البحوث اللفظية التحليلية
الحروف
٢٢٧
٢٢٨
تمهيد
الاتجاهات المعروفة في معنى الحروف
١ ـ علامية الحروف
٢ ـ آليّة المعنى الحرفي
٣ ـ نسبية المعنى الحرفي
ـ الوجوه المختلفة في تفسير نسبية المعنى الحرفي
١ ـ إيجادية الحروف
٢ ـ وضعها للوجود الرابط
٣ ـ وضعها للتخصيص
٤ ـ وضعها للأعراض النسبية
تعديل الاتجاه الثالث وتصحيحه
المعاني النسبية للحروف تحليلة
النسب الأوليّة والنسب الثانوية
تلخيص وتعميق
٢٢٩
٢٣٠
تمهيد
ذكر علماء العربية بإزاء كلّ حرف معنى معيّناً ف ( من ) موضوعة للابتداء و ( في ) للظرفية و ( هل ) للاستفهام وهكذا. وقد لاحظ علماء الأصول أنَّ هناك فرقاً واضحاً بين شرح اللغوي وتحديده لمعاني الأسماء أو الأفعال ، كأن يقول مثلاً ( الأسد ) هو الحيوان المفترس أو ( جلس ) بمعنى قعد ، وبين تحديداتهم تلك لمعاني الحروف من حيث انَّ شرح الاسم أو الفعل ينبئ عن مرتبة من الترادف والتوحّد في المعنى بين الكلمة المشروحة والكلمة الشارحة ، بحيث يصحّ استبدال إحداهما بالأخرى في مجال الاستعمال دون أن يختل التركيب الذهني لصورة المعنى المعطاة بالكلام ، بينما لا يتأتى ذلك في معاني الحروف. فالظرفية مثلاً لا يمكن أن يستعمل بحال من الأحوال بدلاً عن حرف ( في ) ولا الابتداء بدلاً عن ( من ).
وقد استأثرت هذه الظاهرة باهتمام الأصوليين فدفعتهم إلى مواصلة البحث والتنقيب في مدلولات الحروف ليخرجوا بالتحليل النهائيّ الّذي على أساسه يمكن تفسير واقع الفروق بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية. ولذلك كان هذا البحث الأصولي اللفظي تحليليّاً لا لغوياً ، إذ لا يواجه الأصولي فيه شكّا حقيقيّاً في أصل مدلول الحرف يراد دفعه ، وليس هناك غموض فيه يطلب علاجه بهذا البحث. بل معنى كلّ
٢٣١
حرف وموضع استعماله واضح لديه بنحو الإجمال ، ولو فرض الشك في مدلول حرف معيّن أمكن رفعه بالرجوع إلى كتب اللغة أو اتّباع وسائل تشخيص المعنى المشكوك فيه التي تقدّمت الإشارة إليها وسوف يأتي تطبيقها في البحوث اللفظية اللغوية.
وإنَّما يعالج هذا البحث ـ بعد الفراغ عن صحة ما ذكر بإزاء كلّ حرف من المعاني لغويّاً ـ حقيقة الفرق بين كيفيّة تصوّر الذهن للمعاني الحرفية وتصوّرها للمعاني الاسمية ، الأمر الّذي نلمس أثره الظاهر في عدم إمكان استعمال أحدهما مكان الآخر رغم كونه شرحاً له وتحديداً لمحتواه.
الاتجاهات المعروفة في المعنى الحرفي
والمتلخص من مجموع كلمات الأعلام في تشخيص معاني الحروف وفرقها عن معاني الأسماء اتجاهات ثلاثة رئيسية نستعرضها فيما يلي تباعاً.
١ ـ علامية الحروف
ويقيس أصحاب هذا الاتجاه الحروف بالحركات الإعرابيّة ، فيدّعى بأنَّها لم توضع بإزاء معنى خاص وانَّما هي لمجرّد التنبيه على أنَّ مدخولها مظروف أو مبدوء به وهكذا ، كما يقال في الحركات الإعرابية من أنَّها علامة على خصوصية الفاعلية أو المفعولية.
والاعتراض على هذا المسلك : بأنَّ إفادة الخصوصيات أيضا يساوق الوضع بإزاء معنى إذ لا يشترط في المعنى أن يكون معنى تاماً مستقلاً. يمكن الإجابة عليه من قبل أصحاب هذا الاتجاه : بأنَّ المقصود وضع الاسم المقيّد بالحرف للمعنى الخاصّ بحيث لا يبقى للحرف مدلول إضافي في الكلام يستفاد منه بنحو تعدّد الدال والمدلول كما هو المطلوب.
والصحيح أن يقال : انَّ هذا الاتجاه إن أريد به فراغ الحروف من الدلالة والتأثير في تكوين المدلول نهائيّاً فهو باطل بضرورة الوجدان اللغوي والعرفي ، لأنَّ لازمه أن لا يكون حذف الحرف المساهم في تكوين الجملة مضراً بمعناها أصلاً وهو خطأ واضح.
٢٣٢
وإن أريد به : انَّ الحرف ليس له مدلول في عرض مدلول الاسم الّذي يشاركه في تكوين الجملة وانَّما مدلوله طولي دائماً ، بمعنى أنَّه يشخص المراد من الاسم. ففي قولنا « الصلاة في المسجد » تدلّ ( في ) على أنَّ المراد من الصلاة فعل مخصوص بخصوصية الوقوع في المسجد ، ومن أجل ذلك يشبه بالحركات الإعرابية. فيرد عليه : انَّه إن قصد بذلك انَّ الحرف يشخص انَّ المراد الاستعمالي من كلمة الصلاة ذلك فهو غير صحيح ، لأنَّ استعمال لفظ الصلاة في الحصة الخاصة بخصوصها مع كونها موضوعة للطبيعة الجامعة مجاز ، وإن قصد بذلك انَّ الحرف يشخص المراد الجدّي من كلمة الصلاة فهذا يعني نظر الحرف إلى مرحلة المراد الجدّي وهو واضح البطلان ، فانَّ الحرف يساهم في تكميل الجملة في مرحلة المدلول الاستعمالي ، ولهذا لا تكون الجملة تامّة بدون الحرف سواءً كان لها مدلول جدّي أو لا.
