الأربعون حديثاً
بسم االله الرحمن الرحیم:
المقَدّمة
الحمد الله رب العالمین والصّلاة على محمد وآله أجمعین ولعنة االله على أعدائھم إلى يوم الدين.
إلھي: ـ أنر مرآة القلب بنور الإخلاص، وآجلُ عن صفحة القلب صدأ الشرك، وأھد ھؤلاء المساكین في بیداء
الحیرة والضلالة إلى جادة السعادة والفلاح الواسعة...
ووفقنا للتخلق بالأخلاق الكريمة وأجعل لنا نصیباً مما اختصصت به أولیاءك من نفحاتك وألطافك الخاصة...
وأخرج من مملكة قلوبنا جنود الشیطان والجھل، وأحل محلھا جنود العلم والحكمة والرحمن...
وأخرجنا من ھذا العالم بحبك وحب من خصصتھم بقربك... وعاملنا برحمتك حین الموت وبعده...
وأقرن عاقبة أمرنا بالسعادة بحق محمد وآله الطاھرين.
وبعد... يقول ھذا العبد الفقیر الضعیف: كنت أحدث نفسي منذ فترة، بأن أجمع أربعین حديثا من أحاديث أھل
بیت العصمة والطھارة، المدونة في الكتب المعتبرة للأصحاب والعلماء رضوان االله علیھم، وأن أشرح كلّ حديثٍ
شرحاً يتناسب وفھم العامة. ومن ھذا المنطلق كتبتھا باللغة الفارسیة كي ينتفع منھا الذين ينطقون بالفارسیة.
ولعَلّي بذلك ـ إن شاء االله ـ أصبح ممن يشمله الحديث الشريف لخاتم الأنبیاء صلّى االله علیه وآله وسلم حیث
١ يقول: «مَنْ حَفَظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِینَ حَدِيثاً يَنْتَفِعُونَ بِھا بَعَثَهُ االله يَوْمَ القِیَامَةِ فَقِیھاً عَالِماً»
إلى أن وفّقت للبدء
بذلك. من االله تعالى أطلب التوفیق لإتمامه إنه ولي التوفیق.
الحديث الأول: جھَاد النفس
عن أبي عبداالله (الإمام جعفر الصادق علیه السلام) أن النبي صلّى االله علیه وآله وسلم بعث سريّة، فلمَّا
رجعوا، قال: مَرْحَباً بِقَومٍ قَضُوا الجھادَ الأصْغر وَبَقِي عَلَیھِمْ الجِھادُ الأكْبر، فقِیل: يَا رَسُولَ االله وَمَا الجھَادُ الأكْبر؟ قال:
«جِھادُ النفس»
٢
٣ أخبرني
إجازة مكاتبةً ومشافھةً عدّة من المشايخ العظام، والثقاة الكرام: منھم الشیخ العلامة المتكلم،
الفقیه الأصولي الأديب المتبحر الشیخ محمد رضا آل العلامة الوفي الشیخ محمد تقي الأصفھاني أدام االله توفیقه
حین تشرفه بقم المشرفة.
والشیخ العالم الجلیل المتعبد الثقة الثبت الحاج الشیح عباس القمي دام توفیقه. وكلاھما عن المولى العالم
الزاھد العابد الفقیه المحدث المیرزا حسین النوري نوَّر االله مرقده الشريف عن العلامة اشیخ مرتضى الأنصاري
قدس االله سره.
ومنھم السید السند الفقیه المتكلم الثقة الثبت العلامة السید محسن الأمین العاملي أدام االله تأيیداته، عن
الفقیه العلامة صاحب المصنفات العديدة السید محمد بن ھاشم الموسوي الرضوي الھندي المجاور في النجف
الأشرف حیاً ومیتاً قدس االله سره، عن العلامة الأنصاري.
