٧٠٨
مرآة العقول، المجلد ١٠ ،ص ٣٩٠ ،ط. دار الكتب الإسلامیة ـ طھران.
٧٠٩
مرآة العقول، المجلد ١٠ ،ص ٣٩٥ ،ط. دار الكتب الإسلامیة ـ طھران.
نقل الإمام قدس سره كلام المجلسي بصورة مختصرة. نقلناه من دون اختزال واختصار (المترجم). ٧١٠
٧١١
سورة إبراھیم، آية: ٧.
٧١٢
سورة الفرقان، آية: ٤٤.
٧١٣
سورة الحجر، آية: ٧٥.
٢٥٥
وكذا قوة البطش البدنیة إذا صرفھا في طاعة االله وقربه ونھكھا بالرياضات الحقة أعطاه االله قوة روحانیة لا
تضعف بالأمراض، ولا تذھب بالموت فیھا يقدر على التصرف في عالم الملك والملكوت كما قال أمیر المؤمنین علیه
السّلام: (ما قَلَعْتُ بابَ خَیبَرَ بِقُوَّةٍ جِسّمَانِیةٍ، بَلْ بِقُوّةٍ رَبّانِیّةٍ).
وكذا النطق إذا صدق فیه وكان موافقاً لعمله ومصادفاً لرضا ربه فتح االله به ينابیع الحكمة من قلبه على لسانه
فظھر معنى قوله سبحانه: (كُنْتُ سَمْعُهُ وَبَصرهُ وَغیر ذلك على ألطف الوجوه لَمْن كانَ قَلْبٌ أوْ ألْقَى السَّمْعَ وَھَوُ
. انتھى.
شَھِید) ٧١٤
ولا يخلو كلام المجلسي ھذا من الغرابة.
تتمة:
يقول الشیخ الأجل البھائي قدس سره: إنّ (ھذا صريح في أن الواجبات أكثر ثواباً من المندوبات ـ ثم قالـ إن
قلت: مدلول ھذا الكلام ھو أن غیر الواجب لیس أحب إلى االله سبحانه من الواجب، لا إن الواجب أحب إلیه من
غیره فلعلھما متساويان؟ قلت: الذي يستفیده أھل اللسان من مثل ھذا الكلام ھو تفضیل الواجب على غیره. ثم
قال في نھاية دراسته للحديث واستثنى منه الشھید رضوان االله علیه صوراً:
أولھا: الإبراء من الدين فإنه مستحب وھو أفضل من إنظار المعسر وھو واجب.
ثانیھا: السلام ابتداءً فإنّه أفضل من ردّه وھو واجب.
ثالثھا: إعادة المنفرد صلاته جماعة. فإن الجماعة مطلقاً تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة فصلاة
٧١٥ الجماعة مستحبة وھي أفضل من الصلاة التي سبقت وھي واجبة إلى غیر ذلك انتھى
.
وقد ناقش بعض في كل منھا ولا حاجة لبیان تلك المناقشات.
ولا بد من معرفة أن الظاھر من الحديث الشريف ھو أن الواجبات أفضل من المستحبات، وإن لم يكونا من سنخ
واحد فمثلاً: ردّ السلام الواجب، أفضل من الحج المندوب، ومن تشیید المدارس العظیمة، وزيارة أھل االله من
المؤمنین. وإن ترائى ھذا الأمر بعیداً، ولھذا قال المرحوم المجلسي رحمه االله (يمكن تخصیص الأخبار وكلام
٧١٦ الأصحاب بكون الواجب أفضل من المستحب من نوعه وصنفه)
.
ولكن عندما يدل الدلیل على ذلك فلا مجال لمثل ھذا الاستبعاد.
ويمكن ادعاء انصراف الفريضة إلى الفرائض التعبدية المحضة مثل الصلاة والصوم والحج والزكاة وأمثالھا، لا
الفرائض الأخرى من أمثال إمھال المعسر، ورد السلام وغیرھما، رغم عدم خلو ھذا الكلام أيضاً من الاعتراض.
والحمد الله أوّلاً وآخراً.