وإن أريد به : انَّ الحرف ليس دالاً مستقلاً كما هو الحال في الاسم بل يستحيل أن يكون إلا دالاً ضمنيّاً والدال المستقل هو المجموع المركّب من الحرف والاسم ، فهذا معنى دقيق وعميق وهو الّذي يقتضيه منهجنا العام في تحقيق المسألة ـ على ما يأتي ـ إذ يتّضح ان من لوازم عدم استقلالية المعنى عدم استقلالية الدلالة.
٢ ـ آليّة المعنى الحرفي
وقد ذهب أصحاب هذا الاتجاه ومنهم المحقق الخراسانيّ ( قده ) في كفاية الأصول ـ إلى أنَّ معاني الحروف هي نفس معاني الأسماء ذاتاً ، وإنَّما الفرق بينهما في اختصاص كلّ منهما بوضع معيّن ، حيث وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه ووضع الحرف ليراد به معناه لا كذلك بل بما هو آلة وحالة لغيره ، وهذا الاختلاف في الوضع هو الّذي يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن اتّفقا فيما له الوضع (١).
ويستفاد من كلامه مجموع أمرين :
__________________
(١) كفاية الأصول ج ١ ص ١٥ ( ط ـ مشكيني )
٢٣٣
١ ـ انَّ الاختلاف بين معاني الحروف والأسماء بلحاظ أمر عرضي خارج عن ذات المعنى ، وهو كيفية لحاظ الذهن للمعنى حين الاستعمال من الآلية والاستقلالية.
٢ ـ أن آليّة اللحاظ واستقلاليّته لا يمكن أن تكون قيداً في الموضوع له أو المستعمل فيه بل في الوضع نفسه.
وكأنَّه ( قده ) فرغ عن صحة الأمر الأول ، فلم يكلّف نفسه مئونة إثباته وانَّما أشبع البحث في الأمر الثاني ، مع أنَّ المهمّ إثبات أصل المدّعى من وحدة المعنيين وعدم تغاير هما ذاتاً.
وقد أورد عليه في كلمات المحققين اعتراضات عديدة.
منها ـ ما ذكره المحقق الأصفهاني ( قده ) في تعليقته على الكفاية بقوله « انَّ الاسم والحرف لو كانا متّحدي المعنى وكان الفرق بمجرّد اللحاظ الاستقلالي والآلي لكان طبيعي المعنى الوحدانيّ قابلاً لأن يوجد في الخارج على نحوين كما يوجد في الذهن على طورين ، مع انَّ الحرفي كأنحاء النسب والروابط لا يوجد في الخارج إلا على نحو واحد وهو الوجود لا في نفسه ولا يعقل أن توجد النسبة في الخارج بوجود نفسي » (١).
وكأنَّه ( قده ) يفترض مطابقة عالم الخارج مع الذهن في أنحاء الوجود أصلاً موضوعيّاً مسلماً فيعترض بأن المعنى الواحد لو كان يوجد في الذهن على طورين آليّ واستقلالي لزم أن يوجد في الخارج كذلك مع أنَّ المعنى الحرفي لا يوجد خارجاً إلا في غيره.
ولكن لا مأخذ للأصل الموضوعي المزعوم ، إذ لا برهان على ضرورة التطابق بين الوجود الذهني والوجود الخارجي ، بل البرهان على خلافه ، فان العرض لحاظه في الذهن يمكن أن يكون مستقلاً عن موضوعه مع انَّه في الخارج لا يوجد إلا في موضوعه.
ومنها ـ ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من أنَّ تقييد الواضع واشتراطه الآليّة في استعمال الحرف والاستقلاليّة في استعمال الاسم ليس ملزماً ولا يترتّب عليه عدم صحّة الاستعمال للفظ في معناه الموضوع له. ولو سلّم فغايته عدم صحّته بقانون الوضع
__________________
(١) نهاية الدراية الجزء الأول صلىاللهعليهوآلهوسلم ٤٣ ( المطبعة العلمية ـ قم )
٢٣٤
لا عدم صحّته مطلقاً ولو بالنحو الّذي يصحّ به الاستعمال المجازي ، مع وضوح انَّ استعمال الحرف في مورد الاسم وبالعكس غير صحيح مطلقاً (١).
امَّا الجانب الأول من كلامه ( قده ) فيمكن دفعه بتقريب : انَّ تقييد الواضع لا يرجع إلى شرط على المستعمل على حدّ الشرط الفقهي من باب الالتزام في ضمن الالتزام بل إلى تقييد العلقة الوضعيّة بحالة خاصة ، ومعه لا وضع للحرف غير التوأم مع اللحاظ الآلي لانتفاء قيد الوضع فلا يصحّ استعماله في معناه من أجل ذلك.
وإذا تمَّ هذا الجواب أمكن على ضوئه دفع الجانب الثاني من كلامه ( قده ) لأنَّ الحرف في حالة عدم اللحاظ الآلي يكون مهملاً لعدم الوضع في هذه الحالة ، والمهمل لا يصحّ استعماله في معنى لا حقيقة ولا مجازاً ، امَّا الأول ، فلأنَّه خلف الإهمال. وامَّا الثاني ، فلأنَّه فرع ان يكون له معنى حقيقي فعلاً ، لأنَّ المصحح للاستعمال في المعنى المجازي والحدّ الأوسط بينه وبين اللفظ هو المعنى الحقيقي ومع عدم الحدّ الأوسط لا ربط بين اللفظ والمعنى الآخر.
ولكن كلّ هذا بناء على تعقّل كبرى تقييد العلقة الوضعيّة وإمكان التعامل مع الوضع على حدّ التعامل مع سائر المجعولات الاعتباريّة. وقد سبق في بحوث الوضع ما هو التحقيق في إبطال ذلك.
