الباب الثالث
المُعرّف وتلحق به القسمة
المقدمة:
في مطلب ما وأي وهل ولم
إذا اعترضتك لفظة من أية لغة كانت، فهنا خمس مراحل متوالية، لابد لك من اجتيازها لتحصيل المعرفة، في بعضها يطلب العلم التصوري، وفي بعضها الآخر العلم التصديقي.
(المرحلة الأولى) تطلب فيها تصور معنى اللفظ تصوراً إجمالياً، فتسأل عنه سؤالاً لغوياً صرفاً، إذا لم تكن تدري لأي معنى من المعاني قد وضع. والجواب يقع بلفظ آخر يدل على ذلك المعنى، كما إذا سألت عن معنى لفظ (غضنفر)، فيجاب: أسد. وعن معنى (سُميدع)، فيجاب: سيد... وهكذا. ويسمى مثل هذا الجواب (التعريف اللفظي). وقواميس اللغات هي المتعهدة بالتعاريف اللفظية.
وإذا تصورت معنى اللفظ اجمالاً، فزعت نفسك إلى:
(المرحلة الثانية)، إذ تطلب تصور ماهية المعنى، أي تطلب تفصيل ما دل عليه الاسم اجمالا. لتمييزه عن غيره في الذهن تمييزاً تاماً، فتسأل عنه بكلمة (ما) فتقول: (..... ما هو؟).
وهذه (ما) تسمى (الشارحة)، لأنها يسأل بها عن شرح معنى اللفظ. والجواب عنه يسمى (شرح الاسم) وبتعبير آخر (التعريف الاسمي). والأصل في الجواب أن يقع بجنس المعنى وفصله القريبين معاً، ويسمى (الحد التام الاسمي). ويصح أن يجاب بالفصل وحده أو بالخاصة وحدها، أو بأحدهما منضماً إلى الجنس البعيد، أو بالخاصة منضمة إلى الجنس القريب. وتسمى هذه الأجوبة تارة بالحد الناقص وأخرى بالرسم الناقص أو التام، ولكنها توصف جميعاً بالاسمي. وسيأتيك تفصيل هذه الاصطلاحات.
ولو فرض ان المسؤول أجاب خطأ بالجنس القريب وحده، كما لو قال (شجرة) في جواب (ما النخلة) ـ فان السائل لا يقنع بهذا الجواب، وتتوجه نفسه إلى السؤال عن مميزاتها عن غيرها، فيقول: (أية شجرة هي في ذاتها) أو (أية شجرة هي في خاصتها)، فيقع الجواب عن الأول بالفصل وحده فيقول: (مثمرة التمر)، وعن الثاني بالخاصة فيقول: (ذات السعف) مثلاً.
وهذا هو موقع السؤال بكلمة (أي). وجوابها الفصل أو الخاصة.
ـ وإذا حصل لك العلم بشرح المعنى تفزع نفسك إلى:
(المرحلة الثالثة): وهي طلب التصديق: بوجود الشيء، فتسأل عنه بـ (هل) وتسمى (هل البسيطة)، فتقول: هل وجد كذا، أو هل هو موجود.
(ما) الحقيقية:
تنبيه ـ ان هاتين المرحلتين الثانية والثالثة يتعاقبان في التقدم والتأخر، فقد تتقدم الثانية، على حسب ما رتبناهما وهو الترتيب الذي يقتضيه الطبع، وقد تتقدم الثالثة، وذلك عندما يكون السائل من أول الأمر عالماً بوجود الشيء المسئول عنه، أو أنه على خلاف الطبع قدم السؤال عن وجوده فأجيب.
وحينئذٍ اذا كان عالماً بوجود الشيء قبل العلم بتفصيل ما أجمله اللفظ الدال عليه، ثم سأل عنه بـ (ما)، فإن ما هذه تسمى (الحقيقية). والجواب عنها نفس الجواب عن (ما الشارحة)، بلا فرق بينهما إلا من جهة تقدم الشارحة على العلم بوجوده وتأخر الحقيقية عنه.
