المرحلة الاؤلى
التجويد لغة مصدر من جوّد تجويداً والاسم منه الجودة ضدّ الرداءة يقال جوّد فلان في كذا اذا فعل ذلك جيّداً وأتى به على الوجه الحسن·
وفي الاصطلاح هو علم بقوانين يُعرّف بها اعطاء كلّ حرف ما هو يستحقّه افراداً وتركيباً·
واضعه: لم أظفر على قائل أسند أمره الىعالم أو جماعة معيّنة لكن المستفاد من جهة أخرى وبالخصوص ممّا روته العامة في تعريف الترتيل من أنّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام حيث قال فيه انه حفظ الوقوف وأداء الحروف أو بيانها ولا ريب على فرض التسليم لهذا الحديث في أنه لم يسبق أحد قطّ أن تكلّم في شأن الوقوف وشأن الحروف قبله عليه السلام بهذه الصراحة والايماء الى هذا الاصطلاح الذي لم يُعرف الاّ في أزمنة متأخرة·
ويعضده قول ابن أبي الحديد في شرحه على النهج عند ثنائه على أمير المؤمنين عليه السلام: فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها ومجلي حلبتها كلّ من بزغ فيها من بعده فمنه أخذ وله اقتفى وعلى مثاله احتدى· موضوعه الكلمات القرآنية لكن لا من حيث اللفظ وأحواله المختلف فيها بل من حيث تلك الصورة لأحرفها الهجائية من أمثال مخارج الحروف وصفاتها وأحكام النون الساكنة والتنوين والمدّ والادغام والوقف ونحوها·
حكمه الشرعي الذي يفهم من كلمات علماء المذهب في ذلك ينقسم الى ثلاثة وجوه:
الأول: ان حكم تعلّمه على كافة الناس المكلّفين مستحبّ·
الثاني: انّ عدم وجود المُتقن له موجب له وجوباً كفائياً·
الثالث: انّ كل ما يتعلّق بموارد الابتلاء كسورة الفاتحة وقل هو الله أحد وما ماثلهما ممّا هو واقع في محلّ الابتلاء فوجوبه عينيّ كما لا يخفى على كلّ مكلّف وهو اتّفاقي لدى عامة الفقهاء ان لم نقل أنّ اجماعهم معقود عليه وما فرّعوه من بعض التفريعات في المقام لا يقدح دعوى ذلك·
فضله
لا ريب في أنه من أشرف العلوم الشرعيّة لتعلّقه بالقرآن الكريم·
الفرق بينه وبين علم القراءات فأمّا علم التجويد فان غرضه يتعلّق بالأداء أكثر ممّا هو في اللفظ·
وأمّا علم القراءات فان غرضه يتعلّق باللفظ أكثر ممّا هو في الأداء·
المقصد الأول
في الأمور المهمّة التي ينبغي معرفتها لطالب هذا العلم والاحاطة بها قبل الشروع في دراسة علم التجويد وتفصيل الكلام عنها يقع في أبواب:
الباب الأول في فضل القرآن
اعلم ان القرآن في اللغة مصدر بمعنى الجمع والقراءة أو اسم مفعول بمعنى المجموع وفي العرف كلام منزّل للاعجاز بسورة منه وسُمّي قرآناً لأنه جمع القصص والأمر والنّهي والوعد والوعيد والآيات والسّور بعضها الى بعض·
واعلم انّه النور المبين والحبل المتين والعروة الوثقى والدرجة العليا والشفاء الأشفى والفضيلة الكبرى والسعادة العظمى من استضاء به نوّره الله ومن عق به أموره عصمه الله وهو الدليل يدلّ على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه عميق لا تُحصى عجائبه ولا تُبلى غرائبه منه مصابيح الهُدى ومنار الحكمة ودليل على المعرفة لمن عرض الصّفة فيه خبر العالمين من الأولين والآخرين وخبر السماء والأرض ولو أتاكم من يخبركم عن ذلك لتعجّبتم فعليكم به فما وجدتم آية نجى بها من كان قبلكم فاعملوا بها وما وجدتموها ممّا هلك بها من كان قبلكم فاجتنبوها·
