قصة مقتل الإمام الحسين (ع) في يوم العاشر من محرّم
لما أصبح الحسين يوم عاشوراء، وصلّى بأصحابه صلاة الصبح، قام خطيباً فيهم، حمدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله سبحانه وتعالى قد أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم، فعليكم بالصبر والقتال. ثم صفهم للحرب، وكانوا سبعة وسبعين مابين فارس وراجل، فجعل زهير بن القين في الميمنة، وحبيب بن مظاهر في الميسرة، وأعطى رايته أخاه العباس، وثبت هو عليه السلام وأهل بيته في القلب وأقبل عمر بنُ سعد نحو الحسين في ثلاثين ألفاً، وعلى الميمنة عمر بن الحجاج الزبيدي، وعلى الميسرة شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عزرة بن قيس، وعلى الرّجالة شبث بن ربعي، والرايةُ مع ذويد مولاه، وأقبلوا يجولون حول البيوت، فيرون النار تضطرم في الخندق، فنادى شمر بأعلى صوته: ياحسين تعجلّت بالنار قبل يوم القيامة
فقال الحسين: من هذا، كأنه شمر بن ذي الجوشن؟
قيل: نعم
فقال له يابن راعية المعزى أنت أولى بها مني صليّا ورام مسلم بن عوسجه أن يرميه بسهمٌ، فمنعه الحسين وقال: أكره أن أبدأهم بقتال.
ولمّا نظر الحسين الى جمعهم كأنه السيل، رفع يديه بالدعاء وقال: اللهم أنت ثقتي في كل كربٍ، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمرٍ نزل بي ثقةٌ وعدّه، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد، وتقّل فيه الحيله، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبةً مني إليك عمّن سواك، فكشفته وفرّجته، فأنت ولي كل نعمة، ومنتهى كل رغبه ثم دعا براحلته فركبها، ونادى بصوت عال يسمعه جلّهم: فقال أيها الناس إسمعوا قولي ولا تعجلوا، حتى أعظكم بما هو حقٌ لكم علي، وحتى أعتذر إليكم مِن مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدّقتم قولي، وأعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم، فأجمعوا أمركم وشركائكم، ثم لايكن أمركم عليكم غمّه، ثم إقضوا إليّ ولا تنظرون، إنّ وليّ الله الذي نزّل الكتاب، وهو يتولى الصالحين، فلّما سمعنَ النساء هذا منه صحنَ وبكينَ وأرتفعت أصواتهنّ، فأرسل إليهنّ أخاه العباس وإبنه عليّ الأكبر وقال لهما:- سكّتاهنّ فلعمري ليكثر بُكاؤهنّ .
ولّما سكتن حمدَ الله وأثنى عليه، وصلّى على محمد وعلى الملائكة والأنبياء، وقال في ذلك ما لايحصى ذكره، ولم يسمع متكلّم قبله ولابعده أبلغ منه في منطِقه ، ثم قال: الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته ، والشقيّ من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا، فإنها تقطع رجاء من ركنَ إليها، وتخيّب طمعَ من طمع فيها، وأراكم قد إجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهة الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته وجنبكم رحمته . فنعمَ الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة ، وآمنتم بالرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم. ثّم إنكم زحفتم الى ذريته وعترته، تريدون قتلهم، لقد إستحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم ولما تريدون، إنــــا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم، فبعداً للقوم الظالمين.
أيهـــــا الناس إنسبوني مَن أنا ؟ ثم إرجعوا الى أنفسكم وعاتبوها، وأنظروا هل يحلُّ لكم قتلي؟ وإنتهاك حرمتي؟ ألستُ إبن بنت نبيكم؟ وأبن وصيّه؟ وأبن عمّه؟ وأول المؤمنين بالله؟ والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الطيّار عمي؟ أولم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحق ، والله ما تعمّت الكذب منذ علمتُ إنّ الله يمقت عليه أهله، ويضر به من إختلقه، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إن سألمتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبا سعيد الخدري ، وسهل بن سعد الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك ، يخبركم أنهم سمعوا هذه المقالة ، من رسول الله لي ولأخي ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟ فقال الشمر: هو يعبد الله على حرفٍ إن كان يدري مايقول فقال له حبيب بن مظاهر والله إني أراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهدُ إنك صادق ماتدري مايقول ، قد طبع الله على قلبك ثم قال الحسين : فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكّون أني إبن بنت نبيّكم فوالله مابين المشرق والمغرب إبن بنت نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم ويْحَكم أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلته أو مالٍ لكم إستهلكته أو بقصاص جراحةٍ ؟ فأخذوا لا يكلّمونه فنادى : يا شبث بن ربعي وياحجار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا زيد بن الحارث ألم تكتبوا إليّ أن أقدم قد أينعت الثمار وأخضّر الجناب وإنما تقدم على جندٍ لك مجنّدة ؟؟ فقالوا : لم نفعل
فقال : سبحان الله بلى والله لقد فعلتم ثم قال : أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم الى مأمني من الأرض فقال له قيس بن الأشعث أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ماتحب ولم يصل إليك منهم مكروه فقال الحسين: أنت أخو أخيك ؟ أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل ؟ لا والله لا أعطيهم بيدي أعطاء الذليل ، ولا أفر فرار العبيد.