ومنھم العالم الثقة الثبت السید أبو القاسم الدھكردي الأصفھاني، عن السید السند الأمجد المیرزا محمد
ھاشم الأصفھاني قدس سره، عن العلامة الأنصاري. ولنا طرق أخرى غیر منتھیة إلى الشیخ تركناھا، عن
المولي الأفضل أحمد النراقي،
عن السید مھدي الملقب «بحر العلوم» صاحب الكرامات ـ رضوان االله علیه ـ عن أستاذ الكل الآقا محمد باقر
البھبھاني، عن والده الأكمل محمد أكمل، عن المولى محمد باقر المجلسي، عن والده المحقق المولى محمد
١
صحیفة الرضا ـ ح ١١٤ ـ وفي كتاب عیون أخبار الرضا ـ ج٢ ـ ح٩٩ .من حفظ من أمتي بدلاً على أمتي.
٢
(فروع الكافي ـ ج ٥ ـ كتاب الجھاد ـ باب وجوه الجھاد ـ ص ٣.(
٣
لم يذكر الإمام رضوان االله تعالى علیه تاريخ بداية التألیف. ولكن قدّس سرّه قد ذكر في نھاية كتابه ھذا أنه فرغ منه يوم الجمعة ٤ ـ
محرم ـ ١٣٥٨ ھـ الموافق ٢٤ ـ ٢ ـ ١٩٣٩ م وعلیه بمضي على تألیف الكتاب نصف قرن تقريبا.
تقي المجلسي، عن الشیخ المحقق البھائي، عن والده الشیخ حسین، عن الشیخ زين الدين الشھیر بالشھید
الثاني، عن الشیخ علي بن عبدالعالي المیسي، عن الشیخ شمس الدين محمد ابن المؤذن الجزيني، عن
الشیخ ضیاء الدين علي، عن والده الحائز للمرتبتین الشیخ شمس الدين محمد بن مكي، عن الشیخ أبي طالب
محمد فخر المحققین، عن والده آية االله الحسن بن مطھر العلامة الحلي، عن الشیخ أبي القاسم جعفر بن
الحسن بن سعید الحلي المحقق على الإطلاق، عن السید أبي علي فخار بن معد الموسوي، عن الشیخ
شاذان بن جبرائیل القمي، عن الشیخ محمد بن أبي القاسم الطبري، عن الشیخ أبي علي الحسن، عن والده
شیخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ـ رحمه االله ـ جامع «التھذيب والأستبصار» عن إمام الفقھاء
والمتكلمین، الشیخ أبي عبداالله محمد بن النعمان «الشیخ المفید» عن شیخه رئیس المحدثین الشیخ أبي
جعفر بن علي بن الحسین بن موسى بن بابويه القمي، صاحب كتاب «من لا يحضره الفقیه» عن الشیخ أبي
القاسم جعفر بن قولويه، عن الشیخ الأجل ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكلیني، صاحب «الكافي»، عن علي
بن ابراھیم، عن أبیه، عن النوفلي عن السكوني، عن أبي عبداالله (الإمام جعفر الصادق علیه السّلام) أن النبيَّ
صلّى االله علیه وآله وسلّم، بَعَثَ سَرَيَّةً، فَلَمَّا رَجَعُوا، قال: مرْحَباً بِقَوْم قضوا الجھادَ الأصْغَر وَبَقِىَ عَلَیْھِمُ الجِھادُ
٤ الأكْبَر، فقیل: يَا رَسْولَ االله وَمَا الجِھَادُ الأَكْبَر؟ قال: «جِھَادُ النفسَ»
.
الشرح:
إن «السرية» قطعة من الجیش. ويقال خیر السرايا أربعمائة رجل. وأما باقي مفردات الحديث فواضحة.
اعلم أن الإنسان كائن عجیب، له نشأتان وعالمان: نشأة ظاھرية ملكیة دنیوية ھي بدنه، ونشأة باطنیة غیبیة
ملكوتیة تكون من عالم آخر، إن لروح الإنسان التي ھي من عالم الغیب والملك وت مقامات ودرجات قسَّموھا
بصورة عامة إلى سبعة أقسام حیناً، وإلى أربعة أقسام حیناً ثانیاً، وإلى ثلاثة أقسام حیناً ثالثاً، وإلى قسمین حیناً
رابعاً. ولكل من المقامات والدرجات جنود رحمانیة وعقلانیة تجذب النفس نحو الملكوت الأعلى وتدعوھا السعادة.