ومنها ـ ما ذكره السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من أن لحاظ المعنى آلة لو كان موجباً لكونه معنى حرفيّاً لزم منه كون كلّ معنى اسمي يؤخذ معرفاً لغيره في الكلام وآلة للحاظه كالعناوين الكليّة المأخوذة في القضايا معرفات للموضوعات الواقعية معنى حرفيّاً (٢).
وفيه : انَّ المراد بالآليّة هنا فناء مفهوم في مفهوم آخر لإفناء العنوان في المصداق الخارجي الّذي ليس من هذا الباب ، بل من باب ملاحظة المفهوم الواحد بالحمل الأوّلي فيرى به المعنون ولذلك يحكم عليه بأحكام في المعنون وإن كان في واقعه وبالحمل الشائع مغايراً مع المعنون.
__________________
(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٥
(٢) هامش أجود التقريرات ج ١ ص ١٥ ـ ١٦
٢٣٥
وصريح كلام صاحب الكفاية ( قده ) يشهد بإرادة هذا المعنى حيث قال : « انَّه لا يكاد يكون المعنى حرفيّاً إلا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ومن خصوصياته القائمة به » وقال : في موضع آخر من كلامه : « حاله كحال العرض ، فكما لا يكون في الخارج إلا في الموضوع كذلك هو لا يكون في الذهن إلا في مفهوم آخر » (١).
ومنها ـ ما أورده السيد الأستاذ أيضا بقوله : « كما انَّ لحاظ المعنى حالة لغيره لو كان موجباً لكونه معنى حرفيّاً لزم منه كون جميع المصادر معاني حرفية ، فانَّها تمتاز عن أسماء المصادر بكونها مأخوذات بما أنَّها أوصاف لمعروضاتها بخلاف أسماء المصادر الملحوظ فيها الحدث بما انَّه شيء في نفسه مع قطع النّظر عن كونه وصفاً لغيره » (٢).
وهذا النقض يمكن دفعه : بأن المصادر تحتوي على مادة وهيئة ، فان أريد النقض بموادها فهي موضوعة لذات الحدث. وإن أريد النقض بهيئاتها فقد يسلّم بكونها كالحروف وسائر الهيئات ، كما هو أحد القولين فيها.
ومنها ـ ما أورده السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ أيضا من أنَّ المعنى الحرفي قد يكون هو المقصود بالإفادة في كثير من الموارد ، وذلك كما إذا كان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص ولكنَّه كان جاهلاً بخصوصيّتهما فسأل عنها فأجيب على طبق سؤاله فهو والمجيب انَّما ينظران إلى هذه الخصوصية نظرة استقلالية (٣).
وفيه : علاوة على أنَّه مخالف لمبناه ومبنى مشهور المتأخرين من أن معاني الحروف غير استقلالية بذاتها في مرحلة تقررها الماهوي فلا يعقل وجودها لا ذهناً ولا خارجاً إلا بما هي عليه من الآلية والفناء. يمكن تفسير مورد النقض بأحد نحوين :
١ ـ أن ينتزع المستعمل مفهوماً اسميّاً مشيراً إلى واقع المعنى الحرفي الخاصّ ويجعله مدخول الاستفهام ، نظير قولنا : ما هي الكيفيّة التي سافر بها زيد؟
٢ ـ أن يكون اللحاظ الاستقلالي متعلّقاً بطرف المعنى الحرفي أي بالمعنى الاسمي المتحصص به بما هو متحصّص فيكون لحاظ التحصص تبعيّاً ، كما لو سأل : أن زيداً هل
__________________
(١) كفاية الأصول ج ١ ص ١٦ ( ط ـ مشكيني )
(٢) هامش أجود التقريرات ج ١ ص ١٦
(٣) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٢
٢٣٦
جاء في البرّ أو البحر؟
وهكذا يتبيّن أن شيئاً من أوجه المفارقة المذكورة لتفنيد الاتجاه الّذي سار عليه صاحب الكفاية ( قده ) في معاني الحروف لا يتمّ برهانيّاً.
والصحيح في تفنيد هذا الاتجاه أن يقال : لو أريد بعدم استقلاليّة معاني الحروف كونها تلحظ حالة لمعاني الأسماء ومندكّة فيها فسوف يأتي لدى عرض الاتجاه الثالث أن هذه الحالية والاندكاك تنجم عن الفرق بينهما سنخاً وذاتاً وليست مجرّد حالة طارئة على المعنى. ولو أريد كونها آلة ومرآتاً لملاحظة المصاديق الخارجية الخاصة فيرد عليه :
أولا : انَّ كلّ مفهوم يكون مرآة لمصاديقه الخارجية بمقدار ما أخذ فيه منها ، فان كان مفهوماً كليّاً لا يكون مرآة إلا عن الحيثيّة المشتركة بين الأفراد ويستحيل أن يكون مرآتاً عن الخصوصيّات ، وإن كان جزئيّاً وخاصاً ـ ولو بالحمل الأوّلي ـ كان حاكياً عن الخاصّ الخارجي ، فلا يصلح هذا لأن يكون تمييزاً بين معاني الحروف والأسماء.
وثانياً : ما يأتي في إثبات الاتجاه القادم من اختلاف المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي ذاتاً وحقيقة.
٣ ـ نسبية المعنى الحرفي
والاتجاه الثالث هو الاتجاه القائل بالتغاير والتمايز الذاتي بين معاني الحروف والأسماء مع قطع النّظر عن الخصوصيات العرضية الناشئة من طرو اللحاظ الآلي أو الاستقلالي عليها في مرحلة الاستعمال وهذا هو الاتجاه الّذي ذهب إليه أكثر المحقّقين المتأخّرين من علماء الأصول.
وتوضيح هذا الاتجاه وتحقيقه يتمّ خلال خمس مراحل من الكلام.
١ ـ عند ما يواجه الذهن ناراً في الموقد مثلاً ينتزع مفهوماً بإزاء النار والموقد وينتزع مفهوماً بإزاء الارتباط والعلاقة القائمة بين النار والموقد حيث نواجه ناراً وموقداً مرتبطين فيما بينهما.