عباد الله إني عذتُ بربي وربكم أن ترجمون ، أعوذ بربي وربكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب ثم أناخ راحلته وأمرَ عقبه بن سمعان فعقلها
لم أنسه إذ قام فيهم خاطباً ***** فإذا هم لايملكون خطابا
يدعوا ألستُ أنا أبن بنت نبيّكم ***** وملاذكم إن صرف دهر نابا
هل جئتُ في دين النبي ببدعةٍ ***** أم كنتُ في أحكامه مرتابا
أم لم يوصِ بنا النبي وأودع ***** الثقلين فيكم عترةً وكتابا
إن لم تدينوا بالمعاد فراجعوا ***** أحسابكم إن كنتم أعرابا
فغدوا حيارى لايرون لوعظه***** إلا الأسنّة والسهام جوابا
وأقبل القوم يزحفون نحوه، وكان فيهم عبد الله بن حوزة التميمي ، فصاح : أفيكم حسين؟
وفي الثالثة قال أصحاب الحسين : هذا الحسين
فما تريد؟ قال : ياحسين أبشر بالنار
قال الحســـــين: كذبت بل أقدم على ربّ غفور كريم مطاع شفيع ، فمنْ أنت ؟
قال : أبن حوزة فرفع الحســـين يديه حتى بانَ بياضُ إبطيه وقال : اللهم حُزه الى النـــــــار فغـــــضــــب إبن حوزة ، وأقحم الفرس إليه وكان بينهما نهر، فعلقت قدمه بالركــــاب ، وجـــالت به الفرس فسقط عنها ، وإنقطعت قدمه وساقه وفخذه ، وبقي جانبه الآخر معلّقـــاً بالركـــاب وأخذت الفرس تضرب به كلَ حجر وشجر حتى هلك،
قال مسروق بن وائل الحضرمي : كنت في أول الخيل التي تقدّمت لحرب الحسين ، لعلي أن أصيب رأس الحسين، فأحظى به عند إبن زياد ، فلّما رأيت ما صُنع بإبن حوزة، عرفت أن لأهل هذا البيت حرمة ومنزلة عند الله ، وتركت النّاس وقلتُ : لا أقاتلهم فأكون في النار.
وخرج إليهم زهير بن القين على فرس ذنوب ، وهو شاك في السلاح فقال: يا أهل الكوفة نذارِ لكم من عذاب الله نذار ، إن حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن وحتى الآن أخوة على دين واحد ، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منا أهل ،فإذا وقع السيف إنقطعت العصمة ، وكنّا أمّة وأنتم أمّه . إن الله إبتلانا وإياكم بذرية نبيّه محمّد ، لينظر ما نحن وأنتم فاعلون ، إنّا ندعوكم إلى نصرهم ، وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد ، فإنكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عمر سلطانهما ، ليسملان أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويمثّلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أمثالكم وقرّاءكم ، أمثال : حجر بن عدي وأصحابه ، وهاني بن عروة وأشباهه . فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا : لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه الى عبيد الله بن زياد سلماً.
فقال زهير : عباد الله إنّ ولد فاطمة أحقّ بالوُدّ والنصر من إبن سميّة ، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أنْ تقتلوهم ، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد ، فلعمري إنه ليرضى طاعتكم بدون قتل الحسين فرماه الشمر بسهم وقال : اسكتْ أسكتَ الله نامتك ، أبرمتنا بكثرة كلامك فقال زهير : يا أبن البّوال على عقبيه ما إياك أخاطب ، إنما أنت بهيمة ، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين ، فأبشــــــــر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم .
فقال الشمر : إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة
فقال زهير : أفبالموت تخوفني ؟ فوالله لَلْمَوت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم . ثم أقبل على القوم رافعاً صوته وقال : عباد الله لا يغرنّكم عن دينكم هذا الجِلفُ الجافي وأشباهه ، فوالله لا تنال شفاعة محمّد قوماً هرقوا دماء ذرّيته وأهل بيته ، وقتلوا من نصرهم وذبَّ عن حريمهم فنــــاداه رجل من أصحابه : إن أبا عبد الله يقول لك : أقبل ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه ، وأبلغ في الدعاء ، فلقد نصحت هؤلاء، وأبلغت لو نفع النُّصح والإبلاغ .
