحيحة ، فانه يكفي في إشباع الحاجة اللغوية من الوضع أن يكون جزء العلة في افهام المعنى الموضوع له. وإن شئت قلت : ان الإفهام الإجمالي بمعنى صلاحية اللفظ لأن يكون دالا على المعنى الحاصل من الوضع محفوظ في المشترك أيضا ، وإن كان يحتاج في تعيين إرادة أحد المعاني الموضوع بإزائها اللفظ إلى قرينة معينة.
هذا ، إذا لم نفترض تعدد الواضعين للألفاظ المشتركة حسب تعدد القبائل أو المجاميع اللغوية البدائية المؤدي إلى تحقق اقترانات عديدة للفظ معين مع معان عديدة وإلا فالشبهة أوضح اندفاعا.
١١٥
مدى إمكان اشتراك علاقتين في طرف
وأما الجهة الثالثة ، فلا شك في إمكان الاشتراك والترادف نظريا بناء على المسلك المختار في تفسير العلاقة الوضعيّة ، وكذلك بناء على تفسيرها بالاعتبار. واما بناء على مسلك التعهد فقد يصعب تصوير الاشتراك أو الترادف ثبوتا ، وذلك : لأن التعهد إذا كان بصيغة انه كلما جاء باللفظ قصد معناه الموضوع له بطل الاشتراك للزوم فعلية كلا التعهدين في مورد ذكر المشترك لوقوعه شرطا في التعهدين معا ، وإذا كان بصيغة انه كلما قصد المعنى جاء باللفظ الدال عليه بطل الترادف للزوم فعلية كلا التعهدين في مورد إرادة قصد المعنى المستوجبة للإتيان بكلا اللفظين معا.
ويمكن لأصحاب هذا المسلك التغلب على هذا الإشكال إما بافتراض ان المتعهد به هو قصد أحد المعنيين أو إتيان أحد اللفظين ، وإما بتقييد كل من التعهدين بعدم قصد المعنى المأخوذ في التعهد الآخر ، أو عدم الإتيان باللفظ المأخوذ فيه ، أو غير ذلك من أنحاء التقييد المتقدمة في شرح ذلك المسلك.
١١٦
٢ ـ نظرية الدلالة على المعنى المجازي
الدلالة على المعنى المجازي هي دلالة اللفظ على معنى لم يكن مدلولا له بحسب القانون اللغوي الأولي العام لعلاقة بينه وبين ما هو مدلوله اللغوية الأولي. ومن هنا تعتبر هذه الدلالة ثانوية ومتفرعة على عدم إرادة المعنى الحقيقي.
والحديث عن المجاز يقع تارة : في تشخيص حقيقته من حيث كونه مدلولا للفظ أو لمرحلة عقلية وراء مرحلة مدلول اللفظ. وأخرى : في مدى حاجة الاستعمال المجازي إلى الوضع.
١ ـ حقيقة المدلول المجازي
والبحث من الناحية الأولى هو البحث المعروف الّذي أثارته مدرسة السكاكي في باب المجاز ، حيث أنكرت هذه المدرسة أن يكون المجاز استعمالا للفظ في غير ما وضع له من المعنى بحسب القانون اللغوي بل اعتبرته من باب الاستعمال في المعنى الحقيقي وإنما العناية والتجوز في تطبيق ذلك المعنى على غير واقعه في الخارج ادعاء ، ومن هنا كان المدلول المجازي بناء على هذا الاتجاه مدلولا عقليا ادعائيا. ولكن جمهور المشهور على أن المجاز مدلول لفظي مباشر لأنه من استعمال اللفظ في ذلك المعنى على حد استعماله
١١٧
في المعنى الحقيقي إلا أنه لا بد في افهامه من الاعتماد على قرينة دالة عليه.
والتحقيق : أن الادعاء المفترض لتفسير الاستعمال المجازي من قبل السكاكي إما أن يكون مرجعه إلى ادعاء ان المفهوم الّذي لم يوضع له اللفظ « المعنى المجازي » هو نفس المفهوم الّذي وضع له اللفظ بالحمل الأولي فيعتبر ويدعي ان مفهوم « الرّجل الشجاع » هو نفس مفهوم « الحيوان المفترس » ويستعمل اللفظ فيه على أساس هذه العينية المدعاة ، أو يرجع إلى ادعاء أن غير ما وضع له اللفظ ـ سواء كان مفهوما كليا أو فردا خارجيا كهذا الرّجل الشجاع ـ مصداق لما وضع له اللفظ على نحو يحمل عليه المعنى الموضوع له بالحمل الشائع ، فيستعمل اللفظ في المعنى الموضوع له ولكنه يطبق على فرد عنائي ادعائي.