٢٣٧
وهذان نوعان من المفاهيم يختلفان في الدور الّذي يقوم به كلّ منهما في عالم الإدراك ويختلفان على أساس من ذلك في الجوهر والحقيقة.
فالنوع الأول مفاهيم ترد إلى الذهن من الخارج لغرض الاستطراق إلى التمكّن من إصدار الحكم على الخارج ، إذ ليس الغرض من إحضار مفهوم النار مثلاً أن توجد خصائص حقيقة النار وشئونها التكوينية من الحرارة والإحراق ونحو هما في الذهن بل تمام الغرض هو التوصل إلى إصدار الحكم بتوسط إحضار هذا المفهوم وملاحظته بما هو فان في الخارج. وقد ذكرنا فيما سبق من بحوث الوضع أنه يكفي من أجل إصدار الحكم على شيء خارجي أن نستحضره في الذهن بالحمل الأوّلي فنحكم عليه ويكون ثابتاً لما يكون مصداقاً له بالحمل الشائع.
وبخلاف ذلك النوع الثاني ، أعني المفهوم المنتزع بإزاء علاقة النار بالموقد ، فانَّ الغرض من إحضاره ليس هو صرف التمكّن من إصدار الحكم بل تحصيل خصائص حقيقة ذلك المفهوم من الربط بين مفهومين في الذهن أو أكثر ؛ لوضوح انَّ المقصود إيجاد الالتصاق والربط بين مفهوم النار في الذهن ومفهوم الموقد في الذهن ، وبما أنَّ هذا الربط ربط حقيقي في مرحلة الإدراك بين المفهومين فلا بدَّ وان يكون هذا النوع من المفاهيم ربطاً بالحمل الشائع ولا يكفي أن يكون ربطاً بالحمل الأوّلي. هذا هو الفارق بين النوعين من حيث الوظيفة والغرض ، ويلزم من ذلك أن يكون النوع الأول مفاهيم مستقلّة في ذاتها ويكون النوع الثاني مفاهيم تعلقية في ذاتها ، لأنَّ حقيقتها في الذهن عين التعلّق والربط على حدّ الربط الخارجي بين النار والموقد ، غاية الفرق ان الربط هناك بين وجودين خارجيين وهنا بين مفهومين وامَّا الربط نفسه فحقيقي فيهما معاً.
وبذلك يتّضح : أول الفوارق بين معاني الحروف ومعاني الأسماء ، وهو انَّ المعنى الاسمي سنخ معنى يحصل الغرض من إحضاره في الذهن بالنظر التصوّري الأوّلي وإن كان مغايراً له بالنظر التصديقي ، والمعنى الحرفي سنخ مفهوم لا يحصل الغرض من إحضاره في الذهن إلا بأن يكون عين حقيقته بالنظر التصديقي.
٢ ـ يتّضح ممَّا تقدّم : أن الحروف لا يمكن أن تكون موضوعة بإزاء مفهوم النسبة
٢٣٨
أو مفهوم الربط والعلاقة ، لما ذكرنا من أن الغرض من إحضار المفهوم الحرفي الحصول على خصائص وشئون حقيقته وهذا لا يكون إلا بأن يكون الحاضر عين الحقيقة بالنظر التصديقي ومفهوم الربط والنسبة ليس عين النسبة بالنظر التصديقي وإن كان عينها بالنظر التصوّري ، ولذلك لا يمكن أن نربط به بين مفهوم النار في الذهن ومفهوم الموقد في الذهن مهما تصوّرناه أو تصوّرنا ما يشابهه من المفاهيم الاسمية.
٣ ـ انَّنا نلاحظ ثلاث نسب :
إحداهما : النسبة بين النار والموقد في الخارج.
والثانية : النسبة بين النار والموقد في ذهن المتكلّم.
والثالثة : النسبة بين النار والموقد في ذهن السامع. وهذه النسب الثلاث ليس بينها جامع ذاتي ماهوي ، ومفهوم النسبة وإن كان جامعاً بينها ولكنَّه ليس ذاتيّاً بل عرضي وذلك بالبرهان المركّب من الأمور الثلاثة الآتية :
أولا : انَّ انتزاع الجامع الذاتي بين الأفراد لا بدَّ فيه من انحفاظ المقوّمات الذاتيّة للأفراد مع إلغاء الخصوصيّات العرضية لها ، فحين نريد الحصول على جامع ذاتي بين زيد وعمرو لا بدَّ من التحفّظ على المقوّمات الذاتيّة لكلّ منهما ـ وهي الحيوانية والناطقيّة ـ وطرح الباقي.
ثانياً : انَّ كلّ نسبة من النسب الثلاث المذكورة متقوّمة بشخص وجود طرفيها ، فالنسبة الذهنية القائمة في أفق ذهن المتكلّم متقوّمة بشخص الوجود الذهني للنار وشخص الوجود الذهني للموقد القائمين في أفق ذهنه. وبهذا يتّضح : أن المقومات الذاتيّة لكلّ نسبة تختلف عن المقومات الذاتيّة للنسبة الأخرى. ولا يتوهّم : أن النسب الثلاث لما كان يوجد جامع مفهومي بين موصوفها ـ وهو مفهوم النار ـ وبين وصفها ـ وهو مفهوم الموقد ـ فيكون المقوّم لكلّ واحد من تلك النسب الثلاث هو عين المقوّم للنسب الأخرى وهو مفهوم النار ومفهوم الموقد. لأنَّ هذا التوهّم مندفع : بأن المقوم لكل نسبة هو طرفها ، وطرف النسبة هو شخص وجود النار الثابت في أفق تلك النسبة. نعم لا إشكال في انَّ شخص وجود النار في ذهن المتكلّم وشخص وجود النار في ذهن السامع وشخص وجود النار في الخارج ينتزع منها جميعاً مفهوم النار الحاكي
٢٣٩
عنها على حدّ حكاية الكلّي عن فرده ولكن هذا المفهوم المنتزع ليس هو طرف النسبة فلا يكون هو المقوم لها.
