· في تزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر بن الخطاب
فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتموه من النص لما زوج أمير المؤمنين عليه السلام بنته من عمر، وفي تزويجه إياها دليل على أن الحال بينهم كانت عامرة بخلاف ما تدعونه ويدعي كثير منكم أن دافعه كافر.
قلنا: في أصحابنا من أنكر هذا التزويج، وفيهم من أجازه وقال فعل ذلك لعلمه بأنه يقتل دونها، والصحيح غير ذلك وأنه زوجها منه تقية، لأنه جرت ممانعة إلى أن لقي عمر العباس وقال له ما هو معروف، فجاء العباس إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: ترد أمرها إلي. ففعل فزوجها منه حين ظهر له أن الأمر يؤول إلى الوحشة.
وروي عن الصادق عليه السلام في ذلك ما هو معروف.
على أن من أظهر الشهادتين وتمسك بظاهر الاسلام يجوز مناكحته، وههنا أمور متعلقة في الشرع بإظهار كلمة الاسلام كالمناكحة والموارثة والمدافنة والصلاة على الأموات وغير ذلك من أحكام أخر، فعلى هذا يسقط السؤال.
· في الرد على من يقول كيف يكون النص على أمير المؤمنين صحيحا ويقول العباس له تعال حتى نسأل النبي عليه السلام عن هذا الأمر فإن كان فينا عرفناه وإن كان في غيره أوصاه بنا
فإن قيل: كيف يكون النص صحيحا ويقول العباس له: تعال حتى نسأل النبي عليه السلام عن هذا الأمر، فإن كان فينا عرفناه وإن كان في غيره أوصاه بنا. ويقول له في دفعة أخرى: أمدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف علين اثنان ولو كان منصوصا عليه لما احتاج إلى ذلك وكان لا يخفى على العباس.
قلنا: أما رغبته إلى سؤال النبي لم يكن لشك في مستحق الأمر، وإنما قال ذلك ليعلم هل يثبت ذلك فيهم ويسلم لهم أم لا، فلذلك أراد مسألته لا عن موضع الاستحقاق.
وأما مبايعته فقد بينا أنه إنما طلب ذلك لما رأى أن القوم يتحادثون الأمر من جهة الاختيار وتركوا النص ودخلت إليه شبهة بين الأكثر أراد أن يحتج عليهم بمثل ما هم يطلبون، فلم يجبه أمير المؤمنين عليه السلام لما علمه من جهة النبي وما يؤول الأمر إليه فلذلك لم يجب العباس إلى ما دعاه إليه.
· في الرد على من يقول كيف يكون منصوصا على أمير المؤمنين وهو يعين من تقدمه في كثير من الأحكام
فإن قالوا: كيف يكون منصوصا عليه وهو يعينهم في كثير من الأحكام مستفهما ومستفتيا، فكان يجب أن ينقض أحكامهم لما أفضى إليه الأمر وكان ينبغي أن يسترد فدكا إلى أربابها، وفي عدوله عن ذلك دليل على بطلان ما تدعونه.
لنا: أما فتياه لهم فمما لا يسوغ له الامتناع منه، لأن عليه إظهار الحق والفتوى إذا لم يخف وآمن الضرر، ولا سؤال على من أظهر الحق وإنما السؤال فيمن أبطن.
وأما إقراره أحكام القوم فإنه لم يمكن خلاف ذلك وإنما أفضي الأمر إليه بالاسم دون المعنى، وأكثر من بايعه كان معتقدا لإمامة القوم، فكيف يتمكن من نقض أحكامهم، ولذلك قال لقضاته وقد سألوه: بم نحكم؟ فقال: اقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي -يعني من مات من شيعته- وخالف في مسائل علم شاهد الحال بأن الخلاف فيها لا يوحش وأمسك عما يورث الوحشة.
وأما فدك فإنما لم يردها لما قلناه من التقية وإن ردها يؤدي إلى تظلم القوم وتخطئتهم فعدل عن ذلك. على أن فدكا كانت حقا له ولمن له عليه ولاية، ومن له حق له أن يترك المطالبة به لبعض الأغراض.