الحَديث الخامِس وَالثَلاثون: الحسنات من االله والسَّیئات من الإنسان
بالسَّند المتَّصل إلى عماد الإسلام والمسلمین محمَّد بن يعقوب الكلینيّ ـ رضوان االله علیه ـ عن محمَّد بن
يحیى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: قال أبو الحسن الرِّضا علیه السّلام: «قالَ االلهُ يَا ابْنَ آدَمَ بِمَشِیئَتِي
كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي تَشَاءُ لِنَفْسِكَ مَا تَشَاءُ، وَبِقُوَّتِي أَدَّيْتَ فَرَائِضِي وَبِنِعْمَتِي قَويتَ عَلَى مَعَصِیَتِي، جَعَلْتُكَ سَمِیعاً بَصِیراً
قَويّاً، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ االلهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَیِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ، وَذلِكَ أَنّي أوْلى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَوْلَى
٧١٧ بِسَیِّئَاتِكَ مِنِّي، وَذاك أَنَّني لا أُسْأَلُ عَمّا أَفْعَلُ وَھُمْ يُسْأَلونَ».
الشرح:
في ھذا الحديث الشريف أبحاث سامیة، وأمور ھامّة من العلوم العالیة لما وراء الطبیعة التي إذا أردنا أن نبسط
الحديث فیھا مع بیان المقدمات لطال بنا المقام، ولخرج الكتاب عن حجة المناسب.
٧١٤
مرآة العقول، المجلد ١٠ ،ص ٣٩٢ ـ ٣٩٣ ،ط. دار الكتب الإسلامیة ـ طھران.
٧١٥
مرآة العقول، المجلد ١٠ ،ص ٣٨٢ و٣٨٣ ،ط. دار الكتب الإسلامیة ـ طھران.
٧١٦
مرآة العقول، المجلد ١٠ ،ص ٣٨٣ ،ط. دار الكتب الإسلامیة ـ طھران.
٧١٧
أصول الكافي، كتاب التوحید، باب المشیئة والإرادة، ح٦.
٢٥٦
إذن نضطر سلوك الطريق الوسط، واللجوء إلى الاختصار فنذكر نتائج البراھین العلمیة لبعض المسائل ضمن
فصول عديدة. وَعَلَى االلهِ التُّكْلانُ.
فصل: في بیان الأسماء الحق سبحانه مقامین
إعلم أن لمشیئة الحق المتعالي جلت عظمته، بل لكل الأسماء والصفات مثل العلم والحیاة والقدرة وغیرھا
مقامین: أحدھما: مقام الأسماء والصفات الذاتیة. وقد ثبت بالبرھان أن الذات المقدس الواجب الوجود بحیثیة
واحدة، وجھة بسیطة محضة، مستجمع لجمیع الأسماء والصفات، وعین كل الكمالات. وإن جمیع الكمالات
والأسماء. وصفات الجمال والجلال يعود إلى حیثیة الوجود البسیطة. وكل ما ھو وراء الوجود فھو نقص وقصور
وعدم، حیث أن ذاته المقدس صرف، الوجود. ووجود صرف كان الكمال وكمال صرف «عِلْمٌ كُلُّهُ، قُدْرَةٌ كُلُّهُ، حَیاةٌ
كُلُّهُ».
ثانیھما: مقام الأسماء والصفات الفعلیة، الذي ھو مقام الظھور بالأسماء والصفات الذاتیة، ومرتبة التجلي
. (ومَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ ٧١٨ بالصفات الجمالیة والجلالیة. وھذا المقام ھو مقام معیة القیومیة. (ھُوَ مَعَكُمْ)
. ومقام وجه االله (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ٧١٩ ھُوَ رَابِعُھُمْ)
. ومقام النورية (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض) ٧٢٠
٧٢١
.
. «خَلَقَ االلهُ الأَشْیَاءَ بِالْمَشِیَّةِ ٧٢٢ ومقام المشیئة المطلقة (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِیمًا حَكِیمًا)
٧٢٣ ،ولھذا المقام اصطلاحات وألقاب أخرى على ألسنة أھل االله بِنَفْسِھَا»
.
وقد أشیر إلى ھذين المقامین في الآية الشريفة من الكتاب الإلھي: (ھُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاھِرُ وَالْبَاطِنُ وَھُوَ
٧٢٤ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِیمٌ)
.
ومجمل القول إن مقام المشیئة الفعلیة المطلقة، ذو إحاطة قیومیة لجمیع الموجودات المُلكیة والملكوتیة. وإن
جمیع الموجودات من ناحیة تكون من تعیناتة ومن ناحیة أخرى من مظاھره. وقد قال ھذا الحديث الشريف، عن
مقام المشیئة الفعلیة والمظھرية، وفناء مشیئة العباد في ذلك، بل مظھرية ومرآتیّة العباد وجمیع شؤونھم عن
ذلك: (يَا ابْنَ آدمَ بِمَشِیّئتِي كُنْتَ أنْتَ الْذَّي تَشاءُ لِنَفْسِكَ ما تَشاءُ، وَبِقُوَّتِي أدَّيتَ فَرَائِضِي وَبِنْعمتِي قَوِيَت عَلى
مَعْصِیَتي، جَعَلْتكَ سَمِیعاً بَصیراً قَويَّاً). إن ذاتك وكمالات ذاتك بمشیئتي وقوتي، بل إنك بنفسك وكمالاتك من
مظاھر وتعینات مشیئتي (وَمَا رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَلِكنَّ االلهَ رَمَى).