الباب الثاني فيما يقال عند أخذ المصحف للقراءة وبيان أصناف القراءة
اعلم ان للقراءة وظائف لا تكاد تُحصى لأنها حكاية كلام الله جلّ شأنه المشتمل على الحكم العجيبة والأساليب الغريبة وليس المقصود منه مجرّد حركة اللسان بل المقصود معانيها ليستفيد منها حكمة ودقائق وحقائق وأسراراً وترغيباً ووعداً ووعيداً·
ولاختلاف الناس شدّة وضعفاً في الالتزام بها والامتثال لها فقد انقسموا الى ثلاثة أقسام:
الأول: من يحرّك لسانه ولايتدبّر قلبه لها وهذا من الخاسرين الداخلين في توبيخ الله تعالى وتهديده بقوله:
(أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ودعاء نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ويلُ لمن لاكها بين لِحْيَيْهِ ثمّ لا يتدبّرها·
الثاني: من يحرّك لسانه وقلبه يتبع اللسان فيستمع ويفهم منه كأنه يسمعه من غيره وهذه درجة أصحاب اليمين·
الثالث: من يسبق قلبه الى المعاني أولاً ثم يخدم اللسان قلبه فيترجمه وهذه درجة المقرّبين وفرق جليّ بين أن يكون اللسان ترجمان القلب كما في هذه الدرجة وبين أن يكون معلّمه كما في الدرجة الثانية فالمقرّبون لسانهم ترجمان يتبع القلب ولا يتبعه القلب·
وكيف كان فاذا أخذت القرآن للقراءة فقل ما روي عن الامام الصادق عليه السلام:
اللهمّ انّي أشهدك أنّ هذا كتابك المنزّل من عندك على رسولك محمد بن عبد الله(ص) وكلامك الناطق على لسان نبيّك جعلته هادياً منك الى خلقك وحبلاً متّصلاً فيما بينك وبين عبادك·
اللهم انّي نشرت عهدك وكتابك اللهمّ فاجعل نظري فيه عبادة وقراءتي فيه ذكراً وفكري فيه اعتباراً واجعلني ممّن اتّعظ ببيان مواعظك فيه واجتنب معاصيك ولا تطبع عند قراءتي على قلبي ولا على سمعي ولا تجعل على بصري غشاوة ولا تجعل قراءتي قراءة لا تدبّر فيها بل اجعلني أتدبّر آياته وأحكامه آخذاً بشرائع دينك ولا تجعل نظري فيه غفلة ولا قراءتي هدراً انّك أنت الرؤوف الرحيم·
الباب الثالث في ثواب تعلم القرآن وتعليمه
ومن يتعلمه بمشقة وعقاب من حفظه ثم نسيه
فأمّا وجوب تعلّمه كفاية لتوقّف استنباط الأحكام الشرعية عليه ولبقاء العلم به وعدم اندراسه سيّما مع كونه معجزة باقية على مرّ الدهور فممّا لا ريب فيه بل ولا في وجوبه عينيّاً في الجملة من جهة توقّف صحّة الصلاة الواجبة علىعامّة المكلّفين عليه، وقد تقدّم الكلام عن ذلك في المقدّمة كما مرّ عليك فلا حاجة لاعادته ها هنا·
وكيف كان فينبغي لمن حفظ القرآن أن يداوم على تلاوته حتى لا ينساه كيلا يلحقه بذلك تأسّف وتحسّر يوم القيامة قال تعالى: (من أعرض عن ذكري فانّ له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى)·
والذي يسبق الى الافهام من تعلّم القرآن وتعليمه غالباً بدوام الدرس والتلاوة بحيث يتناول ضبطه فحفظه تلاوة وفهماً وتفقّهاً ودرايةً وكان هذا هو الأغلب على الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وآله·
وقال الامام الصادق عليه السلام: ان الذي يعالج القرآن ويحفظه بمشقّة منه وقلّة حفظ له أجران·
قال أيضاً: من شدّد عليه القرآن كان له أجران ومن يسر عليه كان مع الأولين·
