كنزالعلوم الاسلامية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخولدردشة

 

 أبحاث حول التقوى الديني ودرجاته

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابومحمدالحسن
مدير المنتدى
مدير المنتدى
ابومحمدالحسن


عدد المساهمات : 870
تاريخ التسجيل : 22/09/2010

أبحاث حول التقوى الديني ودرجاته Empty
مُساهمةموضوع: أبحاث حول التقوى الديني ودرجاته   أبحاث حول التقوى الديني ودرجاته I_icon_minitimeالسبت أغسطس 22, 2015 3:58 pm

أبحاث حول التقوى الديني ودرجاته



البحث يقع في فصول :

الفصل الأول : القانون والأخلاق الكريمة والتوحيد :



لا يسعد القانون إلا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة ، والأخلاق الكريمة لا تتمُّ إلا بالتوحيد ، فالتوحيد هو الأصل الذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانية ، وتتفرَّع بالأخلاق الكريمة ، وهذه الفروع هي التي تثمر ثمراتها الطيبة في المجتمع .
فقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) الأنفال : 24 - 26 .
فجعل الإيمان بالله كشجرة لها أصل وهو التوحيد لا محالة : ( تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ) وهو العمل الصالح ، وفرع وهو الخُلُق الكريم كالتقوى ، والعفة ، والمعرفة ، والشجاعة ، والعدالة ، والرحمة ، ونظائرها .
وقال تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر : 10 .
فجعل سعادة الصعود إلى الله وهو القرب منه تعالى للكلم الطيب وهو الاعتقاد الحق ، وجعل العمل الذي يصلح له ويناسبه هو الذي يرفعه ويمدُّه في صعوده .
بيان ذلك : إن من المعلوم أن الإنسان لا يتمُّ له كماله النوعي ولا يسعد في حياته - التي لا بُغيه له أعظم من إسعادها - إلا باجتماع من أفراد يتعاونون على أعمال الحياة على ما فيها من الكثرة والتنوُّع ، وليس يقوى الواحد من الإنسان على الإتيان بها جميعاً .
وهذا هو الذي أحوج الإنسان الاجتماعي إلى أن يتسنَّن بسُنَن وقوانين يحفظ بها حقوق الأفراد عن الضيعة والفساد ، حتى يعمل كل منهم ما في وسعه العمل به ، ثم يبادلوا أعمالهم ، فينال كل من النتائج المعدَّة ما يعادل عمله ، ويقدره وزنه الاجتماعي من غير أن يظلم القوي المقتدر ، أو يظلم الضعيف العاجز .
ومن المسلَّم أن هذه السُّنَن والقوانين لا تثبت مؤثرة إلا بسُنَن وقوانين أخرى جزائية ، تهدِّد المتخلفين عن السنن والقوانين المتعدين على حقوق ذوي الحقوق ، وتخوفهم بالسيئة قِبال السيئة ، وبأخرى تشوِّقهم وترغبهم في عمل الخيرات ، وتضمن إجراء الجميع القوة الحاكمة التي تحكم فيهم ، وتتسيطر عليهم بالعدل والصدق .
وإنما تتحقق هذه الأمنية إذا كانت القوة المجرية للقوانين عالمة بالجرم وقوية على المجرم ، وأما إذا جهلت ووقع الإجرام على جهل منها أو غفلة - وكم له من وجود - فلا مانع يمنع من تحققه ، والقوانين لا أيدي لها تبطش بها .
وكذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة ، أو مساهلة في السياسة والعمل ، فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشد قوة ، ضاعت القوانين وفشَت التخلُّفات والتعديات على حقوق الناس والإنسان ، كما مرَّ مراراً في المباحث السابقة من هذا الكتاب ، مستخدم بالطبع يجر النفع إلى نفسه ولو أضرَّ غيره .
ويشتد هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوة في القوة المجرية أو من يتولى أزمة جميع الأمور ، فاستضعف الناس وسلب منهم القدرة على ردِّه إلى العدل وتقويمه بالحق ، فصار ذا قوة وشوكة لا يقاوم في قوته ، ولا يعارض في إرادته .
والتواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة والطواغيت وتحكماتهم الجائرة على الناس ، وهو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض .
فالقوانين والسنن وإن كانت عادلة في حدود مفاهيمها ، وأحكام الجزاء وإن كانت بالغة في شدتها ، لا تجري على رسلها في المجتمع ، ولا تسدُّ باب الخلاف وطريق التخلف ، إلا بأخلاق فاضلة إنسانية ، تقطع دابر الظلم والفساد ، كملكة اتِّباع الحق واحترام الإنسانية ، والعدالة ، والكرامة ، والحياة ، ونشر الرحمة ونظائرها .
ولا يغرنَّك ما تشاهده من القوة والشوكة في الأمم الراقية ، والانتظام والعدل الظاهر فيما بينهم ، ولم يوضع قوانينهم على أسس أخلاقية ، حيث لا ضامن لإجرائها .