وفي أصحابنا من قال: الخصم في فدك كانت فاطمة عليها السلام وأوصت إليه بأن لا يتكلم فيها لتكون هي المخاصمة يوم القيامة لما جرى بينها وبين من دفعها من الكلام المعروف حتى قالت له: "ستجمعني وإياك يوم يكون فيه فصل الخطاب".
فأما الكلام في استحقاق فاطمة عليها السلام فدك بالنحلة أو الميراث فقد استوفيناه في تلخيص الشافي وطرف منه في شرح الجمل لا نطول بذكره ههنا.
وأما ما يعارضون به ويذكرونه من الآيات نحو قوله تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} وقوله {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} وغير ذلك من الآيات، وأن ذلك يمنع من وقوع خطأ منهم يدفع النص.
فقد بينا الوجه فيها مستوفى في تلخيص الشافي وطرفا منه في شرح الجمل والمفصح في الإمامة وغير ذلك من كتبنا لا نطول بذكره ههنا، وفيما ذكرناه كفاية إنشاء الله.
· في الاستدلال على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل بخبر الغدير
الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 215 - 222
ومما يدل على إمامته عليه السلام الخبر المعروف الذي لم يدفعه أحد من أهل العلم يعتد بقوله، أن النبي صلى الله عليه وآله حين انصرف من حجة الوداع وبلغ الموضع المعروف بغدير خم نزل ونادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فلما رآهم رقى الرحال وخطب خطبة معروفة ثم أقبل على الناس فقال: ألست أولى منكم بأنفسكم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فقال عاطفا على ذلك: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. فأتى بلفظ "أولى" وقررهم بها على فرض طاعته ثم عطف بجملة أخرى عليها محتملة لها ولغيرها، فوجب حملها على مقدميها بموجب استعمال أهل اللغة، فوجب بذلك أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام مفترض الطاعة كما كان النبي صلى الله عليه وآله كذلك، وفرض الطاعة يفيد الإمامة فوجب أن يكون إماما.
وهذه الجملة تحتاج إلى بيان أشياء: أحدها أن نبين صحة الخبر، والثاني أن نبين أن لفظة "المولى" تفيد أولى في اللغة، ثم نبين أنها أرادت ذلك في الخبر دون غيره من الأقسام.
والذي يدل على صحة الخبر تواتر الشيعة به خلفا عن سلف على ما بيناه في التواتر بالنص الجلي، وكلما يسأل عليه من الأسئلة فالجواب عنه ما تقدم.
وأيضا فقد رواه أصحاب الحديث من طرق كثيرة لم يرد في الشريعة خبر متواتر أكثر طرقا منه، فإنه روى الطبري من نيف وسبعين طريقا وابن عقدة من ماءة وخمس وعشرين طريقا.
فإن لم يثبت بذلك صحته فليس في الشرع خبر صحيح. [وأيضا فأمير المؤمنين عليه السلام احتج به يوم الشورى فلم ينكره أحد ولا دفعه، فدل على صحته].
وأيضا أجمعت الأمة على صحته وإن اختلفوا في معناه، وما يحكى عن ابن أبي داود من جحده له ليس بصحيح، لأنه إنما أنكر المسجد المعروف بغدير خم ولم يجحد نفس الخبر، وخلافه أيضا لا يعتد به لأنه سبقه الإجماع وتأخر عنه.
وأيضا إذا ثبت أن مقتضاه الإمامة على ما ثبت ثبتت صحته، لأن الأمة بين قائلين: قائل يقول مقتضاه الإمامة فهو يقطع على صحته، وقائل يقول ليس مقتضاه الإمامة فيقول هو خبر واحد.
وأما الذي يدل على أن "مولى" يفيد الأولى قول أهل اللغة: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في قوله تعالى "النار مولاهم" قال: معناه أولى بهم، واستشهد ببيت لبيد:
قعدت كلى الفرجين يحسب أنهمولى المخافة خلفها وإمامها
وقول أبي عبيدة حجة في اللغة، وقال الأخطل يمدح عبد الملك بن مروان:
فأصبحت مولاهم من الناس كلهموأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
أي أولى الناس بها.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال "أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل" وفي خبر آخر "بغير إذن وليها"، وأراد بذلك من هو أولى بالعقد عليها.
وقد حكينا عن المبرد أنه قال: مولى وولي وأولى وأحق بمعنى واحد فمن عرف عادة أهل اللغة عرف صحة ما قلناه.