وقال النبي صلى الله عليه وآله: من علّم ولده القرآن فكأنّما حجّ البيت عشرة آلاف حجّة واعتمر عشرة آلاف عمرة وأعتق عشرة آلاف رقبة من ولد اسماعيل عليه السلام وغزا عشرة آلاف غزوة وأطعم عشرة آلاف مسكين مسلم جائع وكأنّما كسا عشرة آلاف عار مسلم ويكتب له بكلّ حرف عشر حسنات ويُمحى عنه عشر سيئات ويكون معه في قبره حتى يبعث ويثقل ميزانه ويتجاوز به على الصراط كالبرق الخاطف، ولم يفارقه القرآن حتى ينزل به من الكرامة أفضل ما يتمنّى·
وروى الكليني في الكافي عن الصادق عليه السلام انه قال: ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلّم القرآن أو يكون في تعلّمه·
الباب الرابع فيما جاء في قراءة القرآن في المصحف
وترتيله بالصوت الحسن وما يقال عند ختمه
اعلم انه ينبغي القراءة في المصحف كما دلّت عليه الأخبار عن أهل العترة الأخبار عليهم أفضل صلاة الجبار وان كان حافظاً له على ظهر قلب·
فمن ذلك ما روي عن الكافي وثواب الأعمال عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: من قرأ في المصحف متّع ببصره وخفّف عن والديه وان كان كافرين·
ومنها مافي الخصال عن جابر قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون الى الله عزّوجلّ المصحف والمسجد والعترة يقول المصحف: يا ربّ حرّقوني ومزّقوني ويقول المسجد: يا ربّ عطّلوني وضيّعوني وتقول العترة: يا ربّ قتلونا وطردونا وشرّدونا فأجثوا للركبتين للخصومة فيقول الله جلّ جلاله: لي أنا أولى بذلك·
وأمّا ما يتعلق بتحسين الصوت فقوله تعالى: (ورتّل القرآن ترتيلا)، وقوله: (وقرآناً فرّقناه لتقرأه على الناس على مكث)·
ومنه قوله (ص): لكلّ شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن·
ويحرم التغنّي بالقرآن وهو مدّه وترجيعه بكيفية خاصة مطربة تناسب مجالس اللهو ومحافل الطرب وآلات اللهو والملاهي وليس هو مجرد تحسين الصوت كما لا يخفى اذ لا تلازم بينهما فليس كل صوت حسن أو حزين يسمّى غناءاً والملاك ما ذكرناه·
ولختم القرآن تقول ما رواه الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه في الاختصاص عن الصادق عليه السلام وهو هذا الدعاء:
اللهم انّي قد قرأت ماقضيت من كتابك الذي أنزلته على نبيُّك الصادق (ص) فلك الحمد ربنا·
اللهم اجعلني ممن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويؤمنُ بمحكمه ومتشابهه واجعله أنساً في قبري وأنساً في حشري واجعلني ممن ترقّيه بكل آية درجة في أعلا عليّين آمين رب العالمين·
الباب الخامس: فيما جاء في البيوت التي فيها مجرد القرآن
والبيوت التي يقرأ فيها واستماعه ولزومه وآدابه
فمن ذلك ما في الكافي وثواب الأعمال عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: انه ليعجبني أن يكون في البيت مصحف يطرد الله عزّ وجلّ به الشياطين·
وفي عدّة الداعي عن النبي (ص) انه قال: اجعلوا بيوتكم نصيباً من القرآن، فانّ البيت اذا قرء فيه القرآن يسرّ على أهله وكثر خيره وكان سكّانه في زيادة واذا لم يقرأ فيه القرآن ضيق على أهله وقلّ خيره وكان سكانه في نقصان·
ومنه ما في مصباح الشريعة حيث قال الامام الصادق عليه السلام: من قرأ القرآن ولم يخضع له ولم يرق عليه ولم ينشيء حزناً ووجلاً في سرّه فقد استهان بعظم شأن الله وخسر خسراناً مبيناً فقاريء القرآن يحتاج الىثلاثة أشياء قلب خاشع وبدن فارغ وموضع خال فاذا خشع قلبه فرّ منه الشيطان واذا تفرغ نفسه من الأسباب تجرّد قلبه للقراءة فلا يعترضه عارض فيحرمه نور القرآن وفوائده واذا اتّخذ مجلساً خالياً واعتزل عن الخلق بعد أن أتى بالخصلتين الأوليين استنأنس روحه وسرّه بالله ووجد حلاوة ومخاطبات الله عباده الصالحين وعلم لطفه لهم ومقام اختصاصه لهم بقبول كراماته وبدائع اشاراته·