ثالثاً : حيث ثبت انَّ المقوّمات الذاتيّة لكلّ نسبة مختلفة عن المقومات الذاتيّة للنسبة الأخرى. يتبرهن استحالة انتزاع الجامع الذاتي بين تلك النسب لأنَّه إن تحفّظنا على المقومات الذاتيّة لأشخاص النسب فلا يمكن تحصيل مفهوم واحد يكون جامعاً ، لأنَّ مقومات كلّ نسبة مغايرة لمقومات النسبة الأخرى ، وما لم تلغ الخصوصيات التي تتغاير بها الأفراد لا يمكن الحصول على الجامع بينها. وإذا ألغينا المقومات لكل نسبة استحال الحصول على جامع ذاتي ، لأنَّ الجامع الذاتي لا بدَّ أن تنحفظ فيه المقومات الذاتيّة للأفراد.
٤ ـ وهي متفرعة على الثالثة على حدّ تفرّع المرحلة الثانية على الأولى وحاصلها : أنَّه يتبرهن على أساس عدم الجامع الذاتي بين تلك النسب انَّ المفهوم الحرفي سنخ مفهوم ليس له تقرّر ذاتي في مرحلة سابقة على الوجود بخلاف المفهوم الاسمي. وتوضيحه : انَّنا حينما نتصور النار يمكننا بنظرة تحليلية أن نحلل هذه النار الموجودة في ذهننا إلى ماهية ووجود ونعقد على أساس ذلك قضية موضوعها ذات الماهية ـ أي النار ـ ومحمولها الوجود. وهذا يعني انَّ مفهوم النار قد فرض موضوعاً في القضية دون أن يلحظ معه عالم الوجود ثمَّ نسب إلى عالم الوجود فقيل النار موجودة ، فالنار إذن لها نحو تقرر باعتبارها موضوعاً لتلك القضية القائمة على نظر تحليلي بقطع النّظر عن عالم الوجود ، وهذا هو معنى أن المفهوم الاسمي له تقرّر ذاتي في مرحلة سابقة على الوجود. وامَّا المفهوم الحرفي ، فهو ليس كذلك لأنَّ شخص النسبة بعد أن ثبت أنَّها متقومة ذاتاً بشخص وجود طرفيها بحيث يكون شخص وجود الطرفين بالإضافة إلى النسبة المتقومة بها كالجنس والفصل بالإضافة إلى المفهوم الاسمي للنار أو للإنسان ، فلا يعقل أن يكون لتلك النسبة نحو تقرّر ذاتي في مرحلة سابقة على عالم الوجود ، إذ في هذه المرحلة لا انحفاظ للمقوّمات الذاتيّة لتلك النسبة. ففرق بين فرض النار أو الإنسان في مرحلة سابقة على الوجود ثمَّ الحكم عليه بأنَّه موجود أو غير موجود ، وفرض شخص النسبة في مرحلة سابقة كذلك ، فان الأول معقول لانحفاظ المقومات الذاتيّة له وهي الحيوانية
٢٤٠
الناطقية مثلاً ، وامَّا الثاني فهو غير معقول لعدم انحفاظها.
نعم ، لو قيل بالجامع الذاتي بين أشخاص النسب لكان فرض ذلك هو فرض تجريد هذا الجامع من خصوصيات أشخاص الطرفين ، ومعه يكون له تقرر ماهوي في مرحلة سابقة على عالم الوجود ، بخلاف ما إذا برهنّا على امتناع ذلك الجامع ، ولهذا كانت المرحلة الثالثة أساساً لما نقرّره في هذه المرحلة من أنَّ التقرّر الماهوي للمفهوم الحرفي في طول عالم الوجود وأمَّا التقرر الماهوي للمفهوم الاسمي فعالم الوجود في طوله بالنظر التحليلي وبهذا يتّضح الفارق الثاني من الفوارق الأساسية بين المفهوم الاسمي والمفهوم الحرفي.
٥ ـ انَّ المفهوم الاسمي للنار الموجود في الذهن إذا لوحظ بما هو موجود في الذهن ، أي بالنظر التصديقي ، فهو جزئي ذهني نسبته إلى النار الخارجية نسبة المماثل إلى المماثل ، وإذا لوحظ ذات المفهوم الاسمي بقطع النّظر عن وجوده الذهني ، أي بالنظر التصوّري ، فهو مفهوم ينطبق على النار الخارجية انطباق الكلّي على فرده. وهذا النحو من الانطباق لا يتصوّر للنسبة الذهنية القائمة في ذهن المتكلّم مع النسبة الخارجية ، لأنَّها إن لوحظت متقومة بشخص طرفيها فهي نسبة جزئية مغايرة للنسبة الخارجية المتقومة هي الأخرى بشخص طرفيها ، وإن قطع النّظر عن شخص الطرفين فليس لها في هذه المرتبة تقرّر ماهوي أصلاً لتكون قابلة للانطباق على النسبة الخارجية على حدّ انطباق الكلّي على فرده.
وأمَّا كيفيّة حكاية المفهوم الحرفي عن الخارج مع عدم انطباقه عليه على حدّ انطباق الكلّي على فرده ، فهي بسبب الطرفين إذا نظر إليهما بالنظر التصوّري الآلي بما هما عين الخارج فبهذا النّظر ترى النسبة تبعاً بأنَّها عين النسبة الخارجية إذ لا تعدد ولا تغاير بين النسبتين إلا بلحاظ التغاير والتعدد في اشخاص الطرفين ، فإذا لوحظ طرفا النسبة الذهنية بما هما خارجيان فبهذا اللحاظ لا ترى النسبة الذهنية مغايرة للنسبة الخارجية.
وبما ذكرناه في المراحل الخمس يتّضح : ما هو المظنون في مقصود شيخ المحققين المحقق النائيني ( قده ) حيث ذهب إلى إيجاديّة معاني الحروف وكان بيانه مشوباً بشيء
٢٤١
من الغموض بحيث حمله حتى بعض الأجلة من مقرّري بحثه على معنى غريب جدّاً إذا افترض انَّ مقصوده قدسسره ان نفس الحرف يكون موجوداً لمعناه في عالم الكلام واللفظ دون أن يكون لهذا المعنى أي تحقّق قبل الكلام. فاعترض عليه : بأن الحرف وإن كان موجداً للربط في عالم الكلام واللفظ ولكن موجوديّته لذلك انَّما هي بلحاظ دلالته على معنى والكلام في تشخيص ذلك المعنى.