أما الأول ، فلا يحقق مقصود السكاكي ـ وهو كون التجوز تصرفا في أمر عقلي بحث لا في اللفظ ـ بل هو يعني استعمال اللفظ في غير ما وضع له بادعاء انه نفس الموضوع له ، فالعناية مأخوذة إذن في مرحلة الاستعمال ويرد عليه : ان هذه العناية لا دخل لها في تصحيح الاستعمال وتكوين الدلالة على المعنى المجازي ، لأن المعنى المدعى بالعناية انه الموضوع له إن كانت له علاقة ومشابهة مع المعنى الحقيقي كفى ذلك في تصحيح الاستعمال وتكوين الدلالة بدون حاجة إلى العناية المذكورة ـ على ما يأتي ـ وإن لم تكن بين المعنيين علاقة فلا تحصل الدلالة ولا يصح الاستعمال بمجرد الادعاء المذكور ولا يتوهم : ان الادعاء المذكور يوجب توسعة العلقة الوضعيّة حكما ، كما هو الحال في سائر ألسنة الادعاء والتنزيل ، فان الادعاء المذكور إن رجع إلى وضع جديد فهو خلف لأن لازمه كون اللفظ مستعملا فيما وضع له ؛ وإلا فلا يمكن أن تسري أحكام العلقة الوضعيّة من الدلالة وصحة الاستعمال بمجرد الادعاء والتنزيل لأنها آثار واقعية تكوينية للعلقة الوضعيّة ، وبالادعاء والتنزيل إنما تسري الآثار المجعولة من قبل ذلك المنزل لا ما كان أثرا تكوينيا.
وأما الثاني ، فهو يفي بمقصد السكاكي ، لأنه يفترض عدم التصرف في مرحلة الاستعمال وإنما التصرف في مرحلة تطبيق المراد الاستعمالي على مصداقه. وهذا يرجع في الحقيقة إلى أن العناية في تطبيق المراد الاستعمالي على المراد الجدي ، فحين تقول
١١٨
« جئني بأسد » يكون مرادك الاستعمالي المطالبة بحيوان مفترس ومرادك الجدي المطالبة برجل شجاع ، والعناية التي يدعى فيها كون الرّجل الشجاع حيوانا مفترسا بالحمل الشائع هي التي تربط عرفا ذاك المراد الاستعمالي بهذا المراد الجدي على الرغم من تغايرهما.
ويرد عليه :
أولا : ان التجوز لا ينحصر بموارد احتواء الكلام على المراد الجدي بل يتصور في موارد الهزل أيضا وتمحض الكلام في المراد الاستعمالي ؛ فان كان المجاز مرادا هنا في مرحلة المدلول الاستعمالي فهو خلف المدعى ، وإن كان مرادا في مرحلة المدلول الجدي فهو خلف هزلية الكلام.
وثانيا : ان افتراض كون هذا الفرد فردا من المعنى الحقيقي انما يناسب كلية المعنى الحقيقي ولا يتأتى حيث يكون جزئيا ؛ فلو قيل بأن لفظتي الشمس والقمر مثلا موضوعتان لهذين النيرين الخاصّين فكيف نفسر على أساس العناية المذكورة قولنا « هؤلاء أقمار أو شموس » مع أن المدلول جزئي ، وهذا بخلافه على المسلك الآخر فانه لا مانع بموجبة من أن يكون المعنى الحقيقي جزئيا والمعنى المجازي كليا.
هذا ، مضافا : إلى الوجدان القاضي بأن إسباغ صفات المعنى الحقيقي ادعاء على شيء قد يؤدي عكس المقصود للمتجوز ، فمن يريد أن يبالغ في جمال يوسف فيقول انه « بدل » ليس في ذهنه إطلاقا ادعاء ان يوسف مستدير كالبدر ، وإلا لفقد جماله كإنسان ، لأن صفات البدر انما تكون سببا للجمال في البدر بالذات لا في شيء آخر.
وعلى هذا الأساس ، فما ذكره السكاكي لا يصلح أن يكون تفسيرا عاما للتجوز.
والصحيح ما عليه المشهور من أن الأصل في التجوز كونه راجعا إلى المدلول الاستعمالي ومرحلة اللفظ.
وقد يتوهم : ان ذلك يؤدي إلى أن يكون قولنا « زيد أسد » مرادفا لقولنا « زيد
١١٩
رجل شجاع » مع ان الوجدان قاض بأن استفادة معنى الشجاعة من الأول أبلغ وآكد ، وهذا يكشف لا محالة عن أقربية تفسير السكاكي لهذا المجاز.
ويندفع ذلك : بأن كون ذلك أبلغ وآكد محفوظ حتى على مقالة المشهور ، لأن كلمة « أسد » ليست مرادفة في مدلولها الاستعمالي المجازي لكلمة الرّجل الشجاع بل تزيد عليه غالبا بملاحظة الرّجل الشجاع بما هو شبيه بالحيوان المفترس ومناظر له في الشجاعة فكأن الكلام يستبطن تشبيها أيضا.