وأستأذن الحسين بريرُ بن خضير في أن يكلّم القوم ، فأذن له ، وكان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن ، ومن شيوخ القرّاء في جامع الكوفة وله في الهمدانيين شرف وقدر وجلالة. فوقف منهم ونادى : يامعشر الناس إن الله بعث محمّداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابه ، وقد حيل بينه وبين إبن بنت رسول الله ، أفجزاءُ محمد هذا ؟
فقالوا: يابُرير قد أكثرت الكلام فأكفف عنّا ، فوالله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله
قال: ياقوم إنّ ثقل محمّد قد أصبح بين أظهركم ، وهؤلاء ذريّتُه وعترتُه وبناتُه وحُرمُه، فهــــــاتوا ماعندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم؟
فقالوا : نريد أن نمكّن منكم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى فيهم رأيه
قال: أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاءوا منه؟ ويْلَكُم يا أهل الكوفة أنسيتم كُتُبُكم ؟ ويْلكم أدعوتم أهل بيت نبيكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم ، حتى إذا أتوكم أسلمتوهم إلى إبن زياد ، وحلأتموهم عن ماء الفرات ، بئس ما خلفتم نبيكم في ذريته مالكم؟ لا سقاكم الله يوم القيامة فبئس القوم أنتم.
فقال له نفر منهم : يا هذا ما ندري ماتقول ؟
قال : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة ، اللّهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم ، اللّهم القِ بأسهم بينهم ، حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان فجعل القوم يرمونه بالسهام فتقهقر إلى ورائه .
ثمّ إنَّ الحسين ركب فرسه ، وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه ، ووقف بإزاء القوم وقال : يا قوم إن بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ استشهدهم عن نفسه المقّدّسة ، وما عليه من سيف النبي ودرعه وعمامته ، فأجـــابوه بالتصديق . فسألهم عمّا أقدمهم على قتله قالوا : طاعةً للأمير عبيد الله بن زياد.
فقال عليه السلام : تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً أحين استصرختـــــمونا والهين ، فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحششتم علينا ناراً أقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، فهلاّ لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستصحف ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبـــا ، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش ثمّ نقضتموها فســـــحقاً لكم يا عبيد الأُمّة ، وشذاذ الأحزاب ، ونَبَذَة الكتاب ، ومحـــرّفي الكلم ، أجَلْ والله غدرٌ فيكم قديم ، وشِجَتْ عليه أصولكم ، وتأزرت فروعكم فكنـــتم أخبث ثمر شجــــيٍ للناظر ، وأكلة للغاصب . ألا وإنّ الدّعي بن الدّعي – يعني ابن زياد – قدْ ركز بين إثنتين ، بين السلّة والذلّة ، وهيـــــهات منّا الذّلــــة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وحُـــجور طابت وحُجور طهرت وأنوف حمــــية ، ونفوس أبـــية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ألا وأني زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر . ثـــم أنشد أبيات فروة :
فإن نهـــــزم فهــــــزّامون قدما ***** وإن نُهــــزم فغير مهزّمينا
وما إن طبــــنا جُبــــن ولكــــن ***** منـــايـــانا ودولـــة آخــــرينا
فقـــل للشــــامتين بـــنا أفيـــقوا ***** سيلقى الشامتون كما لقينا
أما والله لا تلـــبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى ، وتقلِقَ بكم قلق المحور ، عهدٌ عهدهُ إليّ أبي عن جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثمّ أقضوا إليّ ولا تنظرون إني توكلت على الله ربّي وربّكم ، مامن دابة إلاّ هو آخـــذ بناصيـــتها ، إنّ ربّي على صراط مستقيم . ثمّ رفع يديه وقال : اللّهم إحبس عنهم قطر السماء ، وأبعث عليهم سنين كسنّي يوسف وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبـــرّة فإنـــهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربُّنا عليك توكلّنا وإليك المصير.
واستدعى عمر بن سعد فدعـــي له وكان كارهاً لا يحب أن يأتيه . فقال أي عمـــــر : أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدعي بلاد الري وجرجان ؟ والله لا تهتنّيء بذلك عهـــد معهود فأصنع ما أنت صانع ، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخره، وكأني برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفه ، ويتخذونه غرضاً بينهم ، فطرق بوجهه عنه مغضبا.
ولمّا سمع الحر بن يزيد الرياحي ، كلام أبي عبد الله الحسين وإستغاثته ، أقبل على عمر بن سعد وقال له : أمقاتل أنت هذا الرجــل ؟ قال : أي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي .
فقال له : مالكم فيما عرضه عليكم من الخصال ؟ فقال : لو كان الأمر إليّ لقًبلْت ، ولكنّ أميرك إبن زياد يأبى ذلك ، فتركه ووقف مع الناس ، وكان إلى جانب قرّة بن قيس ، فقال لقرّة : هل سقيت فرسك ؟ فقال لا، قال : فهـــــل تريد أن تسقيه ؟ فظنّ قرّة من ذلك إنه يريد الإعتزال ، ويكره أن يشاهده أحد ، فتركه فأخذ الحـــــر يدنو من الحسين بن علي ، قليلاً قليلا فقال له المهاجر بن أوس : أتريد أن تحمل ؟ فسكتَ وأخذته الرعده ، فارتاب المهاجر من هذا الحال وقال له : لو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة ؟ لَما عدوتك ، فما هذا الذي أراه منك ؟ فقال الحر : إني أخيّر نفسي بين الجنّة والنار ، والله لا أختارُ على الجنّة شيئاً ولو أحرقتْ. ثمّ ضرب جواده نحو الحسين بن علي ، منكساً برأسه حياءاً من آل الرسول بما أتى إليهم وجعجع بهم في هذا المكان على غير ماء ولا كلأ ، رافعاً صوته : اللّهم إليك أنيب فتبْ عليّ ، فقد أرعبت قلوب أولياءك وأولاد نبيك . يا أبا عبد الله ، إني تائب فهل ترى لي من توبة ؟ فقال الحسين : نعم يتوب الله عليك. فسرّه قول أبي عبد الله ، وتيقّن الحياة الأبدية ، والنعيم الدائم ، ووضّح له قول الهاتف لما خرج من الكوفة ، فحدّث الحسين بحديثه ، قال فيه : لمّا خرجتُ من الكوفة نوديت : أبشر يا حر بالجنّة فقلتُ : ويلٌ للحـــر يبشّر بالجنّة وهو يسير الى حرب إبن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال له الحسين : لقد أصبتَ خيراً وأجراً ثمّ إستأذن الحسين في أن يكلّم القوم ، فأذن له فنادى بأعلى صوته: يا أهــــل الكوفة لأمَكم الهَبَل والعبَر أدعوتم هذا العبد الصالح وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه حتى إذا جائكم أخذتم بكظمه ، وأحطتم به من كل جانب ، فمنعتموه التوجه إلى بلاد الله العريضه ، حتى يأمنُ أهل بيته ، وأصبح كالأسير في أيديكم ، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، وحلاتموه وصبيته ونساءه وصحبه عن مـــاء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى والمجوس وتتمرّغ فيه خنازير السواد وكلابه وها هم قد ، صرعهم العطش ، بئسما خلّفتم محمداً في ذريته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ .
فحملتْ عليه رجّاله ترميه بالنبل ، فتقهقر حتى وقف أمام الحسين. إذ إنّ الحسين بن علي منع أصحابه وأهل بيته من أن يبدأوا القوم بقتال قط ، فلذلك ترى الأصحاب في كل مقام وعظ وإرشاد وتوجيه يرشقون بالسهام أو يَحمـــل عليهم أحد تراهم يتراجعون الى وراءهم إمتثالاً لأمر إمامهم وسيدهم أبي عبد الله الحسين إذ إنه مايريد أن يبدأ كل أحد بقتالٍ أبداً .
فصاح الشمر بأعلى صوته : أين بنو أختنا ؟ أين العبـــاس وأخوته ؟ فأعرضوا عنه ، فقال الحسين عليه السلام : أجيبوه ولو كان فاسقاً.... قالوا ماشأنك وما تريد ؟
فقال : يــا بني أختي أنتم آمنون ، فلا تقتلوا أنفسكم مع الحسين ، وألزموا طاعة أمير الفاسقين يزيد فقال العباس له : لعنك الله ولعن أمانك. أتؤمننا وأبن رسول الله لا أمان له . وتأمرنا أن ندخل في طاعة العناء وأولاد اللعناء. وتقدّم عمر بن سعد نحو عسكر الحسين ورمى بسهمٍ وقال : إشهدوا لي عند الأمير إبن زياد إني أول من رمى ثمّ رمى الناس فلم يبق من أصحاب الحسين أحد إلا أصابه من سهامهم فقال عليه السلام لأصحابه : قوموا رحمكم الله الى الموت الذي لابد منه ، فإن هذه السهام رُسُل القوم إليكم .
فحملَ أصحابه حملة واحدة وأقتتلوا ساعة فما إنجلت الغبرة إلا عن خمسين صريعاً من أصحاب أبي عبد الله وخرج يسار مولى زياد ، وسالم مولى عبيد الله بن زياد ، فطلب البراز ؟ فوثب حبيب وبرير فلم يأذن لهما الحسين ، فقال عبد الله بن عمر الكلبي من بني عَلــــيم أو عُليم وكنيته أبو وهبْ وكان طويلاً شديد الساعدين ، بعيد مابين المنكبين ، شريفـــاً في قومه شجاعــاً مجربا فأذن له وقال: أحسبه للأقران قتّالا فقالا له : مَن أنت؟ فانتسَب لهما فقالا : لا نعرفك ليَخرُج إلينا زهير أو حبيب أو برير وكان يـــسار قريباً منه ، فقال له : يا بن الزانيّة أو بك رغبه عن مبارزتي ، ثمّ شدّ عليه بسيفه يضربه ، وبينا هو مشتغل به ، إذ شدّ عليه سالم ، فصاح أصحابه : قد رهقك العبد ، فلم يعبأ به فضربه سالم بالسيف فإتقاها عبد الله بيده اليسرى ، فأطار أصابعها ، ومال عليه عبد الله فقتله ، وأقبل الى الحسين يرتجز وقد قتلهما معاً وأخذت أُم وهب زوجته عموداً وأقبلت تقول : فداك أبي وأمّي قاتل دون الطيبين ذرية محمّد ، فأراد أن يردّّها الى الخيمة فلم تُطاوعه ، وأخذت تجاذبه ثوبه وتقول : لن أدعك دون أن أموت معك فقال لها : الآن كنت تنهيني عن القتال والآن جئت تقاتلين معي
قالت : لا تلمني أنّ واعية الحسين كسرت قلبي ، فقال : ما الذي سمعتي منه
قالت : سمعته بباب الخيمة ينادي : وا قلّة ناصراه ، فنادى الحسين : سيدي أبا عبد الله رُدّها الى الخـــيمة ، فناداها الحسين : جُزيتم عن أهل بيت نبيكم خيراً إرجعي الى الخيمة فإنه ليس على النساء قتال . فرجعت . ولما نظر من بقي من أصحاب الحسين الى كثرة من قُتل منهم ، أخذ الرجلان والثلاثة يستأذنون الحسين في الذبِّ عنه ، والدّفع عن حُرمه وكل يحمي الآخر من كيد عدوه.