وانما سميت حقيقية، لأن السؤال بها عن الحقيقة الثابتة ـ والحقيقة باصطلاح المناطقة هي الماهية الموجودة ـ والجواب عنها يسمى (تعريفاً حقيقياً) وهو نفسه الذي كان يسمى (تعريفاً اسمياً) قبل العلم بالوجود ولذا قالوا:
«الحدود قبل الهليات البسيطة حدود اسمية وهي بأعيانها بعد الهليات تنقلب حدوداً حقيقية».
ـ وإذا حصلت لك هذه المراحل انتقلت بالطبع إلى:
(المرحلة الرابعة): وهي طلب التصديق بثبوت صفة أو حال للشيء، ويسأل عنه بـ (هل) أيضاً، ولكن تسمى هذه (هل المركبة)، لأنه يسأل بها عن ثبوت شيء لشيء بعد فرض وجوده، والبسيطة يسأل بها عن ثبوت الشيء فقط، فيقال للسؤال بالبسيطة مثلاً: هل الله موجود. وللسؤال بالمركبة بعد ذلك: هل الله الموجود مريد.
فإذا أجابك المسؤول عن هل البسيطة أو المركبة تنزع نفسك إلى:
(المرحلة الخامسة): وهي طلب العلة: أما علة الحكم فقط أي البرهان على ما حكم به المسؤول في الجواب عن هل أو علة الحكم وعلة الوجود معاً، لتعرف السبب في حصول ذلك الشيء واقعاً. ويسأل لأجل كل من الغرضين بكلمة (لِمَ)الاستفهامية، فتقول لطلب علة الحكم مثلاً: (لِمَ كان الله مريداً). وتقول مثلاً لطلب علة الحكم وعلة الوجود معاً: (لِمَ كان المغناطيس جاذباً للحديد؟)، كما لو كنت قد سألت هل المغناطيس جاذب للحديد؟ فأجاب المسؤول بنعم، فان حقك أن تسأل ثانياً عن العلة فتقول (لِمَ).
تلخيص وتعقيب
ظهر مما تقدم أن:
(ما) لطلب تصور ماهية الشيء. وتنقسم إلى الشارحة والحقيقية. ويشتق منها مصدر صناعي، فيقال: (مائية). ومعناه الجواب عن ما. كما ان (ماهية) مصدر صناعي من (ما هو).
و(أي) لطلب تمييز الشيء عما يشاركه في الجنس تمييزاً ذاتياً أو عرضياً، بعد العلم بجنسه.
و(هل) تنقسم إلى «بسيطة» ويطلب بها التصديق بوجود الشيء أو عدمه، و«مركبة» ويطلب بها التصديق بثبوت شيء لشيء أو عدمه، ويشتق منها مصدر صناعي، فيقال: (الهلية) البسيطة أو المركبة.
و(لِمَ) يطلب بها تارة علة التصديق فقط، وأخرى علة التصديق والوجود معاً. ويشتق منها م صدر صناعي، فيقال (لَميَّة) بتشديد الميم والياء. مثل (كمية) من (كم) الاستفهامية. فمعنى لميَّة الشيء: عليّته.
فروع المطالب
ما تقدم هي أصول المطالب التي يسأل عنها بتلك الأدوات، وهي المطالب الكلية التي يبحث عنها في جميع العلوم. وهناك مطالب أخرى يسأل عنها بكيف وأين ومتى وكم ومن. وهي مطالب جزئية أي أنها ليست من أمهات المسائل بالقياس إلى المطالب الأولى لعدم عموم فائدتها، فإن ما لا كيفية له مثلاً لا يسأل عنه بكيف، وما لا مكان له أو زمان لا يسأل عنه بأين ومتى. على أنه يجوز أن يستغني عنها غالباً بمطلب هل المركبة، فبدلاً عن أن تقول مثلاً: (كيف لون ورق الكتاب؟ وأين هو؟ ومتى طبع؟..) تقول: (هل ورق الكتابَ أبيض؟ وهل هو في المكتبة؟ وهل طبع هذا العام؟..) وهكذا. ولذا وصفوا هذه المطالب بالفروع، وتلك بالأصول.