٢ ـ مدى حاجة المجاز إلى الوضع
بعد افتراض ان التجوز يرجع إلى مرحلة الاستعمال يقع الكلام في نقاط.
منشأ الدلالة على المجاز
النقطة الأولى : انه من أين نشأت دلالة اللفظ على المعنى المجازي مع عدم الوضع ومعلومية ان الدلالة اللفظية التصورية ليست ذاتية.
وقد يتوهم الجواب على هذا التساؤل : بأن الدلالة نشأت من القرينة على المجاز. وهذا التوهم غير صحيح ، لأننا نتكلم فيما يناظر الدلالة الوضعيّة وهو الدلالة التصورية للفظ على المعنى المجازي وهذه الدلالة بوجودها الشأني ليست مستندة إلى القرينة وذلك.
أولا : لأن اللفظ بحد ذاته فيه صلاحية إخطار المعنى المجازي وإن كان بدرجة أضعف من اقتضائه لإخطار المعنى الحقيقي ، ولو لا ذلك لما صح استعمال اللفظ في المعنى المجازي بلا قرينة.
وثانيا : ان القرينة غالبا لا تصلح لإخطار المعنى المجازي وإنما تصلح لصرف الذهن عن المعنى الحقيقي ، ففي قولنا « أسد يرمي » ليس في كلمة « يرمي » دلالة تصورية ولو التزاما على الرّجل الشجاع ، بل فيها دلالة على إنسانية الأسد فقط بقرينة الرماية واما كونه رجلا شجاعا فهو بدلالة نفس لفظ « الأسد » وعليه فلا بد من تفسير لدلالة اللفظ على المعنى المجازي.
١٢٠
وهنا تفسيران رئيسيان : أحدهما : تفسيره على أساس نفس الوضع الأول للفظ بإزاء معناه الحقيقي. والآخر : تفسيره على أساس وضع آخر.
أما التفسير الأول ، فتوضيحه : أن اللفظ يكتسب بسبب وضعه للمعنى الحقيقي صلاحية الدلالة على كل معنى مقترن بالمعنى الحقيقي اقترانا خاصا غير أنها صلاحية بدرجة أضعف لأنها تقوم على أساس مجموع اقترانين ومع اقتران اللفظ بالقرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي تصبح هذه الصلاحية فعلية ويكون اللفظ دالا فعلا على المعنى المجازي ، فالدلالة اللفظية التصورية على المعنى المجازي كالدلالة اللفظية التصورية على المعنى الحقيقي كلتاهما تستندان إلى الوضع ولكن على اختلاف في الشدة والضعف.
وهذه الدلالة على المعنى المجازي من لوازم الوضع الحقيقي وليست بحاجة إلى وضع جديد ما دام قانون الاقتران كما يعمل ضمن الاقتران البسيط كذلك يعمل ضمن الاقترانات المركبة ، ومحاولة تحصيل هذه الدلالة بوضع جديد محاولة لتحصيل الحاصل. وليس معنى ما ذكرناه من استناد الدلالة على المعنى المجازي إلى مجموع اقترانين ان ذهن السامع لا بد لكي ينتقل إلى المعنى المجازي أن ينتقل أولا من اللفظ إلى المعنى الحقيقي ثم إلى المعنى المجازي ، وذلك : لأن اللفظ بعد قرنه بالمعنى الحقيقي يؤدي نفس دوره في إثارة ما يشيره المعنى الحقيقي فيصبح تصور اللفظ صالحا لإثارة المعنى المجازي في الذهن بسبب قرنه بما هو صالح لهذه الإثارة ، غاية الأمر : أن صلاحية اللفظ لذلك بدرجة أضعف من صلاحيته لإثارة نفس المعنى الحقيقي ، لأنها مكتسبة بالواسطة. فكون اللفظ مثيرا للمعنى الحقيقي حيثية تعليلية لإثارته للمعنى المجازي لا تقييدية على نحو لا بد أن يصل ذهن السامع إلى المجاز مارا بالمعنى الحقيقي.
ونلاحظ على هذا الضوء : أن طريقتنا هذه في تفسير دلالة اللفظ على المعنى المجازي وكيفية نشوئها على أساس مجموع اقترانين تفسر الطولية بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، وكون دلالة اللفظ على المعنى الحقيقي أقوى ، وكون حمله على الثاني في طول تعذر الأول.