فخرج الجابريان وقاتلا في مكان واحد حتى قتلا وخرج الغفّاريان فقالا للحسين السلام عليك أبا عبد الله إنا جئنا لنُقتل بين يديك وندفع عنك .
فقال : مرحباً بكما واستدناهما منه فدنوا وهما يبكيان ، قال : مايبكيكُما يا ابني أخي فوالله لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريرِي العين قالا : جعلنا الله فداك ماعلى أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك نراك قد أحيط بك ، ولا نقدر أن ننفعك . فجزّاهما الحسين خيراً فقاتلا قريباً منه حتى قتلا.
وخرج عمرو بن خالد الصيداوي ، وسعد مولاه ، وجابر بن الحارث ، ومجمع بن عبد الله العائذي ، وشدّوا جميعاً على أهل الكوفة ، فلمّا أوغلوا فيهم ، عطف عليهم الناس ، وقطعوهم عن أصحابهم فندب إليهم الحسين أخاه العباس ، فاستنقذهم بسيفه ، وقدْ جُرحوا بأجمعهم ، وفي أثناء الطريق إقترب منهم العدو ، فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح ، وقاتلوا حتى قُتلوا في مكان واحد . ولما نظر الحسين الى كثرة من قتل من أصحابه ، قبض على شيبته المقدسة وقال : إشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً ، وإشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثه ، وإشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه ، وإشتدّ غضبه على قوم إتفقت كلمتُهم على قتل إبن بنت نبيّهم . أما والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي . ثمّ صاح : أما من مغـــــيث يغيثنـــــا أما من ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله فبكت النساء وكثر صراخهن . ثمّ صاح عمرو بن الحجاج : أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقومٌ مستميتين ، لايبرز إليهم أحد نمكم إلاّ قتلوه على قلّتهم – والسبب في ذلك أنهم كانوا يقاتلون عن عقيدة وإيمان ، وأولئك كانوا يقاتلون في سبيل المادة والطمع – فقال عمرو بن الحجاج : لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم فقال عمر بن سعد : صدقت ، الرأي ما رأيت أرسل في الناس من يعزم عليهم أنْ لا يبارزهم رجلٌ منهم ولو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم ثم حمل عمرو بن الحجاج على ميمنة الحسين ، فثبتوا له ، وجثـــــوا على الرُكب ، وأشرعوا الرماح ، فَلَمْ تَقدِم الخيل ، فلما ذهبت الخيل لترجع ، رشقهم أصحاب الحسين بالنبل فصرعوا رجالاً وجرحوا آخرين .
ثمّ حَمَلَ عمرو بن الحجّاج من نحو الفرات ، فأقتتلوا ساعة ، وفيها قاتل مسلم بن عوسجـــة فشدّ عليه مسلم بن عبد الله ، وعبد الله البجلي ، وثارت لشدّة الجلاد غبرة شديدة وما إنجلت الغُبْرة إلاّ ومسلم بن عوسجة صريعاً وبه رمق . فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر . فقال الحسين : رحمك الله يامسلم ، ثمّ تلى قوله تعالى ( منهم من قضى نحبه ونهم من ينتظر ومابدّلوا تبديلا ) – ودنا منه حبيب وقال : عزَّ عليّ مصرعُك يامسلم أبشر بالجنّة.