وجنود شیطانیة وجھلانیة تجذب النفس نحو الملكوت السفلي وتدعوھا للشقاء. وھناك دائماً جدال ونزاع بین
ھذين المعسكرين، والإنسان ھو ساحة حربھما، فإذا تغلبت جنود الرحمن كان الإنسان من أھل السعادة والرحمة
وانخرط في سلك الملائكة وحُشِرَ في زمرة الأنبیاء والأولیاء والصالحین.
وأما إذا تغلب جند الشیطان ومعسكر الجھل، كان الإنسان من أھل الشقاء والغضب (غضوب الله سبحانه)،
وحُشِرَ في زمرة الشیاطین والكفار والمحرومین.
وحیث أن ھذه الأوراق لیست محلاً للتفصیل والشرح، أشیر ھنا بصورة إجمالیة إلى مقامات النفس وأوجه
سعادتھا وتعاستھا، وأوضّح كیفیة مجاھدتھا إن شاء االله.
المقام الأول: وفیه عدة فصول
فصل: إشارة إلى المقام الأول للنفس
اعلم أن مقام النفس الأول ومنزلھا الأدنى والأسفل، ھو منزل الملك والظاھر وعالمھما. وفي ھذا المقام تتألق
الأشعة والأنوار الغیبیة في ھذا الجسد المادي والھیكل الظاھري، وتمنحه الحیاة العرضیة، وتجھز فیه الجیوش،
فتكون ساحة معركة النفس وجھادھا نفس ھذا الجسد، وجنودھا ھي قواھا الظاھرية التي وجدت في الأقالیم
الملكیة السبعة وھي: «الأذن والعین واللسان والبطن والفرج والید والرجل». وتكون جمیع ھذه القوى المتوزعة
في تلك الأقالیم السبعة، تحت
تصرف النفس في مقام الوھم، فالوھم سلطان جمیع القوى الظاھرية والباطنیة للنفس، فإذا تحكم الوھم
على تلك القوى سواء بذاته ـ مسقلاً ـ وبتدخل الشیطان، جعلھا ـ أي تلك القوى ـ جنوداً للشیطان، بذلك يجعل
ھذه المملكة تحت سلطان الشیطان، وتنه زم عندھا جنود الرحمن والعقل، وتتوارى وتخرج من نشأة الملك وعالم
الإنسان وتھاجر عنه، وتصبح ھذه المملكة خاصة بالشیطان. وأما إذا خضع الوھم لحكم العقل والشرع، وكانت
٤
فروع الكافي، ج ٥ ،كتاب الجھاد، باب وجوه الجھاد، ص ٣.
٣
حركاته وسكناته مقیدة بنظام العقل والشرع، فقد أصبحت ھذه المملكة مملكة روحانیة وعقلانیة، ولم يجد
الشیطان وجنوده محط قد لھم فیھا.
إذاً، يكون جھاد النفس في ھذا المقام، عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاھرية، وجعلھا مؤتمرة بأمر
الخالق، وعن تطھیر المملكة من دنس وجود قوى الشیطان وجنوده.
فصل: في التفكر
اعلم أن أول شرط مجاھدة النفس والسیر بإتجاه الحق تعالى، ھو «التفكر»، وقد وضعه بعض علماء الأخلاق
في بدايات الدرجة الخامسة، وھذا ـ التصنیف ـ صحیح في محله أيضا.
التفكر في ھذا المقام ھو أن يفكر الإنسان بعض الوقت في أن مولاه الذي خلقه في ھذه الدنیا، ووفّر له كل
أسباب الدعة والراحة، ووھبه جسماً سلیماً وقويسالمة ذات منافع تحیِّر ألباب الجمیع، والذي رعاه وھیَّأ له كل
ھذه السعة وأسباب النعمة والرحمة من جھة وأرسل جمیع ھؤلاء الأنبیاء، وأنزل كلّ ھذه الكتب «الرسالات»،
وأرشد ودعا إلى الھدى من جھة أخرى... ھذا المولى ماذا يستحق منا؟ وما ھو واجبنا تجاه مالك الملوك ھذا؟!.