ولكن الظاهر أن المحقق النائيني ( قده ) لا يقصد إيجادية الحرف بل إيجاديّة معاني الحروف ، فكون المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي ثابتاً في الذهن قبل الكلام أمر بديهي مفروغ عنه ، وانَّما المدّعى انَّ المعنى الحرفي سنخ معنى إيجادي والمعنى الاسمي إخطاري. وهذه الإيجادية في معاني الحروف لها ثلاثة أركان :
أولا : انَّ المعاني الحرفية لا بدَّ أن تكون عين حقيقتها عنواناً ووجوداً أي بالنظر التصديقي فضلاً عن التصوّري ، بخلاف المعاني الاسمية التي يتحقّق الغرض من إحضارها أن تكون عين حقيقتها بالنظر التصوّري.
ثانياً : انَّ المفاهيم الحرفية تقرّرها الماهوي والذاتي في طول عالم الوجود ـ ذهناً أو خارجاً ـ بخلاف التقرر الذاتي للمفاهيم الاسمية فانَّه محفوظ في المرتبة السابقة على الوجود الذهني والاستعمال.
ثالثاً : انَّ المفاهيم الحرفية نسبتها إلى ما يوازيها من النسب في الخارج نسبة المماثل إلى المماثل وليست كنسبة الكلّي إلى فرده بنحو ينطبق عليه ، خلافاً للمفاهيم الاسمية التي نسبتها إلى الخارج بالنظر التصوّري نسبة الكلّي إلى فرده بنحو ينطبق عليه ولهذا تكون حكاية المعنى الحرفي عن الخارج بتبع حكاية المعنى الاسمي.
الوجوه المختلفة في تفسير نسبيّة المعنى الحرفي
وتذكر ـ عادة ـ في إطار الاتجاه الثالث عدّة وجوه ادّعي اختلافها في تحقيق المعاني الحرفية ضمن هذا الإطار.
٢٤٢
١ ـ إيجاديّة المعنى الحرفي
الوجه الأول : ما نسب إلى المحقق النائيني ( قده ) إذ قيل : بأنَّه يرى أن مدلول الحرف هو الربط الكلامي وبهذا كان إيجاديّاً ، بخلاف المعاني الاسمية فانَّها مفاهيم استقلالية بحد ذاتها وأنفسها وبهذا كان المعنى الاسمي إخطاريّاً (١).
مناقشة السيد الأستاذ في إيجادية الحروف
وقد فهم السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ من هذا الكلام انَّ المقصود هو وضع الحروف للربط بين أطراف الكلام في مرحلة الاستعمال. فاعترض عليه : بأنَّ ربط الحروف بين المفاهيم الاسمية في التراكيب الكلامية غير المربوطة بعضها ببعض انَّما هو من جهة دلالتها على معانيها التي وضعت بإزائها لا من جهة إيجادها المعاني الربطية في مرحلة الاستعمال والتركيب الكلامي (٢).
وفهم دليل المحقق النائيني في ضوء ذلك بأنَّ الحروف بعد ان لم يكن يخطر منها في الذهن معنى مستقل فلا محالة يتعيّن في أن تكون معانيها إيجادية. فاعترض عليه بقوله : « الثاني ـ إن عدم استقلالية المعاني الحرفية في حدّ أنفسها وتقوّمها بالمفاهيم الاسمية المستعملة لا يستلزم كونها إيجادية ، لا مكان أن يكون المعنى غير مستقل في نفسه ومع ذلك لا يكون إيجاديّاً » (٣).
توضيح معنى إيجادية الحروف
والمظنون قويّا أن مقصود المحقق النائيني ( قده ) ملاحظة مرحلة المعنى وإيجادية المعاني الموضوعة بإزائها الحروف لا انَّها توجد الربط بين أطراف الكلام بلا أن تكون موضوعة لمعنى ، ولكن باعتبار ان سنخ معانيها الموضوعة بإزائها سنخ معانٍ لا يمكن
__________________
(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٣
(٢) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٧
(٣) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٦٨ ـ ٦٩
٢٤٣
إحضارها في الذهن مستقلاً لعدم ثبوت تقرّر ذاتي لها بقطع النّظر عن مرحلة وجودها ضمن اشخاص أطرافها كانت إيجادية ـ بالنحو المتقدّم شرحه في الفوارق الثلاثة بين معاني الحروف والأسماء ـ فلا مجال لشيء من هذين الاعتراضين.
وبكلمة أخرى : ان الإيجاديّة إذا لم يرد بها الإيجادية في نفس مرحلة الكلام في مقابل تقرّر المعنى الحرفي بقطع النّظر عن المرحلة الكلامية بل أريد بها الإيجادية في مرحلة الصورة الذهنية لمدلول الكلام في مقابل ان يكون للمعنى تقرّر في مرتبة ذاته وبقطع النّظر عن مرحلة الوجود الذهني فلا يرد عليها الاعتراضان المذكوران.
مناقشة المحقق العراقي في الإيجادية
ومنه يظهر : أنَّه لا مجال لاعتراض أورده المحقق العراقي ( قده ) من أن هذا مبني على القول بإمكان وجود الماهية المهملة ـ الموضوع لها الاسم ـ في الذهن مجرّداً عن الإطلاق والتقييد ليوجد فيها التقييد بالحرف ، مع استحالة ذلك ، لأنَّ الطبيعة اللا بشرط المقسمي لا تأتي في الذهن إلا في ضمن الطبيعة بشرط شيء أو الطبيعة لا بشرط. وعلى الأول ، يكون التقييد ثابتاً في مرحلة سابقة على الكلام وهو خلف الإيجادية. وعلى الثاني ، يستحيل إيجاد الربط والتقييد لأنَّ المطلق لا يقبل التقييد إلا بإزالة تلك الصورة واستبدالها بصورة أخرى ويعود حينئذ نفس التشقيق (١).