وأما الآداب التي ينبغي مراعاتها للقاريء فمنها المندوب والواجب:
الآداب المندوبة
ان من أسباب حفظ القرآن في القلوب والمصاحف تلاوته ويضاف اليه المواظبة على دراسته مع القيام بآدابه الظاهرة وشروطه· والمحافظة على ما فيه من الأعمال الباطنة والظاهرة عند التلاوة·
الآداب الباطنة
فالأول منها عظمة الكلام وفضّل الله تعالى ولطفه بخلقه في نزول كلامه جلة شأنه عن عرش جلاله الى درجة افهام خلقه·
وثانيها احضار عظمة المتكلم في قلبه ويعلم ان ما يقرأه ليس من كلام البشر·
وثالثها ترك حديث النفس·
ورابعها التدبّر وهو وراء حضور القلب، قال تعالى: (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها)·
وخامسها التفهّم وهو أن يستوضح من كل آية ما يليق بها وذلك بالاعتماد على المروي من طرق أهل العصمة صلوات الله وسلامه عليهم وخاصة في المتشابه منه وما ذكره أئمة التفسير من الامامية كالطبرسي في مجمعه والطوسي في تبيانه وعلم الهدى السيد المرتضى في أماليه وأخيه الشريف الرضي في تلخيصه والفيض الكاشاني في صافيه·
وسادسها التخلي عن موانع الفهم وهي انصراف الفهم الى تحقيق الحروف باخراجها من مخارجها والتعصّب لمذهب سمعه وعكف على تقليده والاتصاف بكبر أو الابتلاء بهوى مطاع في الدنيا وخلو الذهن من أسباب الفهم الصحيح لجملة كلمات القرآن أو بعضها·
وسابعها التخصيص وهو أن يُقدّر أنّه المقصود بكلّ خطاب في القرآن فان سمع أمراً أو نهياً قدّر أنه هو المأمور به والمنهي عنه وان سمع وعداً أو وعيداً فكمثل ذلك·
وثامنها التأثّر وهو أن يتأثّر قلبه بالآثار التي توحيها معاني كلمات القرآن بحسب اختلافها في الاشارة الى الرحمة والمغفرة والعذاب ونحو ذلك·
وتاسعها الترقّي وهو أن يترقّى باحساسه الى درجة تتجلّى فيها معاني القرآن الى حدّ يبلغ فيه كأنه يراها ماثلة لديه عياناً·
وعاشرها التبرّي وهو أن يتبرّى من حوله وقوته والالتفات الى نفسه بعين الرضا والتزكية فاذا تلاآيات الوعد والمدح للصالحين فلا يشهد نفسه عند ذلك، بل يشهد الموقنين والصدّيقين فيها ويتشوّق أن يلحقه الله بهم واذا تلا آية المقت وذمّ العصاة والمصرّين شهد نفسه هنالك وقدّر انه المخاطب خوفاً واشفاقاً·
الآداب الظاهرة
وأما الآداب الظاهرة للتلاوة فهي تتألف من ثلاثة ضروب أدب وكيفية خاصة وذكر·
فأما الأولان وهما الأدب والكيفية الخاصة فالكلام عنهما يقع في أمور:
الأول أن يكون متطهراً من الحدث الأصغر فضلاً عن الأكبر·
الثاني أن يكون مستاكاً لأن الفم طريق مرور وصدور كلام الذكر الشريف من الخارج المولدة لهيئاته وصورة كما نصّ عليه الخبر ولأن الملكين الموكّلين به يتأذّان من رائحة بخر فمه·
الثالث أن يكون على هيئة الأدب والسكون·
الرابع أن يكون جالساً مستقبل القبلة·
الخامس أن يكون مطرقاً برأسه غيرمتربّع·
السادس أن يكون جلوسه جلوس من يكالم ربّه قد حقر مقامه وضعفت حيلته وانقطع رجاؤه الى من سواه·
السابع أن يبتدىء بالدعاء المخصوص كما قدّمنا، وكذا ينتهي بالدعاء المأثورلذلك وقد مرّ أيضاً·