ھل أن وجود جمیع ھذه النعم، ھو فقط لأجل ھذه الحیاة الحیوانیة وإشباع الشھوات التي نشترك فیھا مع
الحیوانات أو أن ھناك ھدفاً وغاية أخرى؟.
ھل أن للأنبیاء الكرام، والأولیاء العظام، والحكماء الكبار، وعلماء كل أمة الذين يدعون الناس إلى حكم العقل
والشرع ويحذرونھم من الشھوات الحیوانیة
ومن ھذه الدنیا البالیة، عداءً ضد الناس أم أنھم كانوا مثلنا لا يعلمون طريق صلاحنا نحن المساكین
المنغمسین في الشھوات؟!.
إن الإنسان إذا فكَّر لحظة واحدة، عرف أن الھدف من ھذه النعم ھو شيء آخر، وأن الغاية من ھذا الخلق
أسمى وأعظم، وأن ھذه الحیاة الحیوانیة لیست ھي الغاية بحدَّ ذاتھا، وأن على الإنسان العاقل أن يفكر بنفسه،
وأن يترحم على حاله ونفسه المسكینة، ويخاطبھا قائلاً: أيتھا النفس الشقیة التي قضیت سني عمرك الطويلة
في الشھوات، ولم يكن نصیبك سوى الحسرة والندامة، ابحثي عن الرحمة، وأستحي من مالك الملوك، وسیرى
قلیلاً في طريق الھدف الأساسي المؤدي إلى حیاة الخلد والسعادة السرمدية، ولا تبیعي تلك السعادة بشھوات
أيام قلیلة فانیة، التي لا تتحصل حتى مع الصعوبات المضنیة الشاقة. فكّري قلیلا في أحوال أھل الدنیا، من
السابقین واللاحقین وتأملي متاعبھم وآلامھم كم ھي أكبر وأكثر بالنسبة إلى ھنائھم، في نفس الوقت الذي لا
يوجد فیه ھناء وراحة لأي شخص.
أن الذي يكون في صورة الإنسان ولكنه من جنود الشیطان وأعوانه، والذي يدعوك إلي الشھوات، ويقول: يجب
ضمان الحیاة المادية، تأمل قلیلاً في حال نفس ذك الإنسان واستنطقه، وأنظر ھل ھو راضٍ عن ظروفه، أم أنه
مبتلٍ ويريد أن يبلي مسكیناً آخر؟!.
وعلى أي حال، فادع ربك بعجز وتضرع أن يعینك على أداء واجباتك التي ينبغي أن تكون أساس العلاقة فیما
بینك وبینه تعالى، والمأمول أن يھديك ھذا التفكیر المنبعث عن نیة مجاھدة الشیطان والنفس الأمارة إلى طريق
آخر ويوفقك للرقي إلى منزلة أخرى من منازل المجاھدة.
فصل: في العزم
وھناك مقام آخر يواجه الإنسان المجاھد بعد التفكر، وھو مقام العزم (وھذا ھو غیر الإرادة التي عدّھا الشیخ
الرئیس في الإشارات أولى درجات العارفین).
يقول أحد مشايخنا أطال االله عمره: «إنَّ العزم ھو جوھر الإنسانیة، ومعیار میزة الإنسان، وأن اختلاف درجات
الإنسان باختلاف درجات عزمه».
والعزم الذي يتناسب وھذا المقام، ھو أن يوطن الإنسان نفسه على ترك المعاصي وأداء الواجبات، ويتخذ قراراً
بذلك، ويتدارك ما فاته في أيام حیاته، وبالتالي يسعى على أن يجعل من ظاھره إنساناً عاقلاً وشرعیاً، بحیث
٤
يحكم الشرع والعقل حسب الظاھر بأن ھذا الشخص إنسان. والإنسان الشرعي ھو الذي ينظم سلوكه وفق ما
يتطلبه الشرع، يكون ظاھره كظاھر الرسول الأكرم صلّى االله علیه وآله وسلم، يقتدي بالنبي العظیم صلّى االله
علیه وآله وسلم ويتأسى به في جمیع حركاته وسكناته، وفي جمیع ما يفعل وما يترك. وھذا أمر ممكن، لأن جعل
الظاھر مثل ھذا القائد أمر مقدور لأيّ فرد من عباد االله.