فانَّه لم يكن المقصود انَّ معاني الحروف توجد التقييد في معاني الأسماء بعد وجودها في الذهن مهملة لكي يكون خلاف التحقيق ، وانَّما المقصود من الإيجادية الخصائص الثلاث المتقدّمة ، وهي لا تستلزم وجود المعنى الاسمي الواقع طرفا للمعنى الحرفي في الذهن بنحو مهمل قبل وجوده.
هذا ، مضافاً : إلى أنَّه لو سلّم انَّ المقصود من الإيجادية ما توهّم فلا يرد عليه الإشكال المذكور أيضا ، لأنَّ الطبيعة اللا بشرط المقسمي وإن كان لا يعقل وجودها على جامعيتها في الذهن إلا أن إحدى حصتيها ـ وهي الطبيعة اللا بشرط القسمي ـ
__________________
(١) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ٢٢
٢٤٤
قابلة للوجود في الذهن ولطرو التقييد عليها ، لأن هذه الحصة متقومة بعدم لحاظ التقييد لا بلحاظ عدم التقييد فإذا طرأ عليها الربط الكلامي زال بذلك قيدها ولا يلزم من ذلك تبدّل الصورة رأساً. والحاصل : انَّ المطلق بإطلاق لحاظي لا يعقل طرو التقييد عليه إلا بتبديل شخص هذا اللحاظ ، وأمَّا المطلق الّذي يرجع إطلاقه إلى أمر عدمي وهو عدم لحاظ القيد فيعقل طرو التقيد عليه مع حفظ شخص لحاظه ، غاية الأمر يبدل عدم لحاظ القيد فيه إلى لحاظه وأمَّا ما أفاده المحقق العراقي قدسسره من النقض على الإيجادية بأن لازمها كون مقدمات الحكمة الدالة على الإطلاق إيجادية أيضا ، لأن الإطلاق أمر زائد على الطبيعة المهملة كالتقييد. ففيه : أن مقدمات الحكمة ليست موازية للحرف في مرحلة الدلالة ، لأن دلالتها تصديقيّة وفي مرحلة المدلول الجدّي للكلام ـ كما حققناه في محله ـ والكلام في الحرف انَّما هو في مرحلة المدلول التصوّري فلا معنى لقياس أحدهما بالآخر.
مناقشات أخرى للمحقق العراقي مع جوابها
وقد نسب إلى المحقق العراقي ( قده ) في تقريرات بحثه (١) عدد آخر من الاعتراضات لا تخلو من غرابة.
منها ـ انَّ الهيئة التي تطرأ على المادة متأخرة بالطبع عن المادة المتأخرة عن مدلولها وهو المعنى الاسمي ، فلو كانت الهيئة موجودة لمعناها في المعنى الاسمي لكان معناها متأخراً عنها وبالتالي يتأخر عن مدلول المادة بثلاث رتب ، وبما انَّه مقوم لموضوعه يلزم أن يكون في رتبته فيتقدّم على علته بثلاث رتب وهذا خلف.
ويرد عليه : ـ لو سلّم ان المقصود من الإيجادية ما توهّم ـ ان المعنى الحرفي مقوم للمقيد بما هو مقيد وما تكون المادة متأخرة عنه تأخر الدال عن المدلول ذات المقيد بما هو معنى اسمي لا المقيد بما هو مقيد ، فلا يلزم كون المتأخر مقوماً للمتقدم.
ومنها ـ انَّ المعنى الحرفي إذا كان إيجاديّاً في مرحلة الكلام ولا واقع له وراء ذلك
__________________
(١) بدائع الأفكار ج ١ ص ٤٣
٢٤٥
يلزم أن لا يكون للحرف مدلول بالعرض ومفني فيه ، وهذا يعني انَّ القضية في مرحلة المدلول بالعرض تظلّ ناقصة وغير متطابقة مع مرحلة المدلول بالذات. ويرد عليه : انَّه لو سلّم انَّ المقصود من الإيجادية ما توهّم ـ فيمكن لمدعي هذا النحو من الإيجادية أن يقول : بأنَّ الربط الكلامي له محكي وهو الربط الخارجي في مرحلة المدلول بالعرض ولكنه ليس على نحو حاكية المفهوم الذهني عن مصداقه لأنَّه خلف الإيجادية بالمعنى المفترض بل على نحو حكاية المماثل عن مماثله. وبذلك يظهر الجواب عن اشكاله الثالث ؛ وهو انَّ مدلول الحرف في قول الآمر « سِر من البصرة بحكم كونه إيجاديّاً يكون في صقع الطلب ومثله في التأخر عن المطلوب رتبة وباعتباره من قيود المطلوب يكون متقدّماً فان ما هو في صقع الطلب الربط الكلامي وما هو من قيود المطلوب لبّ محكيه بالمعنى الّذي عرفته. على أن كون شيء موجوداً في صقع الطلب لا يعني انَّه في رتبته وكون شيء في رتبة الطلب لا يعني تأخّره رتبة عن المطلوب.
٢ ـ وضع الحروف للوجود الرابط
الوجه الثاني : ما نسب إلى المحقق الأصفهاني ( قده ) إذ ادّعي أنَّه يرى وضع الحرف للوجود الرابط الخارجي. واعترض عليه السيد الأستاذ ـ دام ظلّه ـ.
أوّلاً : انَّ الوجود الخارجي أو الذهني ليس مأخوذاً في المعنى الموضوع له الكلمة ، بل اللفظ يوضع بإزاء ذات المعنى لأنَّ الوضع انَّما هو لأجل الانتقال الذهني إلى مدلوله وما يعقل انتقال الذهن إليه ذات المعنى لا الوجود.
وثانياً : انَّ الوجود الرابط كثيراً ما لا يكون موجوداً في موارد الاستعمال ، كما في موارد استعمال اللام في قولنا « الوجود لله واجب » إذ لا يعقل الوجود الرابط بين الله ووجوده.