تنبيه
وأفضل أحوال القراءة أن تكون في البيت لأنه أبعد عن الرياء وليس بشرط وعليه جرت سيرة الأئمة عليهم السلام كما هو المروي عنهم في غيرمحل·
الذكر
وأما الذكر فهو ثالث الأقسام التي ذكرناها لك من أدب التلاوة وأردنا به المتلو من جملة كلمات القرآن الكريم فان كان في الصلاة فهو المبحوث عنه في كتب الفقهاء وسيأتي في المباحث الآتي ذكرها بعض اشارة له على نحو الخصوص والتعيين·
وأما اذا كان واقعاً في غير الصلاة فالأدب المندوب فيه ان تجزأه ثلاثين جزءاً وتقرأ في كل يوم وليلة جزءاً واحداً بترتيل وترسّل وتفكّر في معانيه الظاهرة والباطنة وتقف عند آية فيها ذكر الجنة وآية فيها ذكر النار وتطلب الأولى وما يوجب الوصول اليها مع تضرّع وخشوع وبكاء على قدر الامكان·
الاداب الواجبة
والكلام عنها يقع في أطراف
(الطرف الأول) في كتابة القرآن
يستحبّ تحسين كتابة القرآن وتبيينه ولا بأس بالنقط وكذا العلامات بالحمرة وغيرها فإنه تزيين وتبيين وصدّ عن وأما ما ذهب اليه بعض المعاصرين من جواز تمزيق الأوراق التي وجد عليها شيء من القرآن وذلك بفصل الكلمات أولاً عن بعضها البعض ثم الكلمات نفسها ما وجد لذلك سبيلاً ثم الحروف كالرحمن ـــ بفصل (الر) عن (حمن) من البسملة والأدلة بحسب النظر القاصر لا تسعفهم لما هو الراجح من بقاء حرمة كلمات القرآن أفراداً وتركيباً كما وقفت على مصرح به من الامامية في بعض الكتب التي لا يحضرني الآن اسمها·
والذي يلزمه الاحتياط في العمل هو اضافة بعض الخطوط والحروف للكلمات القرآنية على سبيل المثال على وجه يخرجها عن منطوقها وصورتها ثم طرحها·
فان الامحاء بالماء حسبما نصّ عليه الخبر عنهم عليهم السلام ونحوه يتعذّر في الأغلب وخاصّة في هذه الأزمنة لاختلاف وسائل الكتابة والطباعة وأنواع الحبر المستخدم فيها·
الطرف الثاني في سجود التلاوة
يجب سجود التلاوة على القارىء كلما قرأ عزيمة من العزائم الأربع السجدة وفصّلت والنجم والعلق·
وفي في سورة السجدة قوله عزّ وجلّ: (إنّما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكروا الله بها خرّوا سجّداً وسبّحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون)·
وفي سورة فصلت قوله تبارك وتعالى: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر واسجدوا لله الذي خلقهنّ ان كنتم ايّاه تعبدون· فان استكبروا فالذين عند ربّك يُسبّحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون)·
وفي سورة النجم قوله: (فاسجدوا لله واعبدوا)·
وفي سورة العلق: (كلا لا تطعه واسجد واقترب)·
وقد انعقد الاجماع على الوجوب في هذه المواضع الأربعة وذلك عند استماعها دون سماعها علىالأظهر ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط والسبب مجموع الآية المذكورة فلا يجب بقراءة بعضها ولو لفظ السجدة منها وان كان أحوط، ولا فرق عند حصول الاستماع بين أن يكون القاريء لها ذكراً أو انثى صغيراً أو كبيراً بالغاً أو غيربالغ حراً أو رقّاً، ذا روح أو غير ذي روح كالمذياع والحاكي اذ لا فرق بينها في ذلك لعموم الحكم وشموله لهذه المصاديق حتى المعلّم والمتعلّم متى ما حصل لهما موجبذلك اذ الملاك في المسألة التلفظ بها من عضو النطق أو استماعها وهو طلب السمع وتجشمه والاصغاء اليه والأحوط ذلك علىالسامع من غير اصغاء كما تقدّم ذكره·