وأعلم... أن طي أي طريق في المعارف الإلھیة، لا يمكن إلاّ بالبدء بظاھر الشريعة، وما لم يتأدب الإنسان
بآداب الشريعة الحقة، لا يحصل له شيء من حقیقة الأخلاق الحسنة، كما لا يمكن أن يتجلى في قلبه نور
المعرفة وتتكشف له العلوم الباطنیة وأسرار الشريعة. وبعد انكشاف الحقیقة، وظھور أنوار المعارف في قلبه لا بد
من الاستمرار في التأدب بالآداب اشرعیة الظاھرية أيضاً.
ومن ھنا نعرف بطلان دعوى من يقول: (إنّ الوصول إلى العلم الباطن يكون بترك العلم الظاھر)، أو (لا حاجة
إلى الآداب الظاھرية بعد الوصول إلى العلم الباطن). وأن ھذه الدعوى ترجع إلى جھل من يقول بھا، وجھله
بمقامات العبادة ودرجات الإنسانیة. ولعلّي أتوفق لبیان بعض ھذا الأمر في ھذه الأوراق إن شاء االله تعالى.
فصل: في السعي للحصول على العزم
أيھا العزيز... أجتھد لتصبح ذا عزم وإرادة، فإنك إذا رحلت من ھذه الدنیا دون أن يتحقق فیك العزم (على ترك
المحرمات) فأنت إنسان صوري، بلا لب، ولن تحشر في ذلك العالم (عالم الآخرة) على ھیئة إنسان، لأن ذلك
العالم ھو محل كشف الباطن وظھور السريرة، وأن التجرؤ على المعاصي يفقد الإنسان
تدريجیاً، العزم ويختطف منه ھذا الجوھر الشريف. يقول الأستاذ المعظم دام ظله: «إنَّ أكثر ما يسبب على
فقد الإنسان العزم والإ رادة ھو الاستماع للغناء».
إذاً، تجنب يا أخي المعاصي، وأعزم على الھجرة إلى الحق تعالى، وأجعل ظاھرك ظاھراً إنسانیاً، وأدخل في
سلك أرباب الشرائع، وأطلب من االله تعالى في الخلوات العون على بلوغ ھذا الھدف وأستشفع برسول االله صلى
االله علیه وآله وسلم وأھل بیته علیھم السلام حتى يوفقك االله على ذلك، ويعصمك من المزالق التي تعترضك،
لأن ھناك مزالق كثیرة تعترض الإنسان أيام حیاته، ومن الممكن أنه في لحظة واحدة يسقط في مزلق مھلك،
يعجز من السعي لإنقاذ نفسه، بل قد لا يھتم بإنقاذ نفسه، بل ربما لا تشمله حتى شفاعة الشافعین. نعوذ باالله
منھا.
فصل: في المشارطة والمراقبة والمحاسبة
ومن الأمور الضرورية للمجاھد: «المشارطة والمراقبة والمحاسبة». فالمشارط ھو الذي يشارط نفسه في أول
يومه على أن لا يرتكب الیوم أي عمل يخالف أوامر االله، ويتخذ قرارا بذلك ويعزم علیه. وواضح أن ترك ما يالف أوامر
االله، لیوم واحد، أمر يسیر للغاية، ويمكن للإنسان بكل سھولة أن يلتزم به. فاعزم وشارط وجرب، وأنظر كیف أن
الأمر سھل يسیر.
ومن الممكن أن يصور لك إبلیس اللعین وجنده أن الأمر صعب وعسیر. فادرك أن ھذه ھي من تلبیسات ھذا
اللعین، فالعنة قلباً وواقعاً، وأخرج الأوھام الباطلة من قلبك، وجرب لیوم واحد، فعند ذلك ستصدق ھذا الأمر.