التعريف
تمهيد:
كثيراً ما تقع المنازعات في المسائل العلمية وغيرها حتى السياسية لأجل الاجمال في مفاهيم الألفاظ التي يستعملونها، فيضطرب حبل التفاهم، لعدم اتفاق المتنازعين على حدود معنى اللفظ، فيذهب كل فرد منهم إلى ما يختلج في خاطره من المعنى. وقد لا تكون لأحدهم صورة واضحة للمعنى مرسومة بالضبط في لوحة ذهنه، فيقنع ـ لتساهله أو لقصور مداركه ـ بالصورة المطموسة المضطربة، ويبني عليها منطقه المزيف.
وقد يتبع الجدليون والساسة ـ عن عمد وحيلة ـ ألفاظاً خلابة غير محدودة المعنى بحدود واضحة، يستغلون جمالها وابهامها للتأثير على الجمهور، وليتركوا كل واحد يفكر فيها بما شاءت له خواطره الخاطئة أو الصحيحة، فيبقى معنى الكلمة بين أفكار الناس كالبحر المضطرب. ولهذا تأثير سحري عجيب في الأفكار.
ومن هذه الألفاظ كلمة (الحرية) التي أخذت مفعولها من الثورة الفرنسية، وأحداث الانقلابات الجبارة في الدولة العثمانية والفارسية، والتأثير كله لإجمالها وجمالها السطحي الفاتن، وإلا فلا يستطيع العلم أن يحدها بحد معقول يتفق عليه.
ومثلها كلمة (الوطن) الخلابة التي استغلها ساسة الغرب لتمزيق بعض الدول الكبرى كالدولة العثمانية. وربما يتعذر على الباحث أن يعرف اثنين كانا يتفقان على م عنى واحد واضح كل الاتفاق يوم ظهور هذه الكلمة في قاموس النهضة الحديثة: فما هي مميزات الوطن؟ أهي اللغة أم لهجتها أم اللباس أم مساحة الأرض أم اسم القطر والبلد؟ بل كل هذا غير مفهوم حتى الآن على وجه تتفق عليه جميع الناس والأمم. ومع ذلك نجد كل واحد منا في البلاد العربية يدافع عن وطنه، فلماذا لا تكون البلاد العربية أو البلاد الإسلامية كلها وطناً واحداً؟
فمن الواجب على من أراد الاشتغال بالحقائق ـ لئلا يرتطم هو والمشتغل معه في المشاكل ـ أن يفرغ مفردات مقاصده في قالب سهل من التحديد والشرح، فيحفظ ما يدور في خلده من المعنى في آنية من الألفاظ وافية به لا تفيض عليها جوانبها، لينقله إلى ذهن السامع أو القارئ كما كان مخزوناً في ذهنه بالضبط. وعلى هذا الأساس المتين يبنى التفكير السليم.
ولأجل أن يتغلب الانسان على قلمه ولسانه وتفكيره لابدّ له من معرفة أقسام التعريف وشروطه وأصوله وقواعده، ليستطيع أن يحتفظ في ذهنه بالصور الواضحة للأشياء أولاً، وأن ينقلها إلى أفكار غيره صحيحة ثانياً... فهذه حاجتنا لمباحث التعريف.
أقسام التعريف
التعريف: حد ورسم.
الحد والرسم: تام وناقص.
