التأويل
الضوابط الحدودية والمبادئ الحدّية
إذا كانت الدائرة التأويلية تضيف الآيات إلى بعضها، بصورة تراكمية، وتكون العلاقة بين تلك المتراكمات علاقة متشابه بمحكم، تعبر عن وجود تفسير متبادل بين تلك الآيات، فان تلك المتضايفات في ظل الترادف بين (آيات الله) و(حدود الله)، تعمل عمل الحدود المتبادلة فيقيد بعضها بعضا، من خلال الكشف عن المزيد من التفصيلات التي تفصل الموضوع عن سواه، فالأمر بمثابة أن تطلب قلما، فيتحدد الطلب في هذا لموضوع، ثم تحدد انه ازرق، فتخرج كل الألوان الأخرى من دائرة الاهتمام، ثم تحدد القلم بالحبر، فينفي الأقلام الزرقاء ذات الحبر الجاف، ثم تحدد علامة تجارية لقلم الحبر الأزرق ذاك، وبذلك ننفي كمية أخرى من العلامات التجارية، ثم تحدد سمك رأس القلم، وبذلك تنفي القياسات الأخرى، وهكذا كل وصف يضاف يمثل حد وقيد يؤطر الموضوع ويحصره ويشخصه، بالنسبة للبائع ويعرفه على النوع المراد من الأقلام بكل دقة متناهية. وبذلك يبطل التشابه والالتباس والريب، كلما تقدمت الدائرة التأويلية إلى الأمام وإضافات المزيد من الآيات. فيتشخص موضوع البحث على مستوى النظري والتطبيقي بصورة صارمة وأكيدة تمنع الاختلاف وتقضي على أي إمكانية لنشوب النزاع.
وإذا كانت هناك توصيفات تتناول موضوع البحث، وتمثل في الوقت نفسه الحدود التي تحدده، في الوقت الذي هناك حدود عامة لاتقل أهمية عن الحدود الخاصة، بما تمثله من إطار عام يحكم الحدود الخاصة في المجمل، فيكون الخروج عليها هو تخطي لتلك الحدود، في هذا البحث نتناول الحدود العامة تلك ...
فلكل موضوع يبحث في الإطار القرآني مطلع كمطلع الشمس تشرق منه، وحد كحد الشمس تحد وتكمل به، والذي يهمنا ههنا بحث الحدود، التي نصطلح عليها بالمبادئ الحدية أو الضوابط الحدودية التي تحد كافة البصائر القرآنية وشرط صحة لكافة الرؤى المستنبطة من الكتاب. مما يعني ضرورة ان تراعي عملية الاستنباط تلك الحدود: (أن يقيما حدود)230/2، وكل اختراق أو تجاوز أو مقاربة لتلك الحدود يعتبر عدون يحكم على النتائج بالنقض والإبطال ويوصمها بالظالمة، وعن ذلك يقول تعالى: (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)229/2، (تلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه)1/65، (تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون)187/2.
وبناء على ذلك، فان الحدود هي الرؤى الإطارية، التي تضبط فاعلية الراسخ في علم الكتاب وتحصن استنباطاته من الشطط: (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون)230/2، بينما يؤدي الجهل بها إلى تأويلات جزئية يمكن أن تتعارض مع تلك الرؤى الإطارية التي تعمل عمل الضابط، وعن كل ذلك يتحدث الإمام الصادق عندما يشير إلى وجود الآيات الحدية في قبال المطالع: ((مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا ولَهَا ظَهْرٌ وبَطْنٌ ومَا فِيهَا حَرْفٌ إِلَّا ولَهُ حَدٌّ ومَطْلَعٌ))، فتكفل مراعاة المطالع والحدود الوصول إلى شروط الرؤى القرآنية الناضجة، التي تعبرعن الله وهدى الكتاب وروح الإسلام، بينما يعلق الأمام الصادق(ع) على تلك التأويلات المتجاوزة للمبادئ الحدية بالقول: ((بِمِثْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ الْقَبِيحِ الْمُسْتَكْرَهِ يَضِلُّونَ ويُضِلُّونَ)).
لقد كانت ممارسة المبتدئين أو الفاقدين المؤهل والخبرة بعلم الكتاب المتعجلين لاستنباط الفتاوى هو احد عوامل ظهور المذاهب التي ظلت بها الأمة وتوزعت طرائق قددا. في وقت كان التوجيه القرآني يقتضي نفي العجلة والتأني، استنادا لقوله تعالى: (لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما)114/20، فالخطاب ينهى عن التعجل الذي يؤدي الى اقتطاف نتائج فجة، مما يعني مطالبته بالتأني والتمهل من اجل أن يستوفي الكتاب منطقه ويزيد المستنبط علما وبيانا، وهو الأمر الذي من شأنه إذا ما تم أن يوصل الرؤية القرآنية قيد التشكل الى حدودها النهائية بصورة تلقائية، عبر الإحالات المتتابعة والانتقالات بين الأشباه والنظائر، فتتظاهر ضوابطها وينتفي الشك عنها.