وبعد ھذه المشارطة علیك أن تنتقل إلى «المراقبة»، وكیفیتھا ھي أن تنتبه طوال مدة المشارطة إلى عملك
وفقھا، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت. وإذا حصل ـ لا سمح االله ـ حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً
مخالفاً لأمر االله، فاعلم أن ذلك من عمل الشیطان وجنده، فھم يريدونك أن تتراجع عما اشترطته على نفسك،
فالعنھم واستعذ باالله من شرھم، واخرج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشیطان: «إني اشترطت على
نفسي أن لا أقوم في ھذا الیوم ـ وھو يوم واحد ـ بأ ي عمل يخالف أمر االله تعالى، وھو ولي نعمتي طول عمري،
فقد أنعم وتلطّف علي بالصحة والسلامة والأمن وألطاف أخرى، ولو أني بقیت في خدمته إلى الأبد لما أديت حق
واحدة منھا، وعلیه فلیس من اللائق أن لا أفي بشرط بسیط كھذا»، وآمل ـ إن شاء االله ـ أن ينصرف الشیطان،
ويبتعد عنك، وينتصر جنود الرحمن.
٥
والمراقبة لا تتعارض مع أي من أعمالك كالكسب والسفر والدراسة، فكن على ھذه الحال إلى اللیل ريثما
يحین وقت المحاسبة.
وأما «المحاسبة» فھي أن تحاسب نفسك لترى ھل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع االله، ولم تخن ولي
نعمتك في ھذه المعاملة الجزئیة؟ إذا كنت قد وفیت حقاً فاشكر االله على ھذا التوفیق، وإن شاء االله يیسر لك
سبحانه التقدم في أمور دنیاك وآخرتك، وسیكون عمل الغد أيسر علیك من سابقه، فواظب على ھذا العمل فترة،
والمأمول أن يتحول إلى ملكة فیك بحیث يصبح ھذا العمل بالنسبة إلیك سھلا ويسیراً للغاية، وستحسُّ عندھا
باللذة والأنس في طاعة االله تعالى وترك معاصیه، وفي ھذا العالم بالذات، في حین أن ھذا العالم لیس ھو عالم
الجزاء لكن الجزاء الإلھي يؤثر ويجعلك مستمتعاً وملتذاً ـ بطاعتك الله وابتعادك عن المعصیة ـ.
وأعلم أن االله لم يكلفك ما يشق علیك به، ولم يفرض علیك ما لا طاقة لك به ولا قدرة لك علیه، لكن الشیطان
وجنده يصورون لك الأمر وكأنه شاق وصعب.
وإذا حدث ـ لا سمح االله ـ في أثناء المحاسبة تھاوناً وفتوراً تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر االله وأطلب
العفو منه، وأعزم على الوفاء بكل شجاعة بالمشارطة غداً، وكن على ھذا الحال كي يفتح االله تعالى أمامك أبواب
التوفیق والسعادة، ويوصلك إلى الصراط المستقیم للإنسانیة.
فصل: في التذكر
ومن الأمور التي تُعین الإنسان ـ وبصورة كاملة ـ في مجاھدته للنفس والشیطان، والتي ينبغي للإنسان
السالك المجاھد الانتباه إلیھا جیداً ھو «التذكر».
وبذكره نختم الحديث عن ھذا المقام، على الرغم من أنه لا زال ھناك الكثیر من المواضیع.
والذكرى في ھذا المقام، ھي عبارة عن ذكر االله تعالى ونعمائه التي تلطف بھا على الإنسان.
وأعلم أن احترام المنعم وتعظیمه، ھو من الأمور الفطرية التي جبل الإنسان علیھا والتي تحكم الفطرة
بضرورتھا، وإذا تأمل أي شخص في كتاب ذاته، لوجده مسطوراً فیه أنه يجب تعظیم من أنعم نعمةً على الإنسان.
وواضح أنه كلما كانت النعمة أكبر وكان المنعم أقل غرضاً، كان تعظیمه أوجب وأكثر، حسب ما تحكم به الفطرة.