سبق ان ذكرنا (التعريف اللفظي). ولا يهمنا البحث عنه في هذا العلم، لأنه لا ينفع إلا لمعرفة وضع اللفظ لمعناه، فلا يستحق اسم التعريف إلا من باب المجاز والتوسع. وانما غرض المنطقي من (التعريف) هو المعلوم التصوري الموصل إلى مجهول تصوري الواقع جواباً عن (ما) الشارحة أو الحقيقية. ويقسم إلى حد ورسم، وكل منهما إلى تام وناقص.
1- الحد التام
وهو التعريف بجميع ذاتيات المعرَّف (بالفتح)، ويقع بالجنس والفصل القريبين لاشتمالهما على جميع ذاتيات المعرف، فإذا قيل: ما الانسان؟
فيجوز أن تجيب - أول - بأنه: (حيوان ناطق). وهذا حد تام فيه تفصيل ما أجمله اسم الانسان، ويشتمل على جميع ذاتياته، لأن مفهوم الحيوان ينطوي فيه الجوهر والجسم النامي والحساس المتحرك بالارادة. وكل هذه أجزاء وذاتيات للانسان.
ويجوز أن تجيب - ثاني - بأنه: (جسم نام حساس متحرك بالارادة، ناطق). وهذا حد تام أيضاً للانسان عين الأول في المفهوم إلا انه أكثر تفصيلاً، لأنك وضعت مكان كلمة (حيوان) حده التام. وهذا تطويل وفضول لا حاجة إليه، إلا إذا كانت ماهية الحيوان مجهولة للسائل، فيجب.
وهكذا إذا كان الجوهر مجهولاً تضع مكانه حده التام ـ إن وجد ـ حتى ينتهي الأمر إلى المفاهيم البديهية الغنية عن التعريف كمفهوم الموجود والشيء.... وقد ظهر من هذا البيان:
أولاً- ان الجنس والفصل القريبين تنطوي فيهما جميع ذاتيات المعرف لا يشذ منها جزء أبداً، ولذا سمي الحد بهما (تاماً).
وثانياً- ان لا فرق في المفهوم بين الحدود التامة المطولة والمختصرة إلا ان المطولة أكثر تفصيلاً. فيكون التعريف بها واجباً تارة وفضولاً أخرى.
وثالثاً- ان الحد التام يساوي المحدود في المفهوم، كالمترادفين، فيقوم مقام الاسم بأن يفيد فائدته، ويدل على ما يدل عليه الاسم اجمالاً.
ورابعاً- ان الحد التام يدل على المحدود بالمطابقة.
2- الحد الناقص
وهو التعريف ببعض ذاتيات المعرَّف (بالفتح)، ولا بد أن يشتمل على الفصل القريب على الأقل. ولذا سمي (ناقصاً). وهو يقع تارة بالجنس البعيد والفصل القريب، وأخرى بالفصل وحده.
مثال الأول – تقول لتحديد الانسان: (جسم نام... ناطق)، فقد نقصت من الحد التام المذكور في الجواب الثاني المتقدم صفة (حساس متحرك بالارادة) وهي فصل الحيوان، وقد وقع النقص مكان النقط بين جسم نام، وبين ناطق، فلم يكمل فيه مفهوم الانسان.
ومثال الثاني – تقول لتحديد الانسان أيضاً: (... ناطق) فقد نقصت من الحد التام الجنس القريب كله. فهو أكثر نقصاناً من الأول كما ترى... وقد ظهر من هذا البيان:
أولاً- إن الحد الناقص لا يساوي المحدود في المفهوم، لأنه يشتمل على بعض أجزاء مفهومه. ولكنه يساويه في المصداق.
وثانياً- إن الحد الناقص لا يعطي للنفس صورة ذهنية كاملة للمحدود مطابقة له، كما كان الحد التام، فلا يكون تصوره تصوراً للمحدود بحقيقته، بل أكثر ما يفيد تمييزه عن جميع ما عداه تمييزاً ذاتياً فحسب.