وإذا ثبت ذلك فالذي يدل على أن المراد به في الخبر الأولى ما قلناه من أن النبي عليه السلام قدم جملة ثم عطف عليها بأخرى محتملة لها ولغيرها فوجب حملها على مقدمتها وإلا أدى إلى أن يكون عليه السلام ملغوا في كلامه واضعا له في غير موضعه، وذلك لا يليق به عليه السلام.
ألا ترى أن القائل إذا أقبل على جماعة فقال: ألستم تعرفون عبدي سالما، فإذا قالوا بلى، قال فاشهدوا أن عبدي حر، لم يفهم من كلامه إلا عتق العبد الذي تقدم تقريرهم على معرفته، ولو أراد غيره لكان ملغوا، وإذا قال لهم: ألستم تعرفون ضيعتي الفلانية، فإذا قالوا بلى قال لهم فاشهدوا أن ضيعتي وقف لم يحمل ذلك إلا على الضيعة التي قررهم على معرفتها.
هذا هو المعهود من الكلام الفصيح.
وليس لأحد أن يقول: أليس لو قال مصرحا بعد تقريرهم على فرض طاعته "فمن يجب عليه طاعتي فيحب عليا" كان جائزا، فهلا جاز ذلك في غير المصرح، وذلك أنه ليس كلما حسن في التصريح حسن في الاحتمال.
ألا ترى أنه لو قال: ألستم تعرفون ضيعتي الفلانية، فإذا قالوا بلى، قال بعد ذلك فاشهدوا أن ضيعتي التي تحتها وقف. مصرحا بها كان ذلك جائزا مفيدا، أو لا يجوز ذلك مثل ذلك إذا قال كلاما محتملا على ما مضى بيانه، والفرق بين المصرح به والمكنى عنه واضح.
والذي يدل على أن لفظة "أولى" تفيد الإمامة وفرض الطاعة استعمال أهل اللغة، لأنهم يقولون "السلطان أولى بتدبير رعيته من غيره" و "ولد الميت أولى بميراثه من غيره ممن ليس بولد" و "المولى أولى بعبده من غيره" يعني بفرض طاعته عليه، ولا خلاف بين المفسرين أن قول النبي صلى الله عليه وآله "أولى بالمؤمنين من أنفسهم" المراد به ومعناه أولى بتدبيرهم وفرض طاعتهم ولا يكون أحد أولى بتدبير الأمة إلا من كان نبيا أو إماما، وإذا لم يكن نبيا وجب أن يكون إماما.
وأيضا فلا خاف أن النبي عليه السلام كان أولى بنا من حيث فرض الطاعة، وإذا حصل له هذه المنزلة وجب أن يكون مفترض الطاعة علينا، وإنما يعلم وجوب فرض طاعته على جميع الأمة في جميع الأشياء من حيث أن النبي عليه السلام كان كذلك وقد جعله بمنزلته فوجب أن يثبت له ذلك.
وأيضا فكل من أوجب لأمير المؤمنين عليه السلام بهذا الخبر فرض الطاعة في شئ من الأشياء أثبته في جميع الأشياء، والتفرقة بينهما خلاف الإجماع.
وليس لأحد أن يقول: كيف يكون المراد به الإمامة وهي لم تثبت في الحال، والخبر يوجب ثبوت المنزلة في الحال، فلا دلالة لكم في الخبر. وذلك أنا إذا قلنا المراد به فرض الطاعة واستحقاق لها فذلك كان حاصلا له في الحال، فسقط السؤال.
فإذا قلنا المراد به الإمامة فإنه وإن اقتضاها في الحال فهو يقتضيها في الحال وفيما بعده إلى وقت خروجه من الدنيا، فإذا علمنا أنه لم يكن مع النبي عليه السلام في حال حياته إمام بالاجماع بقي ما بعده على جملته.
ولا يمكن حمله على بعد عثمان، لأن أحدا لم يثبت له الإمامة بعد عثمان بهذا الخبر إلا وأثبتها قبله بعد النبي، ومن خصصه ببعد عثمان أثبت إمامته بالاختيار لا بهذا الخبر، واستحقاقه عليه السلام، الإمامة بهذا الخبر مثل استحقاق الوصي الوصية بقول الموصي (فلان وصيي)، فإنه تثبت له الوصية في الحال وإن كان التصرف ليس له إلا بعد الوفاة.