فھناك مثلاً فرق واضح في الاحترام والتقدير بین شخص يعطیك «حصاناً» تلاحقه عیناه ويرمى من ورائه شیئاً،
وبین الذي يھبك مزرعة كاملة ولا يمنَّ علیك. أو مثلاً، إذا أنقذك طبیب من العمى، فستقدره وتحترمه بصورة
فطرية، وإذا أنقذك من الموت كان تقديرك واحترامك له أكثر.
لاحظ الن أن النعم الظاھرة والباطنة التي تفضل بھا علینا مالك الملوك جلَّ شأنه لو أجتمع الجن والإنس لكي
يعطونا واحدة منھا لما استطاعوا. وھذه حقیقة نحن غافلون عنھا، فمثلاً ھذا الھواء الذي ننتفع به لیلاً ونھاراً،
وحیاتنا وحیاة جمیع الموجودات مرھونة به، بحیث لو فُقد مدة ربع ساعة لما بقى ھناك حیوان على قید الحیاة،
ھذا الھواء كم ھو نعمة عظیمة، يعجز الجن والإنس جمیعا عن منحنا مثیلا لھا لو أرادوا أن يمنحونا ذلك؟ وعلى
ھذا فقس وتذكر قلیلا كافة النعم الإلھیة مثل سلامة البدن والقوى الظاھرية من قبیل البصر والسمع والتذوق
واللمس، والقوى الباطنیة مثل التخیّل والواھمة والعقل وغیر ذلك حیث يكون لكل واحدة من ھذه النعم منافع
خاصة لا حد لھا. وجمیع ھذه النعم وھبنا إياھا مالك الملوك دون أن نطلب منه أو يمنَّ علینا ولم يكتف بھذه النعم
بل أرسل الأنبیاء والرسل والكتب وأوضح لنا طريق ا لسعادة والشفاء والجنة والنار، ووھبنا كلّ ما نحتاجه في الدنیا
والآخرة، دون أن يكون فقیرا ومحتاجا إلى طاعتنا وعبادتنا. فھو سبحانه لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصیة وطاعتنا
وعبادتنا، وطاعتنا ومعصیتنا بالنسبة له على حد سواء، بل من أجل خیرنا ومنفعتنا نحن يأمر وينھي. وبعد تذكر
ھذه النعم والكثیر الكثیر من النعم
الأخرى التي يعجز حقا جمیع الشر عن إحصاء الكلیات منھا، فكیف بعدّھا واحداً واحداً؟ بعد ذلك يُطرح السؤال
التالي: ألا تحكم فطرتك بوجوب تعظیم منعم كھذا وما ھو حكم العقل تجـاه خیانة ولي نعمة كھذا ؟!.
٦
ومن الأمور الأخرى التي تقرّھا الفطرة، احترام الشخص الكبیر العظیم، ويرجع كل ھذا الاحترام والتقدير الذي
يبديه الناس تجاه أھل الدنیا والجاه والثروة والسلاطین والأعیان، يرجع إلى أنھم يرون أولئك كبارا وعظماء، وأيّ
عظمة تصل إلى مستوى عظمة مالك الملوك الذي خلقھذه الدنیا الحقیرة الوضیعة والتي تعتبر من أصغر العوالم
وأضیق النشئات، رغم كل ذلك لم يتوصل عقل أي موجود إلى إدراك كنھھا وسرّھا حتى الآن، بل ولم يطلع كبار
المكتشفین في العالم بعد، على أسرار منظومتنا الشمسیة ھذه، وھي أصغر المنظومات ولا تعد شیئا، قیاسا
بباقي الشموس. أفلا يجب احترام وتعظیم ھذا العظیم الذي خلق ھذه العوالم وآلاف الآلاف من العوالم الغیبیة
بإيمائه؟!.
ويجب أيضا بالفطرة، احترام من يكون حاضرا، ولھذا ترى بأن الإنسان إذا تحدث لا سمح االله عن شخص بسوء
في غیبته، ثم حضر في أثناء الحديث ذلك الشخص، أختار المتحدث حسب فطرته الصمت، وأبدى له الاحترام.