وثالثاً- انه لا يدل على المحدود بالمطابقة، بل بالالتزام، لأنه من باب دلالة الجزء المختص على الكل.
3- الرسم التام
وهو التعريف بالجنس والخاصة، كتعريف الانسان بانه (حيوان ضاحك) فاشتمل على الذاتي والعرضي. ولذا سمي (تاماً).
4- الرسم الناقص
وهو التعريف بالخاصة وحدها كتعريف الانسان بأنه (ضاحك) فاشتمل على العرضي فقط، فكان (ناقصاً).
وقيل: إن التعريف بالجنس البعيد والخاصة معدود من الرسم الناقص فيختص التام بالمؤلف من الجنس القريب والخاصة فقط.
ولا يخفى ان الرسم مطلقاً كالحد الناقص لا يفيد إلا تمييز المعرَّف (بالفتح) عن جميع ما عداه فحسب، إلا انه يميزه تمييزاً عرضياً. ولا يساويه إلا في المصداق لا في المفهوم. ولا يدل عليه إلا بالالتزام. كل هذا ظاهر مما قدمناه.
انارة
ان الأصل في التعريف هو الحد التام، لأن المقصود الأصلي من التعريف أمران: (الأول) تصور المعرّف (بالفتح) بحقيقته لتتكون له في النفس صورة تفصيلية واضحة. و(الثاني) تمييزه في الذهن عن غيره تمييزاً تاماً. ولا يؤدّى هذان الأمران إلا بالحد التام. وإذ يتعذر الأمر الأول يكتفي بالثاني. ويتكفل به الحد الناقص والرسم بقسميه. وإلاّ قدم تمييزه تمييزاً ذاتياً ويؤدى ذلك بالحد الناقص فهو أولى من الرسم. والرسم التام أولى من الناقص.
إلا ان المعروف عند العلماء ان الاطلاع على حقائق الأشياء وفصولها من الأمور المستحيلة أو المتعذرة. وكل ما يذكر من الفصول فانما هي خواص لازمة تكشف عن الفصول الحقيقية. فالتعاريف الموجودة بين أيدينا أكثرها أو كلها رسوم تشبه الحدود.
فعلى من أراد التعريف أن يختار الخاصة اللازمة البينة بالمعنى الأخص، لأنها أدل على حقيقة المعرف وأشبه بالفصل. وهذا أنفع الرسوم في تعريف الأشياء. وبعده في المنزلة التعريف بالخاصة اللازمة البينة بالمعنى الأعم. أما التعريف بالخاصة الخفية غير البينة فانها لا تفيد تعريف الشيء لكل أحد، فإذا عرفنا المثلث بانه (شكل زواياه تساوي قائمتين) فانك لم تعرفه إلا للهندسي المستغني عنه.
التعريف بالمثال
والطريقة الاستقرائية
كثيراً ما نجد العلماء ـ لا سيما علماء الأدب ـ يستعينون على تعريف الشيء بذكر أحد أفراده ومصاديقه مثالاً له. وهذا ما نسميه (التعريف بالمثال) وهو أقرب إلى ع قول المبتدئين في فهم الأشياء وتمييزها.
ومن نوع التعريف بالمثال (الطريقة الاستقرائية) المعروفة في هذا العصر التي يدعو لها علماء التربية، لتفهيم الناشئة وترسيخ القواعد والمعاني الكلية في أفكارهم.
وهي: أن يكثر المؤلف أو المدرس ـ قبل بيان التعريف أو القاعدة ـ من ذكر الأمثلة والتمرينات، ليستنبط الطالب بنفسه المفهوم الكلي أو القاعدة. وبعدئذ تعطى له النتيجة بعبارة واضحة ليطابق بين ما يستنبط هو، وبين ما يعطى له بالأخير من نتيجة.