ولھذا الموضوع العرفاني شواھد كثیرة من القرآن والسنة، لا حاجة لذكرھا ويرى الشیخ الجلیل السھروردي
الأشراقي قدس سره، أن العلم التفضیلي للحق المتعالي بالأشیاء ھو ھذا المقام من العلم الفعلي. وتبعه في
ھذا الموضوع المحقق الطوسي قدس سره. ويرى صدر المتألھین ـ قدس سره ـ أن العلم التفضیلي ھو مقام
الذات البسیط، ولا يوافق قدس سره ھذين الجلیلین على موقفھما بصورة مطلقة.
وأرى بأن جوھر كلامھما، واحد وأن النزاع لفظي ولا يناسب المقام بیان ذلك.
وتبین من ھذا العرض أن كل ما يحصل في ھذا العالم الوجودي سواء كان من الجواھر القدسیة الإلھیة أو
المُلكیة الطبیعیة أو الاعراض أو كان من الذوات والأوصاف والأفعال، فإن كل ذلك يتحقق بقیّومیّة الحق سبحانه
ونفوذ قدرته وإحاطة قوته. وعلیه يصح القول «بِقُوَّتِي أَدَّيْتَ فَرَائِضِي» ومقام المشیئة المطلقة ھذه، مقام الرحمة
الواسعة والنعمة الجامعة كما يقول «وَبِنِعْمَتِي قَويتَ عَلَى مَعْصِیَتِي».
فصل: في الإشارة إلى مسألتي الجبر والتفويض
أشار الإمام الرضا علیه الصلاة والسلام في ھذا الحديث الشريف بكل وضوح إلى مسألتي الجبر والتفويض
والمذھب الحق وھو الأمر بین الأمرين، والمنزلة بین المنزلتین، الموافق لمسلك أھل المعرفة، وأصحاب القلوب،
٧١٨
سورة الحديد، آية: ٤.
٧١٩
سورة المجادلة، آية: ٧.
٧٢٠
سورة البقرة، آية: ١١٥.
٧٢١
سورة القلم، آية: ٣٥.
٧٢٢
سورة الدھر، آية: ٣٠.
٧٢٣
أصول الكافي، كتاب التوحید، باب الإرادة أنھا من صفات الفعل، ح٤.
٧٢٤
سورة الحديد، آية: ٣.
٢٥٧
لأنه أثبت المشیئة والقوة للعبد، وفي نفس الوقت جعلھا مشیئة الحق سبحانه. قائلاً «يَا ابْنَ آدمَ بِمَشْیئَّتي كُنْتَ
أنْتَ الْذَّي تَشاءُ لِنَفْسِكَ مَا تَشاءُ وَبِقُوَّتِي أدَّيتَ فَرائِضِي وبِنعِمَتِي قَويتَ عَلى مَعصِیَتِي» فلا تنتفي الأفعال
والأوصاف والوجودات بصورة مطلقة، كما لا يثبت للإنسان كل تلك الأمور بصورة مطلقة. انك شئت، ومشیئتك قد
فنیت في ومشیئتك مظھر مشیئتي وتعینك مظھر تعیني. وتنھض بقوتك على طاعتي ومعصیتي، مع العلم بأن
قوتك وقدرتك مظھر قدرتي وقوتي.
ولما كان ھناك توھم اشكال واعتراض وھو أنه بناءاً على ھذا العرض المذكور تنسب إلى الحق المتعالي
النقائص والرذائل والمعاصي أيضاً كما تنسب الكمالات والفضائل.