وأما المطالعة لها من غير صوت وتلفّظ فإنه لا سجود فيها والمشهور ان محل السجود بعد تمام الآية فمتى استمعها، أو تلاها وجب عليه السجود فوراً بلا خلاف ولا يجوز تأخيرها وان أخّرها ولو عصياناً يجب اتيانها ولاتسقط·
ويتكرّر السجود بتكرّر السبب مع التعاقب وتخلّل السجود قطعاً وهو مع التعاقب بلا تخلّله لا يخلو من قوة ومع عدم التعاقب لا يبعد عدمه·
وان قرأها أو استمعها في حال السجود يجب رفع الرأس منه ثم الوضع ولا يكفي البقاء بقصده ولا الجرّ الى مكان آخر، وكذا فيما اذا كان جبهته علىالأرض لا بقصد السجدة فسمع أو قرأ آية السجدة·
والظاهر أنه يعتبر فيوجوها علىالمستمع كون المسموع صادراً بعنوان التلاوة وقصد القرآنية فلو تكلّم شخص بالآية لا بقصدها لا تجب بسماعها وكذا لو سمعها من صبي غير مميّز أو نائم أو من حبس صوت وان كان الأحوط ذلك خصوصاً في النائم·
ويعتبر في السماع تمييز الحروف والكلمات فلا يكفي سماع الهمهمة وان كان أحوط·
ويعتبر في هذا السجود بعد تحقّق مسمّاه النيّة واباحة المكان والأحوط وضع المواضع السبعة: الجبهة والكفين والركبتين، وابهامي القدمين ووضع الجبهة على مايصحّ السجود وان كان الأقوى عدم اللزوم، نعم الأحوط ترك السجود على المأكول والملبوس بل عدم الجواز لا يخلو من وجه لا يعتبر فيه الاستقبال ولا الطهارة من الحدث والخبث ولا طهارة موضع الجبهة ولا ستر العورة وليس في هذا السجود تشهّد ولا تسليم ولا تكبيرة افتتاح، نعم يستحبّ التكبير للرفع عنه دون الهوى اليه ولا يجب فيه الذّكر بل يستحبّ ويكفي مطلقه وأفضله بالمأثور وهو: (لا اله الا الله حقاً حقاً لا اله الا الله ايماناً وتصديقاً لا اله الا الله عبودية ورقاً سجدت لك يا ربّ تعبّداً ورقّاً لا مستنكفاً ولا مستكبراً بل أنا عبد ذليل خائف مستجير·
وفي رواية أخرى يقول: (أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصى ثناءاً عليك أنت كما أثنيت علىنفسك·
الطرف الثالث في وجوب القراءة في الصلاة بالعربية
والمحافظة على اصولها
قد كثرت عبارات فقهاء المذهب بالتلويح والتصريح الى ضرورة مراعاة قوانين اللغة العربية واصولها عند قراءة سورة الفاتحة والسورة التي تليها وأن المدار في صحة القراءة على أداء الحروف من مخارجها على نحو يعدّه أهل اللسان مؤدّياً للحرف الفلاني دون حرف آخر ومراعاة حركات البنية وما له دخل في هيئة الكلمة والحركات والسكنات الاعرابيّة والبنائية على وفق ما ضبطه علماء العربية لعدم صدق القرآن على المتلو عند مخالفة ذلك وانه قد قرأ بغير ما أمر به ومن ذلك الترجمة فانها لا تجزي عما ذكرنا لقوله تعالى: (انا أنزلناه قرآناً عربياً) وقوله: (قرآناً عربياً غير ذي عوج) فوصفه بالاستقامة كما وصفه بالبيان في قوله(بلسان عربي مبين) وكما وصفه بالعدل في قوله: (وكذلك أنزلناه حكماً عربياً)·
ومن لا يقدر الا على الملحون أو تبديل بعض الحروف ولا يستطيع أن يتعلّم أجزأه ذلك ولا يجب عليه الائتمام وان كان أحوط
ومن كان قادراً على التصحيح والتعلّم ولم يتعلّم يجب عليه على الأحوط الائتمام مع الامكان·
المقصد الثاني
والكلام فيه يقع في مطلبين