والتعريف بالمثال ليس قسماً خامساً للتعريف، بل هو من التعريف بالخاصة، لأن المثال مما يختص بذلك المفهوم، فيرجع إلى (الرسم الناقص). وعليه يجوز أن يكتفى به في التعريف من دون ذكر التعريف المستنبط، إذا كان المثال وافياً بخصوصيات الممثل له.
التعريف بالتشبيه
مما يلحق بالتعريف بالمثال ويدخل في الرسم الناقص أيضاً (التعريف بالتشبيه). وهو أن يشبه الشيء المقصود تعريفه بشيء آخر لجهة شبه بينهما، على شرط أن يكون المشبه به معلوماً عند المخاطب بأن له جهة الشبه هذه.
ومثاله تشبيه الوجود بالنور، وجهة الشبه بينهما ان كلاً منهما ظاهر بنفسه مظهر لغيره.
وهذا النوع من التعريف ينفع كثيراً في المعقولات الصرفة، عندما يراد تقريبها إلى الطالب بتشبيهها بالمحسوسات، لأن المحسوسات إلى الأذهان أقرب ولتصورها آلف. وقد سبق منا تشبيه كل من النسب الأربع بأمر محسوس تقريباً لها، فمن ذلك تشبيه المتباينين بالخطين المتوازيين لأنهما لا يلتقيان أبداً. ومن هذا الباب المثال المتقدم وهو تشبيه الوجود بالنور، ومنه تشبيه التصور الآلي (كتصور اللفظ آلة لتصور المعنى) بالنظر إلى المرآة بقصد النظر إلى الصورة المنطبعة فيها.
شروط التعريف
الغرض من التعريف ـ على ما قدمنا ـ تفهيم مفهوم المعرَّف (بالفتح) وتمييزه عما عداه. ولا يحصل هذا الغرض إلا بشروط خمسة:
الأول ـ أن يكون المعرَّف (بالكسر) مساوياً للمعرف (بالفتح) في الصدق، أي يجب أن يكون المعرِّف (بالكسر) مانعاً جامعاً. وإن شئت قلت (مطرداً منعكساً).
ومع مانع أو مطرد انه لا يشمل إلا أفراد المعرَّف (بالفتح)، فيمنع من دخول أفراد غيره فيه. ومعنى جامع أو منعكس انه يشمل جميع أفراد المعرَّف (بالفتح) لا يشذ منها فرد واحد.
فعلى هذا لا يجوز التعريف بالأمور الآتية:
1- بالأعم: لأن الأعم لا يكون مانعاً، كتعريف الإنسان بأنه حيوان يمشي على رجلين، فان جملة من الحيوانات تمشي على رجلين.
2- بالأخص: لأن الأخص لا يكون جامعاً، كتعريف الإنسان بانه حيوان متعلم، فانه ليس كلما صدق عليه الانسان هو متعلم.
3- بالمباين: لان المتباينين لا يصح حمل أحدهما على الآخر، ولا يتصادقان أبداً.
الثاني أن يكون المعرِّف (بالكسر) أجلى مفهوماً وأعرف عند المخاطب من المعرَّف (بالفتح). وإلا فلا يتم الغرض من شرح مفهومه، فلا يجوز ـ على هذا ـ التعريف بالأمرين الآتيين:
1- بالمساوي في الظهور والخفاء، كتعريف الفرد بأنه عدد ينقص عن الزوج بواحد، فان الزوج ليس أوضح من الفرد ولا أخفى، بل هما متساويان في المعرفة. كتعريف أحد المتضايفين بالآخر، وأنت انما تتعقلهما معاً، كتعريف الأب بانه والد الابن. وكتعريف الفوق بأنه ليس بتحت...
2- بالأخفى معرفة، كتعريف النور بأنه قوة تشبه الوجود.
الثالث ـ ألا يكون المعرِّف (بالكسر) عين المعرَّف (بالفتح) في المفهوم، كتعريف الحركة بالانتقال والانسان بالبشر تعريفاً حقيقياً غير لفظي، بل يجب تغايرهما أما بالاجمال والتفصيل كما في الحد التام أو بالمفهوم كما في التعريف بغيره.