فقال مسلم بن عوسجة بصوت ضعيف : بشّرك الله بخير يا أخي ياحبيب ثم قال : حبيب : لو لم أعلم أني في الأثر لأحبَبتُ أن توصي لي بجميع مايهمك . فقال له مسلم : أوصيك بهذا ، وأشــــار الى الحسين بن علي أن تموت دونه . فقال : أفعل وربّ الكعبة وفاضت روحُه بينهما
وصلت يبن ظاهر منيتي ***** آني ماوصيتك بعيالي او بيتي
او لا تحفظ اولادي او ثنيتي ***** انجان نيتك مثل نيتي
اريدنّك اتجاهد سويي ***** بالحسين واعياله وصيتي
وصاحت جارية له : وامســــــلماه! يا ابن عوسجتّاه
فتنادى أصحاب إبن الحجاج . قتلنا مسلما
فقال شبث بن ربعي لمن حوله : ثَكَلَتكم أمهاتُكم ، أيُقتل مثل مسلم وتفرحون لَرُبّ موقف له كريم في المسلمين رأيته يوم آذربيجان وقد قَتَل ستة من المشركين قبل التئام خيول المسلمين
وحـــمل الشمر في جماعة من أصحابه على مسيرة الحسين فثبتوا لهم حتّى كشفوهم .وفيها قاتل عبد الله بن عمير الكلبي ، فقتل رجالاً ، وشد عليهم هاني بن شبـــيت الحضرمي فقطع يده اليمنى ، وقطع بكر بن حي ساقه ، فأخِذ أسييراً وقتل صبراً ، فمشت اليه زوجته أم وهب وجلست عند رأسه تمسح الدم عنه وتقول : هنيئاً لك الجنّة ، أسأل الله الذي رزقك الجنّة أن يصحبني معك فقال الشمر لغلامه : إضرب رأسها بالعمود ، فشدخه وماتت مكانها وهي أول إمرأة قُتلت يوم عاشوراء من أصحاب الحسين بن علي وقُطع رأسه ورمي به الى جهة الحسين ، فأخذته أمه ومسحت الدم عنه ، ثم أخذت عمود الخيمة ، وبرزت الى الأعداء ، فردها الحسين ، وقال : إرجعي رحمك الله ، فقد وضع عنك الجهاد فرجعت وهي تقول : اللهم لا تقطع رجائي. فقال الحسين : لايقطع الله رجاكِ.
وحمل الشمر حتى طعن فسطاط الحسين بالرمح وقال : عَلَيَّ بالنار لأُحرقه على أهله . فتصايَحَت النساء وخَرَجن من الفسطاط .
وناداه الحسين : يا إبن ذي الجوشن : أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي ، أحرقك الله بالنار.
وقال شبث بن ربعي : أمرعباً للنساء صرت؟ ما رأيتُ مقالاً أسوأ من مقالك ، ولا موقفاً أقبح من موقفك ، فأستحيي وانصرف .وحمل على جماعته زهير بن القين في عشرة من أصحابه حتى كشفوهم عن البيوت ولما رأى عزرة بن قيس وهو على الخيل ، الوهن في أصحابه والفشل ، كلّما يحملون ، بعث إلى عمر بن سعد يَسْتَمّه الرّجال . فمده بالحصين بن نمير في خمسمائة من الرُّماة ، وإشتدّ القتال ، وأكثر أصحاب الحسين فيهم الجراح ، حتى عقروا خيولهم وأرجلُوهُم ولم يقدروا أن يأتوهم إلا من وجه واحد لتقارُب أبنيتهم . فأرسل إبن سعد الرجال ليقوّضوها عَن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ليُحيطوا بهم ، فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخللون البيوت ، فيشدّون على الرجل وهو ينهب ، فيقتلونه ويرمونه من قريب فيعقرونه فقال إبن سعد : أحــــرقوها بالنار ، فأضرموا فيها النار ، فصاحت النساء ، ودهشت الأطفال ، فقال الحسين : دعوهم يحرقونها ، فإنهم إذا فعلوا ذلك لم يجوزوا إليكم ، فكان كما قال عليه السلام.
وكان أبو الشعثاء الكندي وهو يزيد بن زياد رامياً . فجثا على ركبتيه بين يدي الحسين ، ورمى بمائة سهم والحسين يقول : اللّهم سدّد رميته واجعل ثوابه الجنّة ثمّ حمل على القوم فقتل تسعة عشر رجلاً ثمّ قتل.
والتفت أبـــو ثمامة الصائدي الى الشمس فرءاها وقد زالت ، فقال للحسين : نفسي لك الفداء ، إني أرى هؤلاء قد إقتربوا منك ، لا والله لا تُقتَل حتى أقتَل دونك وأحب أنْ ألقى الله وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنَا وقتها . فرفع الحسين رأسه الى السماء وقال : ذكرتَ الصلاةَ. جعلكَ الله من المصلّين الذاكرين . ..... أنظروا أيها المسلمون دعا الحسين بن علي سلام الله عليه لهذا العبد الصالح بأعظم دعاء وهو أن قال : جعلك الله من المصلين . فمرنوا أولادكم وعودوا بناتكم معاشر المسلمين على الصلاة في دور الصغر ، فأن دور الصغر إذا صلى الأنسان فيه لا يسعه أن يترك الصلاة في الكبر ، وإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر – فقال الحسين : نعم هذا أول وقتها ، سلوهم عن أن يكفّوا عنّا حتى نصلي فقال الحصين : إنها لا تُقبل فقال حبيـــب بن مظاهر : زعمت أنها لا تقبل من آل الرسول وتقبل منك ياحمار . فحمل عليه الحصين ، فضرب حبيب وجه فرسه بالسيف ، فشبّت به ووقع عنه ، وأستنقذه أصحابه فحملوه وقاتلهم حبيب قتالاً شديداً، فقتل على كبر سنّه أثنين وستين رجلاً ، وحمل عليه بديل بن صريم فضربه بسيفه ، وطعنه آخر من تميم برمحه ، فوقع الى الأرض ، فذهب ليقوم وإذا بالحصين يضربه بالسيف على رأسه ، فسقط لوجهه ، ونزل إليه التميمي وإحتزَّ رأسه . فَهَدّ مقتله الحسين . فقال : عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي وأسترجع الحسين كثير.