أجاب علیه السّلام على ھذا الزعم على أساس فلسفي برھاني وذوقي عرفاني، من أن الحق عز وجل لمّا
كان كمال صرف وخیر محض وعین الجمال
والبھاء، كانت الكمالات والخیرات من ناحیته، بل إن نظام الوجود، حقیقته في عالم الغیب والشھود، عین
الكمال وأصل الجمال والتمام. وما يعود إلى النقص والرذيله والشرّ والوبال، فھو عائد إلى العدم والتعیّن ومن لوازم
الماھیة. غیر مجعولٍ ومفاضٍ من الحق سبحانه. بل إن الشرور الحاصلة في عالم الطبیعة وھذه النشأة المُلكیة
الضیّقة نتیجة التضاد بین الموجودات، وضیق ھذا العالم، وأن التضاد بین الكائنات لا يكون مجعولاً. فما ھو من
الخیرات والكمالات والحسنات فمن الحق، وما ھو نقص وشر ومعصیة فمن الخلق. كما قال علیة السّلام «مَا
أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ االلهِ وَمَا أَصَاَبَكَ مِنْ سیئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ».
إذن إن جمیع أنواع السعادة الدنیوية والأخروية، وجمیع أنواع الخیر المُلكیة والملكوتیة قد أفیضت من ينبوع
الخیر والسعادة. وإن كافة أنواع الشقاء الدنیوي والأخروي وشرور ھذا العالم والعوالم الأخرى من القصور الذاتي
للموجودات ونقصھا. وما ھو المعروف أن السعادة والشقاء لا يكونان مجعولین بجعل الجاعل، بل إنھما ذاتي
الأشیاء، فلا أساس له بالنسبة إلى السعادة، لأنھا مجعولة ومفاضة من قبل الحق المتعال، إذ أَن كل ذات من
الذوات أو ماھیة من الماھیات لا يكون سعیداً بل ھو ھلاك محض.
وأما بالنسبة إلى الشقاء، فلأن الشقاء التام راجع إلى حیثیة الماھیة وھي غیر مجعولة، لا لأنھا ذاتیة بل لأنھا
أدون من مرتبة الجعل، فلا يتعلق بھا الجعل. وأما الحديث المعروف «السَّعیدُ سَعیدٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالشَّقِيُّ شَقِيٌ
فِي بَطْنِ أُمِّهِ» فله معنىً آخر يعود إلى العلم بالأسماء والأسماء والصفات ولا يناسب المقام ذكره.
وبعد ھذا البیان الصحیح المستدل، نواجه شبھة مظنونة أخرى وھي أننا حسب البیان المذكور عزلنا الكائنات
الموجودة عن الخیر والسعادة، عندما ربطناھا بالحق المتعالي وھذا من الجبر المرفوض. وجعلنا الشرّ والشقاء من
الإنسان وعزلناھا عن القدرة الواجبة وھذا من التفويض المستنكر، وذاك الرفض وھذا الاستنكار ثابتان على مذھب
العرفاء وعلى ضوء الأدلة الفلسفیة فكیف يتمّ التوفیق بین الكلام السابق وما يلازمه من الجبر أو التفويض؟.
فأجاب الإمام صلوات االله وسلامه علیه حسب الدلیل المذكور في الكلام الذي قلنا وتحقیق ذلك. إن الحق
المتعال أولى بالحسنات من العباد وھم أولى بالسیئات من الذات المقدس للحق، وفي إثبات ھاتین الأولوتین،
إثبات الانتساب إلى الطرفین.
أما بیان أولوية الحق سبحانه في الخیر من عباده، فلأجل أن نسبة الخیر إلى مبدأ المبادئ بنیة وجودية
بالذات، فإن الخیر ذاتي الوجود وھو في الواجب عین الذات، وفي الممكن بالجعل والإفاضة، وعلیه يكون مصدر
إفاضة الخیر من الواجب تعالى، ولكن مرآة ظھوره، ومَظْھره يكون الممكن. وتلك النسبة الظاھرية والمفیضة، أتمّ
من ھذه النسبة المظھرية والقابلیة.
وأما في السیئات والشرور فیكون الأمر معكوساً رغم صحة الانتساب إلى الطرفین لأن ما يفاض من الحق
يكون خیراً، ويلازمه تخلّل الشرّ على أساس الانجرار والتبعیة فتكون نسبة الشر إلى الحق بالعرض وإلى الماھیة
بالذات لنقصانھا وقصورھا. وقد تولت الآية الكريمة بیان ھاتین النسبتین. فعندما تتحكم الواحدة وتتلاشى الكثرات
٢٥٨
. ولدى مراعاة الكثرات بالعرض والوسائط يقول االله عز وجل (مَا ٧٢٥ والنقائص يقول سبحانه (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
٧٢٦ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ)
.