وثالثاً : انَّ الوجود الرابط الخارجي أساساً لا موجب للالتزام به ، إذ لا برهان على وجود أمر ثالث في الخارج زائداً على الذات والعرض سوى ما يدّعي : من انَّا قد نعلم بوجود زيد وبوجود علم ونشك في قيام هذا العلم بزيد ، وحيث انَّ المشكوك غير المعلوم فيجب أن يكون هناك في حالة علم زيد أمر ثالث وراء ذات زيد وذات العلم
٢٤٦
وهو الوجود الرابط وهذا البرهان مدفوع : بأن العلم والشك حيث انَّهما متقوّمان بالصور الذهنية لا بالخارج ابتداءً فلا يقتضي فرض العلم والشك إلا فرض صورتين ذهنيّتين متغايرتين في عالم الذهن ولا ينافي كون مطابقهما واحداً في الخارج (١)
توضيح المقصود من الوجود الرابط
والتحقيق : أنَّ المتراءى من عبائر المحقق الأصفهاني ( قده ) انَّه يقول بوضع الحرف لماهيّة النسبة التي هي عين الاستهلاك والاندكاك والتي يكون تقرّرها الماهوي في طول صقع الوجود ذهناً أو خارجاً لا للوجود الرابط الخارجي ، فكون النسبة موجودة خارجاً أو موجودة ذهناً غير مأخوذ في مدلول الحرف وانَّما المدلول نفس ماهية النسبة. وهذا لا يعني أيضا كون الماهية جامعاً ذاتياً بين الربط الذهني والوجود الرابط الخارجي الموازي له لما تقدّم من استحالة الجامع الذاتي بين ربطين سواءً كانا خارجيَّين أو ذهنيَّين أو مختلفين ، لأنَّ كلّ ربط متقوّم ذاتاً بشخص وجود طرفيه. وبذلك يظهر : أنَّ النسبة المتقومة بالطرفين في عالم الذهن وافية بالمعنى الحرفي عند المحقق الأصفهاني ، ولهذا جاء في كلامه تشبيه المعنى الحرفي والاسمي في الذهن بالوجود الرابط والوجود المحمولي ، فالمعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي في عالم المفاهيم في الذهن كالوجود الرابط بالنسبة إلى الوجود المحمولي في الخارج لا انَّ المعنى الحرفي هو الوجود الرابط. وممَّا يوضح ذلك : أنَّه قدسسره قد صرّح بانحفاظ النسبة التي هي مدلول الحرف حتى في موارد هل البسيطة (٢) مع بداهة انَّه لا وجود رابط خارجي بين وجود الشيء وماهيته.
وعلى هذا الأساس ، تندفع الإشكالات الثلاثة. امَّا الأول ، فلوضوح أنَّ الوجود الخارجي لم يؤخذ في مدلول الكلمة ليقال انَّه لا يقبل الانتقال الذهني إليه ، حيث انَّ الحرف لم يوضع للوجود الرابط الخارجي بل وضع لذات ماهية النسبة بقطع النّظر عن
__________________
(١) راجع محاضرات في أصول الفقه ج ١ ص ٧٢ ـ ٧٧
(٢) راجع نهاية الدراية ج ١ ص ٢٤
٢٤٧
نحوي وجودها. غير انَّ النسبة متقومة دائماً بشخص وجود طرفيها وبهذا كانت النسبة القائمة في ذهن المتكلم والنسبة القائمة في ذهن السامع ماهيتين متغايرتين وكلّ منهما قابلة للانتقال الذهني ، وذلك بأن توجد في صقع الذهن تبعاً لطرفيها بالنحو المناسب لها من الوجود. وأمَّا الثاني ، فلأنَّه مبني على تخيّل كون المدّعي وضع الحرف للوجود الرابط الخارجي وقد عرفت عدمه.
ثمَّ لا ندري هل كان نظره الشريف في تسجيل هذا النقض إلى وضوح صدق قولنا الوجود لله مع انَّه لا وجود رابط بين الطرفين ، أو إلى وضوح كونه كلاماً له مفاد مع انَّه إذا كان اللام يدلّ على الوجود الرابط فليس له في هذا الكلام مدلول بالذات فلا يكون الكلام ذا مفاد؟ فان كان النّظر إلى الأول ، فيرد عليه : انَّه لا بدَّ من تسجيل الإشكال في رتبة أسبق بالتقريب الثاني ، لأنَّ الكلام سواءً كان صادقاً أو كاذباً لا بدَّ أن يكون مدلوله بالذات محفوظاً فإذا كان المدلول بالذات نفس الوجود الخارجي فيكون عدم الصدق مساوقاً لعدم المفاد رأساً. وإن كان النّظر إلى الثاني فلا نعلم لما ذا لم ينقض بجميع موارد استعمال الحرف في حالات كذب المتكلّم حتى في مثل قولنا « السواد للجسم ثابت » حيث انَّ المدلول بالذات لا يتصوّر حينئذ فيلزم خلو الجملة من كونها ذات مفاد في نفسها.
ومنه يظهر : انَّ الإشكال الثالث وهو إنكار الوجود الرابط الخارجي لا يضرّ بالمدعى علاوة على أنَّه خلاف التحقيق ، إذ لو أريد إنكار ثبوت وجود ثالث خارجاً على وجود المنتسبين فهو صحيح لكنَّه ليس هو المراد بالوجود الرابط. وإن أريد إنكار ثبوت واقعية ثالثة في الخارج وراء واقعية المنتسبين فهو غير صحيح ، لوضوح انَّ هناك أمراً واقعيّاً ثابتاً في لوح الواقع الّذي هو أوسع من لوح الوجود نفتقده عند ما نفترض ناراً وموقداً غير منتسبين وهذه الواقعية هي منشأ انتزاع مثل عنوان الظرفية أو المظروفية وهي منشأ واقعيتهما لو قيل بأنَّهما من الأمور الواقعية لا الاعتباريّة.
٢٤٨