رابعاً :
أن المِلاك الذي شُرِّعت لأجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص من هلاك الذنب وبوار المعصية ، لكونها وسيلة الفلاح ومقدمة الفوز بالسعادة ، كما يشير إليه قوله تعالى : ( وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النور : 31 .
ومن فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد والركود ، فإن الإنسان لا يستقيم سيره الحيوي إلا بالخوف والرجاء المتعادلين ، حتى يندفع عما يضره وينجذب إلى ما ينفعه ، ولو لا ذلك لهلك .
فقال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ) الزمر : 53 – 54 .
ولا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة وجد في العزيمة والسعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة ، وإذا بدا له ما يخسر عمله ويخيب سعيه ويبطل أمنيته استولى عليه اليأس ، وانسَلَّت به أركان عمله .
وربما انصرف بوجهه عن مسيره آئساً من النجاح ، خائباً من الفوز والفلاح ، والتوبة هي الدواء الوحيد الذي يعالج داءه ، ويحيي به قلبه ، وقد أشرف على الهلكة والردى .
ومن هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء بالمعصية وتحريصاً على ترك الطاعة ، فإن الإنسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثراً دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله ، والانغمار في لُجَج المعاصي والذنوب ، فيدقّ باب كل معصية قاصداً أن يذنب ثم يتوب .
ووجه سقوطه : أن التوبة إنما شرعت مضافاً إلى توقف التحلي بالكرامات على غفران الذنوب للتحفظ على صفة الرجاء وتأثيره حسن أثره .
وأما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الإنسان كل معصية بنية أن يعصي ثم يتوب فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة ، فإنها انقلاع عن المعصية ، ولا انقلاع في هذا الذي يأتي به .
والدليل عليه أنه كان عازماً على ذلك قبل المعصية ومع المعصية وبعد المعصية ، ولا معنى للندامة - أي : التوبة - قبل تحقق الفعل ، بل : مجموع الفعل .
والتوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلاً واحداً مقصود بقصد واحد مكراً وخديعة يخدع بها رب العالمين ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .
خامساً :
أن المعصية وهي الموقف السوء من الإنسان ذو أثر سيئ في حياته لا يتاب منها ولا يرجع عنها إلا مع العلم والإيقان بمساءتها ، ولا ينفك ذلك عن الندم على وقوعها أولاً ، والندم تأثّر خاص باطني من فعل السيئ ويتوقف على استقرار هذا الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع والتوبة ثانياً .
وإلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعاً من آداب التوبة ، كالندم والاستغفار والتلبس بالعمل الصالح والانقلاع عن المعصية ، إلى غير ذلك مما وردت به الأخبار ، وتعرضت له كتب الأخلاق .
سادساً :
أن التوبة وهي الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة والعبودية إنما تتحقق في ظرف الاختيار ، وهو الحياة الدنيا التي هي مستوى الاختيار ، وأما فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح والطلاح والسعادة والشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه ، وقد تقدم ما يتضح به ذلك .
ومن هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس ، فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق الله سبحانه .
وأما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى رضاهم ، فلا يتدارك بها البتة ، لأن الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم ، وعدَّ التعدي إلى أحدهم في شيء من ذلك ظلماً وعدواناً ، وحاشاه أن يسلبهم شيئاً مما جعله لهم من غير جُرم صدَرَ منهم ، فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه ويظلمهم بذلك .
وقد قال عزَّ من قائل : ( إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) يونس : 44 .
إلا أن الإسلام وهو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة وتبعة ماضية متعلقة بالفروع ، كما يدلُّ عليه قوله ( عليه السلام ) : ( الإسْلامُ يَجُبُّ مَا قَبلهُ ) .
وبه تفسر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيئات جميعاً ، كقوله تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وأسْلِمُوا لَهُ ) الزمر : 53 – 54 .
ومن هذا الباب أيضاً توبة من سَنَّ سنة سيئة أو أضلَّ الناس عن سبيل الحق ، وقد وردت أخبار أنَّ عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضلَّ عن الحق ، فإن حقيقة الرجوع لا تتحقق في أمثال هذه الموارد ، لأن العاصي أحدث فيها حدثاً له آثار يبقى ببقائها ، ولا يتمكن من إزالتها كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه وبين ربه عزَّ اسمُه .