فالشطط الذي أظهرته بعض المذاهب التي تأولت الخطاب القرآني، وما أنتجته من أحكام خطيرة على مستوى الشريعة أو العقيدة، ناتج عن عدم إلمامها بعلم التأويل باعتباره قواعد وإجراءات، بل باعتباره ضوابط حدية، فلم تبلغ خطوات التأويل مدها لعدم إحاطتها بالرؤى الإطارية التي تشكل المبادئ الحدية التي تشترط لها نتائج الممارسة، باعتبارها، أي تلك المبادئ الحدية مجالا أعلى من الأمان ...
إن التأويلات الجزئية الخاطئة تلك، عندما نصفها بكونها تتعارض مع المبادئ الحدية، فذلك تعبير آخر عن كونها مازالت في طور التشابه، وإنها لم تمنح الكتاب فرصته للنطق بكامل البصيرة الهادية، وتمت مصادرة عطائه اجتزاء ، وتوظيفه في إطار الأهواء أو التصورات الجاهلية التي تعبر عنها. فنحن لسنا مضطرين في كل مرة أن نبحث كل الفتاوى والاستنباطات التفصيلية، لتعيين ما لها وما عليها، بل مطالبون بعد أن أعطينا الإجراءات والقواعد والتطبيقات، إعطاء الإطار العالم الحدودي الذي يرشد تطبيق الإجراءات والقاعد، ونجعل المؤول قادرا على محاكمة النتائج التي ينتجها.
فانصب هدف البحث ههنا على توضيح الإطار القرآني العام من خلال توضيح المبادئ الحدية الأصولية، بهدف ترشيد الفعل الأولى الصادر عن المبتدئين في الاستنباط من القرآن، أو أولئك الذين لم يعضوا على العلم بضرس قاطع. كما يهدف لتوعية الوسط غير المتخصص، ومنحه القدرة على الحكم على النتائج التأويلية التي يتلقاها من خلال تعريفه بالمبادئ الحدودية التي تقوم بدور المعيار الضابط. بذلك نخلق له مرجعية يمثلها إطار كلي يتشكل من مبادئ حدية تتصف بكونها عامة، ومعيارية حاسمة، ينبغي أن تضبط النتائج وتحدها، كما ينبغي لتلك النتائج أن تنتظم بإطارها، فلا تخرج عليها، كي تمتلك شرط الصحة والمصداقية والمشروعية ..
إلا إن هذا العرض للمبادئ والضوابط سوف لن يأتي في إطار الاستقصاء الشامل لها بمقدار ما هو عرض لأهم تلك الضوابط التي تعرضت للاختراق والتجاوز، كما يشير إلى ذلك تاريخ مسيرة التأويل في فكر الأمة ..
1/ ضابط الاعتبار:
الفتوى والنقد تأويلا
يفرض هذا الضابط الإيمان بان للكتاب وجها ظاهرا وآخر باطن، على أساس منهما يشرع الكتاب عملية العبور من الأول للثاني، ومن الظاهر إلى الباطن اعتبارا. فقال يمكن لعملية الاستنباط أن تتجرد من ضابط الاعتبار، ويقرر هذا الضابط الآيات: (فاعتبروا يا أولي الأبصار)2/59، (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)3/57، (ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، أولم يتفكروا)6-7/30.
بناء على ذلك، ينبغي لكل فتوى أو نقد أن تلتمس مشروعيتها عبر استنباط الحكم من خل استنطاق الكتاب تأويلا. فكان الإمام الصادق يسال دائما من جاءه مستنبطا لرؤى ينسبها إلى القرآن عن مدى إلمامه بعلم التأويل: ((أخبروني أيها النفر ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخة، ومحكمه من متشابهه، الذي في مثله ضل من ضل، وهلك من هلك من هذه الأمة؟ فقالوا: بعضه فأما كله فلا. فقال لهم: من هاهنا أوتيتم، وكذلك أحاديث رسول الله (ص) [وبدأ في حديث طويل يشرح لهم ما غاب عنهم في رؤيتهم فتشابه الأمر عليهم حتى انتهى إلى القول:] فتأدبوا أيها النفر بآداب الله وكونوا في طلب علم الناسخ من القرآن من منسوخة ومحكمه من متشابهه وما أحل الله فيه مما حرّم، فانه أقرب لكم من الله وأبعد لكم من الجهل ودعوا الجهل ودعوا الجهالة لأهلها، فان أهل الجهل كثير، وأهل العلم قليل، وقد قال الله عز وجل: (وفوق كل ذي علم عليم)76/12))().