فصل: في بیان أن الحق تعالى لا يُسأل عما يفعل وھم يسألون
إعلم: يقول المحققون من الفلاسفة أنه لا يوجد غرض وغاية لأفعال الحق المتعالي سوى ذاته، وتجلّیاته
الذاتیة، ولا يمكن أن يكون لذاته الأقدس في إيجاد الأشیاء ھدف آخر وراء ذاته وظھوره وتجلّیه المقدس. لأن كل
فاعل عندما أوجد شیئا وابتغى من عمله غیر ذاته مھما كانت ھذه الغاية حتى إذا كانت إيصال الفائدة والمثوبة
للغیر، أو كان الغاية العبادة والمعرفة أو الثناء والحمد كان ھذا الفاعل مستكملاً بھذه الغاية وكان وجود ھذا الھدف
بالنسبة إلیه أولى من عدمه، وھذا يستلزم النقص والقصور فیه وانتفاع الفاعل به، وھو محال على الذات
المقدس الكامل على الإطلاق، الغني بالذات الواجب من جمیع الجھات، فلا يستفسر عن أفعاله ولا يوجه إلیه لِمَ
و«لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ». وأما الموجودات الأخرى فإنھا تستبطن في أفعالھا أغراض ومقاصد أخرى غیر ذواتھا. فإن
عشّاق جمال الحق والمقربین إلیه والمجذوبین نحوه يكون ھدفھم البلوغ إلى باب االله، والوصول إلى لقاء االله،
والتقرّب نحو ساحة قدسه الإلھي. وإن الكائنات الأخرى فھي حسب كمالھا ونقصانھا وقوتھا وضعفھا أن
تستھدف، ما ھو زائد على ذواتھا.
وخلاصة القول إن ما يكون كمالاً مطلقاً وواجباً بالذات، كان واجباً من جمیع الجھات. وعندما لا يصح توجیه
الاستفسار نحو ذاته المقدس كانت أفعاله أيضاً بعیدة عن توجیه السؤال نحوھا. على خلاف سائر الموجودات فإنه
يصح السؤال عن سبب وجودھا كما يصح الاستفھام عن أفعالھا.
وأيضاً لما كان ذاته المقدس كاملاً مطلقاً وجمیلاً مطلقاً، صار كعبة لآمال كافة الموجودات وھدفاً منشوداً لجمیع
الكائنات، في حین أنه سبحانه لا مقصد من خلقه وأفعاله ولا كعبة لآماله وراء ذاته، لأن الموجودات الأخرى ناقصة
بالذات، وإن كل ناقص مھروب عنه بالفطرة كما أن كل كامل مرغوب فیه، فالذات المقدس غاية جمیع الحركات
٧٢٧ والأفعال، ولا توجد غاية وراء ذاته المقدس (لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَھُمْ يُسْأَلُونَ)
.
وأيضاً لمّا كان ذاته المقدس في المنتھى الأقصى من الجمال والكمال، كان نظام دائرة الوجود الذي ھو ظل
ذلك الجمال الحق سبحانه، في الغاية القصوى من الكمال الممكن، وعلیه يكون ھذا النظام الكلي المجود أتم
الأنظمة المتصورة، فیكون الاستفھام عن الغاية والغرض والفائدة، منبعثاً عن الجھل والنقص. كما أن إبلیس اللعین
وجّه أسئلة سبعة معروفة من جرّاء جھله، وأجابه االله سبحانه إجمالاً وعلى أساس (وَجادْلھُمْ بالَّتي ھي أَحْسَنْ)
فاالله سبحانه لا يسأل لأن فعله في منتھى الكمال وتُسأل الكائنات الأخرى ٧٢٨ جواباً واحداً عن أسئلته السبعة
لنقصھا الذاتي والفعلي.
وأيضاً إن الحق المتعالي حكیم بصورة مطلقة، فما يصدر منه من الأفعال يكون في منتھى الإتقان فلا يسأل،
في حین أن الموجودات الأخرى تُسأل لأنھا لیست كذلك.
وأيضاً إن كل ما يصدر من وجوده المقدس، فھو صادر من حقیقة ذاته وأصل حقیقته، بینما لم تكن الكائنات
الأخرى كذلك، فھو فاعل بالذات ولا يصح السؤال عمن ھو فاعل بالذات. أما الموجودات الأخرى فھي فاعلة بالعرض
ويصح السؤال عن فعلھا. وحیث أن الإرادة، والمشیئة، والقدرة عین ذاته المقدس، كانت الفاعلیة بالذات عین
الفاعلیة بالإرادة والقدرة. ولا يرد ھنا اعتراض الفاعل بالطبع. وھذا من الأبحاث الشريفة التي ثبتت بالبرھان في
محله، وبه تُحل الكثیر من اعتراضات المتكلمین في أبواب مختلفة من المعارف الإلھیة.