ولو صح التعريف بعين المعرَّف لوجب أن يكون معلوماً قبل أن يكون معلوماً، وللزم أن يتوقف الشيء على نفسه. وهذا محال. ويسمون مثل هذا نتيجة الدور الذي سيأتي بيانه.
الرابع ـ أن يكون خالياً من الدور. وصورة الدور في التعريف: أن يكون المعرِّف (بالكسر) مجهولاً في نفسه، ولا يعرف الا بالمعرَّف (بالفتح)، فبينما ان المقصود من التعريف هو تفهيم المعرَّف (بالفتح) بواسطة المعرِّف (بالكسر)، وإذا بالمعرِّف(بالكسر) في الوقت نفسه انما يفهم بواسطة المعرَّف (بالفتح)، فينقلب المعرَّف (بالفتح) معرِّفاً (بالكسر).
وهذا محال، لأنه يؤول إلى أن يكون الشيء معلوماً قبل أن يكون معلوماً، أو إلى أن يتوقف الشيء على نفسه.
والدور يقع تارة بمرتبة واحدة ويسمى (دوراً مصرحاً)، ويقع أخرى بمرتبتين أو أكثر ويسمى (دوراً مضمراً).
1- (الدور المصرح) مثل: تعريف الشمس بانها (كوكب يطلع في النهار). والنهار لا يعرف إلا بالشمس إذ يقال في تعريفه: (النهار: زمان تطلع فيه الشمس). فتوقفت معرفة الشمس على معرفة النهار، ومعرفة النهار حسب الفرض متوقفة على معرفة الشمس. والمتوقف على المتوقف على شيء متوقف على ذلك الشيء، فينتهي الأمر بالأخير إلى أن تكون معرفة الشمس متوقفة على معرفة الشمس.
2- (الدور المضمر) مثل: تعريف الاثنين بانهما زوج أول. والزوج يعرف بأنه منقسم بمتساويين. والمتساويان يعرفان بأنهما شيئان أحدهما يطابق الآخر. والشيئان يعرفان بأنهما اثنان. فرجع الأمر بالأخير إلى تعريف الاثنين بالاثنين.
وهذا دور مضمر في ثلاث مراتب، لأن تعدد المراتب باعتبار تعدد الوسائط حتى تنتهي الدورة إلى نفس المعرَّف (بالفتح) الأول. والوسائط في هذا المثال ثلاث: الزوج، المتساويان، الشيئان.
ويمكن وضع الدور في المثال على صورة الدائرة في هذا الشكل:
_ والسهام فيها تتجه دائماً
إلى المعرَّفات (بالكسر) ـ
الخامس أن تكون الألفاظ المستعملة في التعريف ناصعة واضحة لا ابهام فيها، فلا يصح استعمال الألفاظ الوحشية والغربية، ولا الغامضة، ولا المشتركة والمجازات بدون القرينة، أما مع القرينة فلا بأس كما قدمت ذلك في بحث المشترك والمجاز. وإن كان يحس ـ علي كل حال ـ اجتناب المجاز في التعاريف والأساليب العلمية.
القسمة(*)
تعريفها:
قسمة الشيء: تجزئته وتفريقه إلى أمور متباينة. وهي من المعاني البديهية الغنية عن التعريف، وما ذكرناه فانما هو تعريف لفظي ليس إلا. ويسمى الشَّيء (مقسَّماً)، وكل واحد من الأمور التي انقسم إليها (قسماً)، تارة بالقياس إلى نفس المقسم، و(قسيماً) أخرى بالقياس إلى غيره من الأقسام. فإذا قسمنا العلم إلى ت صور وتصديق مثلاً، فالعلم مقسم، والتصور قسم من العلم وقسيم للتصديق. وهكذا التصديق قسم وقسيم.