كما إن النتائج ومستنبطيها ينبغي دائما أن يستعدوا لمواجهة السؤال حول ذلك: أين هذا من كتاب الله؟! ما نطق بهذا كتاب؟! يقرر هذا الضابط الآيات: (أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون)43/12، (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)59/4، وحديث الباقر (ع) أنه قال لأصحابه يوما: «إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه أن النبي (ص): ((نهى عن القيل والقال: وفساد المال وكثرة السؤال))، فقيل له: يا ابن رسول الله، إني هذا من كتاب الله؟! قال: قوله: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) 114/4،(ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً) 5/4، وقال: (لا تسألوا عن أشياء إن تبدو لكم تسؤكم)101/5))().
2/ ضابط الحق:
الناطقية بالحق، التصديق المتبادل، نفي التقول
إن حكم الكتاب الحق يبين أن الأحكام المستنبطة تأويلا ينبغي أن تقيم الحق وتنفي الظلم وفي هذا السياق لا يمكن إسناد ظلما أو باطلا للكتاب، يقرر هذا الضابط الآيات القرآنية: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا)105/17، وقوله: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)29/45، وقوله: (حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل)105/7، وقوله: (لدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون)62/23، وقوله: (وما ينطق عن الهوى)3/53.
من هذا المنطلق فان الأحكام المستنبطة ينبغي أن يوجد في القرآن الشواهد الشاهدة على صدقها من جهة، وان لا يوجد في الكتاب ما يتناقض معها أو يكذبها من جهة أخرى. يقرر هذا الضابط الآيات القرآنية: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه)48/5، حيث نفهم لفظة (الكتاب) الثانية في الآية بمعنى الموضوعات التي يشتمل عليها الكتاب استنادا للنظير: (رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة)2/98، وقد اشتقت من الآية الآنفة أحاديث مثل: ((كتاب الله ... ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله))(). ((كتاب الله يصدق بعضه بعضا ولا ينقض بعضه بعضا فسل عما بدا لك)). ففي الخبر: ((سمع النبيّ (ص) قوما يتدارءون في القرآن، فقال: ((إنّما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض، وإنّما نزل كتاب اللّه يصدّق بعضه بعضا ، فلا تكذّبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه)). ((أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنه لا اختلاف فيه)).
يضاف إلى ذلك، أن إثبات صفة النطق للكتاب: (ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون)62/23، ينبغي أن يفرض اقتصار دور الفقيه على استنطاق الكتاب: (فاسألوهم إن كانوا ينطقون)63/21، ومن هذه الآية اشتق الحدي الوارد عن الإمام علي: ((استنطقوا القرآن))، مما يحدد عمل الفقيه في ترجمة مات ينطق به الكتاب فحسب، والتنزه عن التقول افتراء على الله، يقرر ضابط نفي التقول: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون)169/7، (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، إنما يأمركم ... أن تقولوا على الله ما لا تعلمون)168-169/2، (ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين، وإنه لتذكرة للمتقين)44-48/69..
إلا إن من المهم الالتفات إلى أن استنطاق الكتاب يفرض استمراره إلى أن تبلغ الرؤية حدودها بوصولها إلى مبادئها الحديثة، وان من جملة التقول المبطن أن يقطع منطق القرآن ويكتفي بنتيجة متشابهة، مثال ذلك عندما ينطلق احدهم من الحديث: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا))، ثم ينتقل إلى نظيرها القرآني: (الذي جعل لكم الأرض فراشا)22/2، فيلاحظ أن الأرض عرفها الحديث بكونها مسجدا، ثم عرفتها الآية بكونها فراشا، فنتج معه جواز السجود على كل ما يفرش على الأرض.
إلا أن هذه النتيجة مجتزأة، ومازالت في طور التشابه، باعتبار هناك النظير : (المسجد الحرام)1/17، الذي يدل على أن موضع السجود من الأرض قد يكون حراما، يكمل هذا المعنى النظير: (فجعلتم منه حراما وحلالا)59/10، فثمة مسجد من الأرض يتصف بحرمة السجود عليه وأخر بحلية السجود عليه.
والمتابعة للنظائر تكشف أن المأكول والملبوس، الذي منه الفراش، مما لا يجوز السجود عليه، حيث إرجاع: (المسجد الحرام)1/17، إلى النظير: (حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم)160/4، يصرف وجه (المسجد الحرام) إلى وجه أخر هو (الطيبات) التي تفسر بالطعام: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)32/7، وبالثياب في النظير: (أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة)60/24، لتكون النتيجة ان المسجد المحرم منه المأكول والملبوس، التي هي طيبات محللة على مستوى الأكل واللباس، إلا إنها محرمة على مستوى السجود ...