وكذلك استحقاق الإمامة كان حاصلا في الحال وإن وقف التصرف على بعد الوفاة، لأن وجود النبي صلى الله عليه وآله كالمانع من التصرف في حال وجوده، مثل قول المستخلف (فلان ولي عهدي) فإنه يثبت استحقاقه في الحال وإن كان التصرف واقعا على بعد الوفاة.
طريقة أخرى:
وهي أن نقول: إذا بينا أقسام المولى كلها وأفسدناها عدا الأول دل على أنه المراد وإلا بطلت فائدة الخبر وذلك لا يجوز. من أقسامه المعتق والمعتق والحليف والجار والصهر والإمام والخلف، وهذا كله معلوم بطلانه، فلا يحتاج إلى إفساده.
ومن أقسامه ابن العم، ولا يجوز أن يكون ذلك مرادا، لأنه معلوم ضرورة أنه ابن عمه ولا فائدة في ذلك. ومن أقسامه الموالاة في الدين، ولا يجوز أن يكون ذلك مرادا، لأنه ليس فيه تخصيص له، لأنها واجبة لجميع المؤمنين بالاجماع وبقوله تعالى {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}.
ومن أقسامه ولاء العتق، فلا يجوز أن يكون مرادا، لأن ذلك معلوم من دينه، وكان قبل الشرع أيضا معلوما أن ولاء العتق يستحقه ابن العم، وبذلك ورد الشرع.
ولا يليق ذلك لمثل ذلك الوقت والمكان، وقول عمر "بخ بخ يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة" ولا يليق شيء من ذلك.
وليس لأحد أن يقول: احملوه على الموالاة ظاهرا وباطنا. وذلك أن هذا ليس بمستعمل في اللغة ولا يفهم من كلامهم، ولا يجوز أن يحمل اللفظ على ما لم يوضع له في اللغة.
ومتى قيل: يحمل على ذلك، لأنه أثبت الموالاة كما أثبتها لنفسه. قيل: إنما وجب الموالاة للنبي عليه السلام ظاهرا وباطنا من حيث كان نبيا، وإذا كانت النبوة مرتفعة عنه لم تجب الموالاة له باطنا. على أنه إنما يجب حمله على ما قالوه إذا لم يمكن حمله على ما تقتضيه اللغة، وقد بينا أنه إذا حمل على أنه مفترض الطاعة وأولى بتدبير الأمة كان محمولا على ما تشهد له اللغة ولا يحتاج إلى هذا التمحل.
فإذا فسدت الأقسام كلها لم يبق إلا أنه أراد فرض الطاعة والاستحقاق للإمامة.
وقد قيل: أنه إذا كان من أقسامه فرض الطاعة والأولى بتدبير الأمة وجب حمل ذلك على جميعه إلا ما أخرجه الدليل.
وأيضا فقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم فهموا من الخبر فرض الطاعة والإمامة، منها قول عمر الذي قدمناه وذلك لا يليق إلا بما قلناه، ومنها قول حسان بن ثابت:
يناديهم يوم الغدير نبيهم بخم وأسمع بالرسول مناديا
يقول ومن مولاكم ووليكم فقالوا ولم يبدوا هناك التعاديا
إلهك مولانا وأنت وليناولن تجدن منا لك اليوم عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه وكن للذي عادى عليا معاديا
وقال قيس بن سعد بن عبادة:
قلت لما بغى العدو علينا حسبنا ربنا ونعم الوكيل
حسبنا ربنا الذي فتح البصرة بالأمس والحديث طويل
وعلي إمامنا وإمام نسواننا أتى به التنزيل
يوم قال النبي من كنت مولاه فهذا مولاه خطب جليل
وقول حسان كان بمرأى من النبي صلى الله عليه وآله ومستمع منه، فلو لم يرد به الإمامة لأنكر عليه وقال له غلطت ما أردت ذلك وأردت به كيت وكيت، فلما لم ينكر ذلك دل على ما قلناه.
واستقصاء الكلام على هذا الخبر ذكرناه في كتاب تلخيص الشافي وشرح الجمل وغير ذلك، فلا نطول به ههنا.