ومن المعلوم أن االله تبارك وتعالى حاضر في كل مكان وتحت إشرافه تعالى تدار جمیع ممالك الوجود، بل إن كلّ
نفس تكون في حضرة الربوبیة، وكل علم يوجد ضمن محضره سبحانه وتعالى.
فتذكري يا نفسي الخبیثة أي ظلم فظیع، وأي ذنب عظیم تقترفین إذا عصیت مثل ھذا العظیم في حضرته
المقدسة وبواسطة القوى التي ھي نعمه الممنوحة لك؟ ألا ينبغي أن تذوبي من الخجل وتغوري في الأرض لو
كان لديك ذرة من الحیاة؟.
إذاً: فیا أيھا العزيز؛ كن ذاكرا لعظمة ربك، وتذكر نعمه وألطافه، وتذكر أنك في حضرته ـ وھو شاھد علیك ـ فدع
التمرد علیه، وفي ھذه المعركة الكبرى تغلب على جنود الشیطان، وأجعل من مملكتك مملكه رحمانیة وحقانیة،
وأحلل فیھا عسكر الحق تعالى محل جنود الشیطان، كي يوفقك االله تبارك وتعالى في مقام مجاھدة أخرى، وفي
میدان معركة أكبر تنتظرنا وھي الجھاد مع النفس في العالم
الباطن، وفي المقام الثاني للنفس، وھذا ما سنشیر إلیه لاحقا إن شاء االله. وأكرر التذكیر بأنه في جمیع
الأحوال لا تعلق على نفسك الآمال لأنه لا ينھض أحد يعمل غیر االله تعالى. فاطلب من الحق تعالى نفسه بتضرع
وخشوع، كي يعینك في ھذه المجاھة لعلك تنتصر. إنه ولي التوفیق.
المقام الثاني: وفیه عدة فصول أيضا
فصل: صراع جنود الرحمن مع جنود الشیطان الباطنیة النفسیة
اعلم أن للنفس الإنسانیة مملكة ومقاما آخر، وھي مملكتھا الباطنیة ونشأتھا الملكوتیة، وفیھا تكون جنود
النفس أكثر وأھم مما في مملكة الظاھر، والصراع والنزاع فیھا بین الجنود الرحمانیة والشیطانیة أعظم والغلبة
والانتصار فیھا أشد وأھم، بل وأن كل ما في مملكة الظاھر قد تنزَّل من ھناك وتظھر في عالم المُلك. وإذا تغلب
أي من الجند الرحماني أو الشیطاني في تلك المملكة، يتغلب أيضا في ھذه المملكة. وجھاد النفس في ھذا
المقام مھم للغاية عند المشايخ العظام من أھل السلوك والأخلاق، بل ويمكن اعتبار ھذا المقام منبع جمیع
السعادات والتعاسات، والدرجات والدركات.
ويجب على الإنسان الالتفات كثیرا إلى نفسه في ھذا الجھاد. فمن الممكن لا سمح االله أن تسفر ھزيمة الج
نود الرحمانیة في تلك المملكة وتركھا خالیة للغاصبین والمحتلین من جنود الشیطان، عن الھلاك الدائم للإنسان
بالصورة التي يستحیل معھا تلافي الخسارة ولا تشمله شفاعة الشافعین، وينظر إلیه أرحم الراحمین أيضا بعین
الغضب والسخط ـ نعوذ باالله من ذلك ـ بل ويصبح شفعاؤه خصماءه، وويل لمن كان شفیعه خصمه.
ويعلم االله أي عذاب وظلمات وشدائد وتعاسات تلي ھذا الغضب الإلھي. وتعقب معاداة أولیاء االله حیث تكون
كل نیران جھنم وكل الزقوم والأفاعي والعقارب لا شيء أمام ھزيمة جنود الرحمان من قِبَلِ جنود الشیطان التي
تترتب علیھا
عقوبات تفوق جمیع نیران جھنم والزقوم والأفاعي. والعیاذ باالله من أن يصب على رؤوسنا نحن الضعفاء
والمساكین ذلك العذاب الذي يخبر عنه الحكماء والعرفاء وأھل الرياضة والسلوك، فإنّ جمیع أشكال العذاب التي