٧٢٥
سورة النساء، آية: ٧٨.
٧٢٦
سورة النساء، آية: ٧٩.
٧٢٧
سورة الأنبیاء، آية: ٢٣.
والأسئلة السبعة على ذكر السید الطباطبائي في تفسیر المیزان ستة منھا نقلاً عن روح المعاني للآلوسي ھي: ١ـ ما الحكمة في ٧٢٨
الخلق لا سیّما وقد كان عالماً أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلاّ النار؟ ٢ـ ما الفائدة في التكلیف مع أنه لا يعود إلیه منه نفع ولا ضرر وكل ما
يعود إلى المكلفین فھو قادر على تحصیله لھم من غیر واسطة التكلیف؟ ٣ـ ھب إنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني بالسجود لآدم؟ ٤ـ
لمّا عصیته في ترك السجود فلِمَ لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغیره فیه، ولي فیه أعظم الضرر؟ ٥ـ أنه لمّا فعل ذلك لِمَ سلّطني
على أولاده وأمكنني من إغوائھم وإضلالھم؟ ٦ـ لمّا استمھلته المدة الطويلة في ذلك فلِمَ أمھلني ومعلوم أنه لو كان العالم خالیاً الشرّ لكان
ذلك خیراً؟ (راجع تفسیر المیزان ـالمجلد الثامن ـ ص ٤٤ من الطباعة الخامسة لمؤسسة الأعلمي لمطبوعات بیروت) (المترجم).
٢٥٩
ويستفاد من البیان الذي ذكرناه، ارتباط الجمل المذكورة في الحديث الشريف بعضھا مع البعض الآخر على
أساس الرابطة العلیة، وذلك أن الحق لا يسأل عن فعله لأن فعله كامل تام، يحتوي على نظام أتم، وأما الآخرون
فلیسوا كذلك فیسألون وذلك لأنه سبحانه أولى بالحسنات والعبد أولى بالسیئات وھو علّة
لصدور السیئات مھما كانت فمن العبد وأما الحسنات فمن الحق عزّ وجلّ.
وھناك بیانات أخرى أيضاً تُبیّن نوعیّة الارتباط بین الفاعل والفعل لم نذكرھا ھنا. والحمد الله أَوَّلاً وآخِراً.
الحَديث السَادِس وَالثَلاثون: الصفات الذاتیّة الله سبحانه
بالسَّند المتّصل إلى ثقة الإسلام محمَّد بن يعقوب الكلینيِّ، عن عليِّ بن إبراھیم، عن محمَّد بن خالد
الطَّیالسيِّ، عن صَفوانَ بنِ يحیى، عن ابنِ مَسكانَ، عن أبي بصیر قال: سَمِعْتُ أبا عبداالله علیه السّلام يَقولُ:
«لَمْ يَزَلِ االله عَزَّ وَجَلَّ رَبَّنَا وَالْعِلْمُ ذَاتُهُ وَلاَ مَعْلومَ، وَالسَّمْعُ ذَاتُهُ وَلاَ مَسْمُوعَ، وَالْبَصَرُ ذَاتُهُ وَلاَ مُبْصَرَ، وَالْقُدْرَةُ ذَاتُهُ وَلاَ
مَقْدورَ؛ فَلمّا أَحْدَثَ الأَشْیَاء وَكَانَ المَعْلُومُ وَقَعَ العِلْمُ مِنْهُ عَلَى المَعْلومِ وَالسَّمْعُ عَلَى المَسْموعِ وَالْبَصَرُ عَلَى
المُبْصَرِ وَالقُدْرَةُ عَلَى المَقْدورِ. قالَ: قُلْت: فَلَمْ يَزَلِ االلهُ مُتَحَرِّكاً؟ قالَ: فَقالَ: تَعالَى االلهُ عَنْ ذلِكَ، إنَّ الحَرَكَةَ صِفَةٌ
مُحْدَثَةٌ بالفِعْلِ. قال: فَقُلْتُ: فَلَمْ يَزَلِ االلهُ مُتَكَلِّماً؟ قَالَ: فَقالَ: إنَّ الكَلاَمَ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ لَیْسَتْ بِأَزَلِیَّةٍ كَانَ االلهُ عَزَّ وَجَلَّ
٧٢٩ وَلا مُتَكَلِّمَ»
.