سابعاً :
إن التوبة وإن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله تعالى : ( فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ) البقرة : 275 .
على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب بل ظاهر قوله تعالى : ( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا ) الفرقان : 70 - 71 .
وخاصة بملاحظة الآية الثانية أن التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان والعمل الصالح توجب تبدل السيئات حسنات ، إلا أن اتقاء السيئة أفضل من اقترافها ، ثم إمحائها بالتوبة .
فإن الله سبحانه أوضح في كتابه أن المعاصي كيفما كانت إنما تنتهى إلى وساوس شيطانية نوع انتهاء ، ثم عبر عن المخلصين المعصومين عن زلة المعاصي وعثرة السيئات بما لا يعادله كل مدح ورد في غيرهم .
فقال تعالى : ( رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) الحجر : 39 - 42 .
وقال تعالى حكاية عن إبليس أيضاً في القصة : ( وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) الأعراف : 17 .
فهؤلاء من الناس مختصون بمقام العبودية التشريفية اختصاصاً لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين .
بحث روائي :
في الفقيه قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) - في آخر خطبة خطبها - : ( مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوتِهِ بِسَنَةٍ تَابَ اللهُ عَلَيهِ ) .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( إنَّ السَّنَةَ لَكَثِيرَة ، وَمَنْ تَابَ قَبلَ مَوتِهِ بِشَهرٍ تَابَ اللهُ عَلَيه ) .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( وإنَّ الشَّهْرَ لَكَثِير ، وَمَنْ تَابَ قَبْلَ مَوتِهِ بِيومٍ تَابَ اللهُ عَلَيه ) .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( وَإنَّ اليومَ لَكَثِير ، وَمَنْ تَابَ قَبلَ مَوتِهِ بِسَاعَة تَابَ اللهُ عَلَيه ) .
ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( وَإنَّ السَّاعَةَ لَكَثِيرة ، مَنْ تَابَ وَقَدْ بَلَغَتْ نَفْسُهُ هَذِهِ - وأهوى ( صلى الله عليه وآله ) بيده إلى حلقه - تَابَ اللهُ عَلَيهِ ) .
وسئل الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن قول الله عزَّ وجل : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ) النساء : 18 ، قال ( عليه السلام ) : ( ذلك إذا عاين أمر الآخرة ) .
أقول : الرواية الأولى رواها في الكافي مسنداً عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) وهي مرويَّة من طرق أهل السنة وفي معناها روايات أخر .
والرواية الثانية تفسر الآية وتفسر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت بأن المراد من حضور الموت العلم به ، ومشاهدة آيات الآخرة ، ولا توبة عندئذ ، وأما الجاهل بالأمر فلا مانع من قبول توبته ونظيرها بعض ما يأتي من الروايات .
وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( إِذَا بَلَغَت النَّفسُ هَذِهِ - وأهوى بيده إلى حنجرته - لَمْ يَكُنْ لِلعَالِمِ تَوبَةٌ وَكَانَتْ لِلجاهِلِ تَوبَة ) .
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردويه عن أبي ذر ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( إنَّ اللهَ يقبَلُ تَوبَةَ عَبدِهِ أو يَغْفرُ لِعَبدِهِ مَا لَم يَقَع الحِجَابُ ) .
قيل : وما وقوع الحجاب ؟ .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( تَخْرُجُ النَّفْسُ وَهيَ مُشْرِكَةٌ ) .
وفيه أخرج ابن جرير عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ( إِنَّ إِبلِيس لَمَّا رَأى آدَم أجْوَف قَالَ : وَعِزَّتِكَ لا أخْرُجُ مِنْ جَوفِهِ مَا دَامَ فِيهِ الرُّوحُ ، فقال الله تبارك وتعالى : وَعِزَّتي لا أحُولُ بَيْنَهُ وَبَينَ التوبَةِ مَا دَام الرُّوحُ فِيهِ ) .