وخرج من بعده الحر بن يزيد الرياحي ومعه زهير بن القين ، يحمي ظهره ، فكان إذا شدّ أحدهما واستلحم شَدّ الآخر واستنقذه ، ففعلا ساعة وإن فرس الحر لمضروب على اُذنيه وحاجبيه والدماء تسيل منه فبرز إليهم وهو يرتجز ويقول:
إني أنا الحر ومأوى الضيفِ ***** أضربُ في أعناقكم بالسيفِ
عن خير من حل بأرض الخيف ***** أضربكم ولا أرى من حيف
حتى قتل منهم جماعة كثيرة على كبر سنّه
جله اهموم الفواطم مجله الغتوت ***** ورج الغاضرية وحامه البيوت
عكب ما شافت امن امذهبه الموت ***** وطاح اوفيض دمه اعله الثره يسيل
اجاه احسين مثل الليث يهدر ***** ينادي ودمع عينه اعليه ينثر
امك ماخطت من سمّتك حر ***** مسح عنه التراب اودمعه ايسيل
او من ناده الرجس ياخيلنه اوصاح ***** عمامه ابغيض سلّت بيض الصفاح
ابذيج الخيل نادت كل بني ارياح ***** عميد الحر عجب ينداس بالخيل
عله اخشوم الزلم رغماً نشيله ***** اوكل مجتول تنهض ليه جبيله
تسل بيض السيوف او تعتنيله ***** لعد المعركة والجثّته اتشيل
العشيرة شالته ابحر الظهيرة ***** ضحاية اعله الترب من غير تغسيل
وحمل أصحاب الحسين الحر ووضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلون دونه وكان به رمق فقال الحسين له وهو يمسح الدم عنه : أنت الحر كما سمّتك أُمك ، وأنت الحر في الدنيا والآخرة وعلى قول أنت حر في الدنيا وسعيد في الآخرة ، ورثاه رجل من أصحاب الحسين قيل علي بن الحسين
لَنِعــــــــــــمَ الحـــــر حـــر بني رياحي ***** صبـــــور عنـــد مشتبك الرماح
ونِعْــــــــــــم الحــــرُ إذ فادى حسيناً ***** وَجــــــاد بنفسه عنــــد الصباح
وقام الحسين الى الصلاة ، فصلّى بمن بقي من أصحابه صلاة الخوف ، وتقدم أمامه زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي في نصف من أصحابه ويقال إنه صلى فرادى بالإيماء ولما أُثخــــن سعيد بالجراح سقط الى الأرض وهو يقول : اللهم العَنهم لعن عاد وثـــمود ، وأبلـــغ نبيك مني السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فانــــي أردت بذلك ثــوابك في نصرة ذرية نبيك صلى الله عليه وآله وسلم. والتفــــــت الى الحسين قائلاً : أوفّيت يا أبن رسول الله ؟
قال : نعم أنت أمامي في الجنّة ثم قال : سعيد ! أبلغ جدي أني تركت حسيناً في الأثر ، وقضى نحبه فوجد به ثلاثة عشر سهماً غير الضرب والطعن
ولما فرغ الحسين من الصلاة قال لأصحابه : يا كرام هذه الجنّة قد فتحت أبوابها واتصلت أنهارها وأينعت ثمارها وهذا رسول الله والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم ، ويتباشرون بكم فحاموا عن دين الله ودين نبيه ، وذبّوا عن حرم الرسول فقالوا :
نفوسنا لنفسك الفداء ، ودماؤنا لدمك الوقاء ، فو الله لا يصل الى حرمك سوء وفينا عرق يضرب . ووثبوا الى خيولهم فعقروها ، ولم يبق مع الحسين فارس إلا الضحـــــاك بن عبد الله المشرقي . يقول : لما رأيت خيل أصحابنا تعقر أقبلت بفرسي وأدخلتها فسطاطا لأصحابنا ، واقتتلوا أشدّ القتال . وكان كل من أراد الخروج وَدّع الحسين بقوله السلام عليك يا ابن رسول الله فيجيبه الحسين : وعليك السلام ونحن خلفك ، ثمّ يقرأ : (( ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ))
وخرج سلمان بن مضارب البجلي وكان ابن عم زهير فقاتل وخرج بعده زهير بن القين فوضع يده على منكب الحسين وقال مستأذناً
أقدم هديت هاديا مهديا ***** فاليـــــوم ألقى جدك النبيا
وحسنا والمرتضى عليا ***** وذا الجناحين فتى الكميا
وأسد الله الشهيـــــــد الحيـــــــا
فقال الحسين : وأنا ألقاهما على أثرك ، وفي حملاته يقول
أنا زهير وأنا ابن القــــــين ***** أذودكم بالســــيف عن حسين