· في الاستدلال على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
الاقتصاد - الشيخ الطوسي - ص 222 - 226
ومما يدل على إمامته عليه السلام ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" فأثبت له جميع منازل هارون من موسى إلا ما استثناه لفظا من النبوة، وعرفنا بالعرف أنه لم يكن أخاه لأبيه وأمه، وقد علمنا أن من منازل هارون من موسى أنه كان مفترض الطاعة على قومه وأفضل رعيته ممن شد الله به أزره، فيجب أن تكون هذه المنازل ثابتة له، وفي ثبوت فرض طاعته ثبوت إمامته.
وقد نطق القرآن ببعض منازل هارون من موسى، قال الله تعالى حكاية عن موسى أنه سأله تعالى فقال {اجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * أشدد به أزري * وأشركه في أمري} وفي آية أخرى {أخلفني في قومي وأصلح} وقال الله تعالى {قد أوتيت سؤلك يا موسى}، فوجب بتلك ثبوت هذه المنازل لأمير المؤمنين عليه السلام.
والطريق الذي به صح هذا الخبر هو ما قدمناه في خبر الغدير من تواتر الشيعة به ونقل المخالفين له على وجه التواتر والاجماع على نقله وإن اختلفوا في تأويله، واحتجاجه به في يوم الدار والاجماع على نقله، وكل ذلك موجود ههنا.
وأيضا فقد ذكره البخاري ومسلم بن الحجاج في صحيحيهما، والطريق إلى تصحيح الأخبار هو ما قلناه.
وأيضا فإذا ثبت أن مقتضاه ما قلناه قطع على صحته، ومن لم يقطع لم يقل أن مقتضاه فرض الطاعة، والفرق بين القولين خروج عن الإجماع.
وهارون وإن مات في حياة موسى عليه السلام فكان ممن لو عاش لبقي على ما كان عليه من استحقاق فرض الطاعة على قومه، وإذا جعل النبي عليه السلام منزلة علي مثل منزلته سواء وبقي عليه السلام إلى بعد وفاته، وجب أن تثبت له هذه المنزلة.
وليس لأحد أن يقول: لو بقي هارون إلى بعد وفاته لكان مفترض الطاعة لمكان نبوته لا بهذا القول، وإذا كان علي عليه السلام لم يكن نبيا فكيف يثبت له فرض الطاعة، وذلك أن فرض الطاعة ثبت في النبي والإمام، وهي منفصلة من النبوة فلا تجب بانتفاء النبوة انتفاؤها، بل لا يمتنع أن تنتفي النبوة ويثبت فرض الطاعة، [وإذا كان النبي عليه السلام قد أثبت له هذه المنزلة وانتفت النبوة لم يجب انتفاء فرض الطاعة].
ألا ترى أن القائل لو قال لوكيله: أعط فلانا كذا لأنه استحق علي من ثمن مبيع، ثم قال: وأنزل فلانا آخر بمنزلته. فإنه يجب أن يعطيه مثل ذلك وإن لم يكن استحق من ثمن مبيع، بأن يكون استحقه عليه من وجه آخر أو ابتداءا هبة منه، وليس للوكيل منعه، وأن يقول: ذلك استحقه من ثمن المبيع وأنت فما بعته شيئا فلا تستحق، لأن العقلاء يوجبون على الوكيل العطية ولا يلتفتون إلى هذا الاعتذار ولا هذا القول.
فإن قيل: تقديره أن هارون لو بقي لاستحق فرض الطاعة، والخلافة منزلة مفردة لا توصف بأنها منزلة، كما لا توصف صلاة سادسة بأنها من الشرع على تقدير أنه لو تعبدنا بها لكانت من الشرع.
قلنا: المقدر إذا كان له سبب استحقاق يوصف بأنه منزلة. ألا ترى أن الدين المؤجل يوصف بأنه يستحق كما يوصف الدين الحال بذلك، ولا توصف الصلاة السادسة بأنها من الشرع لأن ليس بها سبب وجوب، ولو قال إذا كان بعد سنة فصلوا صلاة سادسة لوصفت بأنها من الشرع، وفرض الطاعة بعد الوفاة له سبب وجوب في الحال فجاز أن يوصف بأنه منزلة.