وفي الكافي عن على الأحمسي عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : ( وَاللهِ مَا يَنْجو مِنَ الذُّنُوبِ إلاَّ مَنْ أقَرَّ بِهَا ) .
قال : وقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ( كَفَى بِالنَّدَمِ تَوبَةٌ ) .
وفيه بطريقين عن ابن وهب قال سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : ( إذَا تَابَ العَبْدُ تَوبَةً نَصوحاً أحَبَّهُ اللهُ تَعَالى فَسَتَر عَلَيه ) .
فقلت : وكيف يستر عليه ؟ .
فقال ( عليه السلام ) : ( يُنسي مَلَكَيهِ مَا كَانَا يَكتُبَانِ عَلَيهِ ، ثُمَّ يُوحي اللهُ إلى جَوارِحِهِ وإلى بِقَاعِ الأرْضِ أنِ اكتُمِي عَلَيه ذُنُوبَه ، فَيَلْقَى اللهُ حِينَ يَلقَاهُ وَلَيسَ شَيء يَشْهَدُ عَلَيهِ بِشَيء من الذُّنوبِ ) .
وفيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : ( يَا مُحَمَّد بْنَ مُسلِم ، ذُنُوبُ المُؤمِنِ إذَا تَابَ عَنْهَا مَغفُورَةٌ لَه ، فَلْيَعْمَل المُؤمِنُ لِمَا يَسْتأنِفُ بَعْدَ التوبَة والمَغْفِرَة ، أمَا وَاللهِ إنَّها لَيْسَت إلاَّ لأهْلِ الإيْمَان ) .
قلت : فإن عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب وعاد في التوبة ؟ .
فقال ( عليه السلام ) : ( يَا مُحَمَّد بْنَ مُسْلِم ، أتَرَى العَبْدَ المُؤمِنَ يَندمُ عَلَى ذَنْبِهِ فَيستَغفِرُ اللهَ مِنْه ويَتُوبُ ثُمَّ لا يَقبَلُ اللهُ تَوبَتَه ؟ ) .
قلت : فإن فعل ذلك مراراً يذنب ثم يتوب ويستغفر ؟ .
فقال ( عليه السلام ) : ( كُلَّمَا عَادَ المُؤمِنُ بالاستغفارِ والتوبَةِ عَادَ اللهُ تَعَالى عَلَيهِ بِالمَغْفِرَة ، وَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَقبَلُ التوبَةَ ، وَيَعفُو عَنِ السَّيئَاتِ ، فَإِيَّاكَ أنْ تُقنِطَ المُؤمِنِينَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ) .
وفي تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) طه : 82 ، قال ( عليه السلام ) : ( لِهَذِهِ الآيَةِ تَفسِيرٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التفسير ، أنَّ اللهَ لا يَقبَلُ مِنْ عَبدٍ عَمَلاً إلاَّ لِمَن لَقِيه بالوَفَاءِ مِنْه بِذَلِكَ التفسِير ، ومَا اشَتَرَطَ فيهِ عَلَى المُؤمِنِينَ وقال : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ) النساء : 17 .
يَعني كُلَّ ذَنْبٍ عَملهُ العَبدُ وإنْ كَانَ بِهِ عَالِماً فَهوَ جَاهِلٌ حِينَ خَاطَرَ بِنَفسِهِ في مَعْصِيَةِ رِبِّه .
وقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ يَحكِي قَولَ يُوسُف لأخَوَيهِ : ( هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ) يوسف : 89 ، فَنَسَبَهُم إلَى الجَهْلِ لِمُخَاطَرَتِهِمْ بِأنفُسِهِمْ في مَعْصِيَةِ اللهِ ) .
أقول والرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن ، والظاهر أن المراد بالصدر أن العمل إنما يقبل إذا وفي به العبد ولم ينقضه فالتوبة ، إنما تقبل إذا كانت زاجرة ناهية عن الذنب ولو حيناً .
وقوله : وقال : ( إِنَّمَا التَّوبَة .. ) إلخ كلام مستأنف أراد به بيان أن قوله بجهالة قيد توضيحي ، وأنَّ في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين السابقين في ما تقدم ، وقد روى هذا الذيل في المجمع أيضاً عنه ( عليه السلام ) .