فقتل مائة وعشرين ، ثم عطف عليه كثير بن عبد الله الشعبي والمهاجر بن أوس فقتلاه . فوقف عليه الحسين ودعى له وجزّاه خيرا وقال : لعن الله قاتليك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير
وجاء عمر بن قرظة الأنصاري ووقف أمام الحسين يقيه من العدو ، ويتلقى السهام بصدره وجبهته ، فلم يصل الى الحسين سوء ولما كثر فيه الجراح التَفتَ الى أبي عبد الله وقال : أوفيت ياإبن رسول الله ؟! قال : نعم أنت أمامي في الجنّة ، فأقرأ رسول الله مني السلام ، وأعلمه أني في الأثر ، وخرّ ميتا فنادى أخوه علي ، وكان مع ابن سعد : ياحسين ياكذاب – إنما أقول كلمته حتى تطلع على خبث هؤلاء الأفراد – غررت أخي حتى قتلته فقال ( ع ) : إني لم أغر أخاك ولكن الله هداه وأضلك فقال : قتلني الله إن لم أقتلك ثم حمل على الحسين ليطعنه فأعترضه نافع بن هلال الجملي فطعنه حتى صرعه فحمله أصحابه وعالجوه وبريء
ورمى نافع بن هلال الجملي بنبال مسمومه كتب إسمه عليها وهو يقول :
أرمي بها مُعلمة أفواقها ***** مسمومة تجري بها أخفاقها
فقتل إثني عشر رجلا سوى من جرح ، ولما فنيت نباله ، جرّد سيفه يضرب فيهم ، فأحاطوا به يرمونه بالحجارة والصال ، حتى كسروا عضديه ، وأخذوه أسيرا فأمسكه الشمر ومعه أصحابه يسوقونه فقال له إبن سعد : ماحملك على ماصنعت بنفسك ؟
قال : إن ربي يعلم ما أردت
فقال له رجل وقد نظر الى الدماء تسيل على وجهه ولحيته : أما ترى مابك ؟
فقال : والله لقد قتلت منكم أثني عشر رجلاً سوى من جرحت ، وما ألوم نفسي على الجهد ولو بقيت لي عضد ما أسرتموني ثم قتله الشمر.
ولما صرع واضح التركي مولى الحرث المذحجي إستغاث بالحسين فأتاه أبو عبد الله وأعتنقه فقال : من مثلي وابن رسول الله واضع خده على خدي !. إنظر الى الحسين بن علي رجل الدين والإنسانية يضع خده على خد ولده علي الأكبر وكذلك مرة أخرى يضع خده على خد غلام تركي ، إذ لايفرّق إمامنا سلام الله عليه بين أفراع النوع الإنساني ، فالدين الإنساني هو الدين الإسلامي – ثمّ فاضت نفسه الطاهرة . ومشى الحسين الى أسلم وأعتنقه ، وكان به رمق فتبسّم وافتخر بذلك ومات رضوان الله عليه.
ونادى يزيد بن معقل : يابرير كيف ترى صنع الله بك ؟ فقال : صنع الله بي خيراً ، وصنع بك شراً
فقال يزيد : كذبت وقبل اليوم ما كنت كذاباً أتذكر يوم كنت أماشيك في بني لوذان وأنت تقول : كان عثمان مسرفا ، ومعاوية ضالا ، وإن إمام الهدى علي بن أبي طالب .
قال : برير بلى أشهد أن هذا رأيي فقال يزيد : وأنا أشهد أنك من الضالين
فدعاه برير الى المباهلة ، فرفعا أيديهما الى الله سبحانه يدعوانه أن يلعن الكاذب ويقتله ثم تضاربا فضربه برير على رأسه قدّت المغفر والدماغ ، فخّر كأنما هوى من شاهق ، وسيف برير ثابت في رأسه وبينا هو يريد أن يخرجه إذ حمل عليه رضا بن منقذ وإعتنق بريراً وإعتركا ، فصرعه برير وجلس على صدره ، فاستغاث رضا بأصحابه فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل على برير فصاح به عفيف بن زهير بن أبي الأخنس : هذا برير بن خضير ، القارىء الذي كان يقرؤنا القرآن في جامع الكوفة ، فلم يلتفت اليه وطعن بريرا في ظهره ، فبرك برير على رضا وعضّ وجهه وقطع أنفه ، وألقاه كعب برمحه عنه وضربه بسيفه فقتله . وقام العبدي ينفض التراب فقال قد أنعمت علي يا أخ الأزد نعمة لا أنساها أبدا ولما رجع كعب بن جابر الى أهله عتبت عليه أمرأته النوار وقالت : أعنت على ابن فاطمة ، وقتلت سيد القرّاء ، لقد أتيت عظيماً من الأمر ، والله لا أكلمك من رأسي كلمة أبداً فقال :
سَلي تخبري عني وأنتِ ذميمة ***** غداة حسين والرماح شوارعُ
إلى آخر أبياته