فائدتها:
تأسست حياة الانسان كلها على القسمة، وهي من الأمور الفطرية التي نشأت معه على الأرض: فإن أول شيء يصنعه تقسيم الأشياء إلى سماوية وأرضية، والموجودات الأرضية إلى حيوانات وأشجار وأنهار وأحجار وجبال ورمال وغيرها. وهكذا يقسم ويقسم ويميز معنى عن معنى ونوعاً عن نوع. حتى تحصل له مجموعة من المعاني والمفاهيم... وما زال البشر على البشر حتى استطاع أن يضع لكل واحد من المعاني التي توصل إليها في التقسيم لفظاً من الألفاظ. ولولا القسمة لما تكثرت عنده المعاني ولا الألفاظ.
ثم استعان بالعلوم والفنون على تدقيق تلك الأنواع، وتمييزها تمييزاً ذاتياً. ولا يزال العلم عند الانسان يكشف له كثيراً من الخطأ في تقسيماته وتنويعاته، فيعدِّلها.
ويكشف له أنواعاً لم يكن قد عرفها في الموجودات الطبيعية، أو الأمور التي يخترعها منها ويؤلفها، أو مسائل العلوم والفنون.
وسيأتي كيف نستعين بالقسمة على تحصيل الحدود والرسوم وكسبها، بل كل حد انما هو مؤسس من أول الأمر على القسمة. وهذا أهم فوائد القسمة.
وتنفع القسمة في تدوين العلوم والفنون، لتجعلها أبواباً وفصولاً ومسائل متميزة، ليستطيع الباحث أن يلحق ما يعرض عليه من القضايا في بابها، بل العلم لا يكون علماً ذا أبواب ومسائل وأحكام إلا بالقسمة: فمدون علم النحو ـ مثلاً ـ لابد أن يقسم الكلمة أولاً، ثم يقسم الاسم مثلاً إلى نكرة ومعرفة، والمعرفة إلى أقسامها، ويقسم الفعل إلى ماض ومضارع وأمر، وكذلك الحرف وأقسام كل واحد منها، ويذكر لكل قسم حكمه المختص به... وهكذا في جميع العلوم.
والتاجر ـ أيضاً ـ يلتجئ إلى القسمة في تسجيل دفتره وتصنيف أمواله، ليسهل عليه استخراج حساباته ومعرفة ربحه وخسارته. وكذلك باني البيت، ومركب الأدوات الدقيقة يستعين على اتقان عمله بالقسمة. والناس من القديم قسموا الزمن إلى قرون وسنين وأشهر وأيام وساعات ودقائق لينتفعوا بأوقاتهم ويعرفوا أعمارهم وتاريخهم.
وصاحب المكتبة تنفعه قسمتها حسب العلوم أو المؤلفين، ليدخل أي كتاب جديد يأتيه في بابه، وليستخرج بسهولة أي كتاب يشاء. وبواسطة القسمة استعان علماء التربية على توجيه طلاب العلوم، فقسموا المدارس إلى ابتدائية وثانوية وعالية، ثم كل مدرسة إلى صفوف، ليضعوا لكل صف ومدرسة منهاجاً يناسبه من التعليم.
وهكذا تدخل القسمة في كل شأن من شؤون حياتنا العلمية والاعتيادية، ولا يستغني عنها انسان. ومهمتنا منها هنا أن نعرف كيف نستعين بها على تحصيل الحدود والرسوم.
(هامش)
(*) القسمة من المباحث التي عني بها المناطقة في العصر الحديث، وظن أنها من المباحث التي تفتق عنها الفكر الغربي. غير أن فلاسفة اﻹٍسلام سبقوا إلى التنبيه عليها، وقد ذكرها الشيخ الطوسي العظيم في منطق التجريد لتحصيل الحدود واكتسابها، وأوضحها العلامة الحلي في شرحه (الجوهر النضيد).