ونظير ذلك أن يستخلف الخليفة ولي عهد بعده جاز أن يوصف بأن ذلك منزلة لولي العهد وكذلك من أوصى إلى غيره جاز أن يوصف بأنه يستحق الوصية إن كان التصرف واقفا إلى بعد الوفاة.
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وآله جعل هذه المنازل لأمير المؤمنين بعده بقوله "لا نبي بعدي"، وكما أن من حق الاستثناء أن يخرج الكلام ما لولاه لكان ثابتا.
ألا ترى أن القائل إذا قال (ضربت غلماني كلهم إلا زيدا في الدار) أفاد ضرب من ضربه في الدار وترك من تركه مثل ذلك، وإذا كان النبي عليه السلام جعل استثناء هذه المنازل بعده فيجب أن يثبت له ما عدا الاستثناء بعده.
والمعتاد من لفظة (بعدي) في العرف بعد الموت، كما يقولون: هذا وصيي بعدي وولي عهدي بعدي وأنت حر بعدي.
فليس لأحد أن يقول: إن المراد ب "بعدي" بعد نبوتي، لما لو سلمنا أنه لو أراد بعد نبوتي لدخل فيه الأحوال كلها ومن جملتها بعد وفاته.
فإذا قيل: يلزم أن يكون مفترض الطاعة في الحال وأن يكون إماما. قلنا: أما فرض الطاعة قد كان حاصلا له في الحال، وإنما لم يأمر لوجود النبي عليه السلام، وكونه إماما وإن اقتضاه في الحال فإنه يقتضيه أيضا بعد الوفاة فأخرجنا حال الحياة منها لمكان الإجماع على أنه لم يكن مع النبي عليه السلام إمام وبقي الباقي على عمومه.
وليس لأحد أن يحمله على بعد عثمان، لأن ذلك خلاف الإجماع، فإن أحدا من الأمة لم يثبت إمامته بهذا الخبر بعد عثمان دون ما قبله، ومن أثبت ذلك أثبته بالاختيار، ومن أثبت إمامته بهذا الخبر أثبتها بعد النبي إلى آخر عمره، فالفرق بين الأمرين خلاف الإجماع.
وليس لأحد أن يقول: قوله "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" يقتضي إثبات منزلة واحدة، لأنه لو أراد أكثر من ذلك لقال أنت مني بمنازل.
وذلك أن هذا يفسد من وجهين: أحدهما أنه لو أراد منزلة واحدة فدخول الاستثناء عليه دليل على أنه أراد أكثر من منزلة واحدة.
والثاني أن الأمة بين قائلين: قائل يقول أن الخبر خرج على سبب فهو يقصره عليه، وقائل يقول المراد جميع المنازل. وإذا بينا فساد خروج الخبر على سبب ثبت القول الآخر.
والذي يدل على فساد ذلك أن رواية ما يذكره من السبب طريقه الآحاد، والخبر معلوم، ولو صح السبب لما وجب قصر الخبر على سببه عند أكثر المحققين.
وأيضا فقد روي هذا الخبر وأن النبي صلى الله عليه وآله قاله في مقام بعد مقام وفي أوقات لم يكن فيها السبب المدعي.
فإن قيل: لو أراد الخلافة لقال (أنت مني بمنزلة يوشع بن نون)، لأن هذه المنزلة كانت حاصلة ليوشع من موسى بعد وفاته. قلنا هذا فاسد من وجوه: أحدها: إذا كان الخبر دالا على ما قلناه على المراد فتمني أن يكون على وجه آخر اقتراح في الأدلة، وذلك لا يجوز وكان ذلك يلزم في أكثر الأدلة وأكثر الظواهر، وذلك باطل بالاتفاق.
ومنها: أن خلافة يوشع ليست معلومة وإنما يذكرها قوم من اليهود، وخلافة هارون من موسى نطق بها القرآن.
وقيل: إن يوشع كان نبيا موحى إليه لم يعترف موسى بعد بخلافته بالوحي والخلافة كانت في ولد هارون.
ومنها: أن النبي عليه السلام جمع له المنازل زيادة على الاستخلاف، فلم يجز أن يشبه ذلك بيوشع.
وقد تكلمنا على ما يتفرع على هذه الجملة في هذا الخبر والذي قبله في تلخيص الشافي وشرح الجمل، فلا نطول بذكره ههنا لأن فيما ذكرناه كفاية إنشاء الله.