المطلب الأولفي بيان مراتب الصوت في اللغة والاصطلاح وما يلحق بذلكمراتب الصوت في اللغة
نذكرها مرتبة على أسبقية الذكر:
1 ـ (الكنّ) قولك كننته واكتننت الشيء في نفسي اذا صنته عن الأداء قال تعالى: (ما تكن صدورهم)·
2 ـ (الكتمان) وهو السكون عن المعنى وهو قوله عزّ وجلّ (ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات) أي يسكتون عن ذكره·
3 ـ (الهمهمة) وهي ترديد الصوت في الصدرقبل وصوله الى حدّ المخارج·
4 ـ (النحيح) وهو صوت يردّده الانسان في جوفه·
5 ـ (الهينمة) وهي الصوت الخفيّ وقيل كل كلام لا يُفهم·
6 ـ (الهمس) وهو الصوت الخفيّ حتى كأنه لم يخرج من الفم وذُكر ان الهمس والهينمة مترادفان·
7 ـ (الاعلان) وهو خلاف الكتمان وهو اظهار المعنى للنفس ولا يقتضي رفع الصوت به·
8 ـ (النجوى) وهي الكلام السرّي بين اثنين يقال نجوته أي: ساررته وكذا ناجيته وانتجى القوم وتناجوا، أي: تسارّوا·
9 ـ (التخاطب) وهو توجيه الكلام نحو الغير للإفهام وهو المتعارف·
10 ـ (الجهر) نقيض الهمس لأنّ المعنى يظهر لنفس السامع بظهور الصوت وأصله رفع الصوت يقال جهر بالقراءة اذا رفع صوته بها قال تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) أي: بقراءتك في صلاتك وصوت جهير رفيع منه يقال رجل جهيروجهوري اذا كان رفيع الصوت، ومناط الجهر والاخفات في قراءة السورة في الصلاة ظهور جوهر الصوت وعدمه لاسماع من بجانبه وعدذمه ولا يجوز الافراط في الجهر كالصياح كما أنه لا يجوز الاخفات بحيث لا يسمع نفسه مع عدم المانع·
11 ـ (النداء) وهو رفع الصوت وظهوره·
12 ـ (الهتف) وهو الصوت الشديد من باب ضرب وهتف به صاح به ودعاه ويقال سمعت هاتفاً يهتف اذا كنت تسمع الصوت ولا تبصر أحداً·
13 ـ (النحيب) وهو رفع الصوت بالبكاء أو هو بكاؤه مع صوت واعوال ومنه النحاب سعال الابل·
مراتب الصوت في الاصطلاح
وهي تنقسم عند علماء هذا الفن بحسب ما اصطلحوا عليه الى ثلاث مراتب:
الأولى: التحقيق أو الترتيل أما الأول فهو مصدر من حققت الشيء تحقيقاً اذا بلغت يقينه ومعناه الاتيان بالشيء على حقه من غير زيادة فيه ولا نقصان فهو بلوغ حقيقة الشيء والوقوف على كنهه وأما الثاني فهو مصدر من رتّل زيد كلامه اذا أتبع بعضه بعضاً على مكث وتفهم وترسّل فيه من غير عجلة وأحسن تأليفه وسبكه ونظمه وبيان حروفه بحيث يتمكّن السامع من عدّها مأخوذ من قولهم(ثغر رتل ومرتّل)·
(الثانية) الحدر بفتح الحاء وسكون الدال المهملتين مصدر من حدر بالفتح يحدر بالضم اذا أسرع فهو من الحدور الذي هو الهبوط لأن الالاسراع من لازمه بخلاف الصعود ويراد به في الاصطلاح ادراج القراءة وسرعتها مع ايثار الوصل واقامة الاعراب ومراعاة تقويم وتمكين الحروف وهو ضدّ التحقيق وليحترز فيه عن بتر حروف المد واختلاس أكثر الحركات وعن التفريط الى غاية لا تصحّ بها القراءة ولا يوصف بها التلاوة وهذا النوع من القراءة مذهب ابن كثير وأبي جعفر وسائر من قصّر المد المنفصل كأبي عمرو و يعقوب·
(الثالثة) التدوير وهو التوسّط بين التحقيق والحدر وهو الذي ورد عن أكثر أئمّة الإقراء ممن مدّ المنفصل ولم يبلغ الاشباع·
وهذا النوع من القراءة هو المختار عند أهل الأداء وورد النصّ عليه من أهل العصمة عليهم السلام كما في قوله عليه السلام: اقرأ قراءة ما بين القراءتين·