وأما التفسير الثاني. فأول ما يواجهه مشكلة المساواة بين المعنى الحقيقي والمجازي في
١٢١
دلالة اللفظ وحمل الكلام عليه ما دام كل منهما معنى وضعيا للفظ ، فلا بد من تصوير الوضع على نحو يحافظ فيه على الطولية بين المعنيين وأولوية المعنى الحقيقي ، وذلك بأحد وجوه :
الأول : أن يقال : بأن اللفظ موضوع للمعنى المجازي بوضع نوعي على نحو لوحظت فيه الأوضاع الشخصية بأن قيل مثلا ان لفظ الأسد موضوع لما يشابه معناه الموضوع له ، وبذلك تحفظ الطولية.
ويرد عليه : أن مجرد كون الوضع الثاني نوعيا وأخذ المشابهة عنوانا مشيرا إلى المعاني المجازية ، أو حيثيته تقييدية فيها لا يكفي لتفسير الطولية بين العلقتين الوضعيّتين على نحو لا تؤثر إحداهما إلا في فرض عدم تأثير الأخرى.
الثاني : أن يقال : بأن الوضع للمعنى المجازي مقيد بفرض وجود القرينة على المعنى المجازي بأخذها قيدا في الوضع أو اللفظ الموضوع ، فمع عدم القرينة يقدم المعنى الحقيقي إذ لا وضع للمعنى المجازي في هذه الحالة. ولا يتوهم : كون هذا الوضع لغوا ما دام مقيدا بوجود القرينة على المعنى المجازي لأنها تكفي عنه دائما. لاندفاع هذا التوهم : بأن المقصود بالوضع تصحيح دلالة نفس اللفظ على معناه المجازي ، والقرينة إنما تفهم المعنى المجازي على أفضل تقدير ولا تصح دلالة اللفظ عليه.
ويرد عليه : ان لازم تقييد الوضع المصحح للدلالة على المعنى المجازي بنصب القرينة عدم صحة الاستعمال المجازي في حالات عدم نصب القرينة لعدم الدلالة وانتفاء العلاقة في هذه الحالة بحسب الفرض. مع أنه صحيح بلا إشكال بلحاظ شأنية الدلالة في اللفظ ، وهذا يكشف عن أن المصحح للدلالة وبالتالي للاستعمال ليس هو الوضع المقيد المذكور.
الوجه الثالث : أن يقال : بتصوير وضع مقيد للمعنى المجازي غير ان القيد هو مجرد نصب القرينة الصارفة.
ويرد عليه : نفس المحذور أيضا ، لأن الدلالة الشأنية للفظ على المعنى المجازي وبالتالي صحة استعمال اللفظ فيه ثابتة في موارد عدم نصب القرينة الصارفة أيضا.
الوجه الرابع : أن يفترض كون اللفظ موضوعا للمعنى المجازي بوضع مقيد بعدم
١٢٢
إرادة المعنى الحقيقي بأن تقيد العلقة الوضعيّة المجعولة بهذه الحالة ، ولازم ذلك عدم الحمل على المعنى المجازي إلا في حالة عدم إرادة المعنى الحقيقي وبذلك تثبت الطولية.
ويرد عليه : انا لو تعقلنا تقييد العلقة الوضعيّة على هذا النحو فلا يمكن أن نفسر بذلك أقوائية ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي في مرحلة المدلول التصوري على نحو لو سمعنا اللفظ من شخص غير مريد لمعنى أصلا لانسبق الذهن إلى المعنى الحقيقي بدرجة أكبر ، فان دلالة اللفظ على كل من المعنى الحقيقي والمجازي إذا كانت بسبب الوضع فلما ذا يتبادر المعنى الحقيقي في مقابل المعنى المجازي تصورا. فلا بد إذن من تفسير الدلالتين معا على أساس وضع واحد وهو وضع اللفظ للمعنى الحقيقي ، ولما كان المعنى الحقيقي أحق بهذا الوضع من المعنى المجازي كان نصيبه من الدلالة أكبر على ما شرحناه.
الوجه الخامس : أن يقال : بتصوير وضعين أحدهما للمعنى الحقيقي وهو وضع مطلق تعييني. والآخر للمعنى المجازي منوط بالجامع بين نصب القرينة وإرادة معنى على نحو الإجمال من اللفظ ، ويتعين حينئذ تقديم المعنى الحقيقي في حالة عدم القرينة ونفي الإجمال ولو بالأصل وظهور الحال.
ولا يرد على هذا التقريب : النقض بصحة الاستعمال المجازي بلا قرينة ، لأن الاستعمال كذلك مساوق للإجمال ومعه يكون الوضع للمعنى المجازي فعليا. ولا يرد عليه : لزوم فعليه كلا الوضعين في حالة إطلاق اللفظ من غير المريد ، لأن الوضع الثاني غير متحقق في هذه الحالة لعدم القرينة وعدم الإجمال فيتعين انسباق المعنى الحقيقي.
ولكن هذا انما ينسجم على تقدير التعامل مع العلقة الوضعيّة كأمر اعتباري قابل للتقيد بحال دون حال ، وهو غير صحيح على ما مر تحقيقه.