فإنهم أمم يفكرون فكرة اجتماعية لا يرى الفرد منهم إلا نفع الأمة وخيرها ، ولا يدفع إلا ما يضرُّ أمته ، ولا هَمّ لأمته إلا استرقاق سائر الأمم الضعيفة واستدرارهم ، واستعمار بلادهم ، واستباحة نفوسهم وأعراضهم وأموالهم ، فلم يورثهم هذا التقدم والرقي إلا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الأفراد إلى المجتمعات .
فقامت الأمة اليوم مقام الفرد بالأمس ، وهجرت الألفاظ معانيها إلى أضدادها ، فتطلق الحرية ، والشرافة ، والعدالة ، والفضيلة ، ولا يراد بها إلا الرقية والخسَّة والظُّلم والرذيلة .
وبالجملة فالسنن والقوانين لا تأمن التخلف والضيعة إلا إذا تأسَّست على أخلاق كريمة إنسانية ، واستظهرت بها .
ثم الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع ، ولا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل ، إلا إذا اعتمدت على التوحيد ، وهو الإيمان بأن للعالَم - ومنه الإنسان - إلها واحداً سرمدياً ، لا يعزب عن علمه شيء ، ولا يغلب في قدرته عن أحد خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها ، وسيعيدهم إليه فيحاسبهم ، فيجزى المحسن بإحسانه ، ويعاقب المسيء بإساءته ، ثم يخلدون منعمين أو معذبين .
ومن المعلوم أن الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبقَ للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله ، وكان التقوى رادعاً داخلياً له عن ارتكاب الجرم ، ولولا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة - عقيدة التوحيد - لم يبقَ للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع الدنيا الفانية ، والتلذذ بلذائذ الحياة المادِّية .
وأقصى ما يمكنه أن يعدل به معاشه أن يحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية ، وأن يفكر في نفسه أن من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة ، حفظاً للمجتمع من التلاشي ، وللاجتماع من الفساد .
وإن من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع ، فينال بذلك البعض الباقي ، ويثني عليه الناس ويمدحوه ما دام حيّاً ، أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبية ، أما ثناء الناس وتقديرهم العمل فإنما يجري في أمور هامة علموا بها ، أما الجزئيات - وما لم يعلموا بها كالأعمال السرية - فلا وقاء يقيها .
وأما الذكر الجاري والاسم السامي فيؤثر غالباً فيما فيه تفدية وتضحية من الأمور ، كالقتل في سبيل الوطن ، وبذل المال والوقت في ترفيع مباني الدولة ، ونحو ذلك فليس ممَّن يبتغيه ويذعن به .
ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا إلا اعتقاداً خرافياً ، إذ لا إنسان على هذا بعد الموت والفوت حتى يعود إليه شيء من النفع بثناء أو حُسن ذكر ، وأي عاقل يشترى تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة ، أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه ، وليس عنده بعد الموت إلا البطلان ، والاعتقاد الخرافي يزول بأدنى تنبه والتفات .
فقد تبيَّن أن شيئاً من هذه الأمور ليس من شأنه أن يقوم مقام التوحيد ، ولا أن يخلفه في صَدِّ الإنسان عن المعصية ، ونقض السنن والقوانين ، وخاصة إذا كان العمل مما من طبعه أن لا يظهر للناس .
وخاصة إذا كان من طبعه أن لو ظهر على خلاف ما هو عليه ، لأسباب تقتضي ذلك ، كالتعفف الذي يزعم أنه كان شرَهاً وبغياً كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز النبي يوسف ( عليه السلام ) ، وقد كان أمره يدور بين خيانة العزيز في امرأته ، وبين اتِّهام المرأة إياه عند العزيز بقصدها بالسوء ، فلم يمنعه ( عليه السلام ) ، ولا كان من الحري أن يمنعه شيء إلا العلم بمقام ربه .

الفصل الثاني :



يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة ، وإن شئت فقل أنه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة ، الخوف والرجاء والحب .
فقال تعالى : ( وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) الحديد : 20 .
فعلى المؤمن أن يتنبَّه لحقيقة الدنيا وهي أنها متاع الغرور ، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، فعليه أن لا يجعلها غاية لأعماله في الحيوة ، وأن يعلم أن له وراءها داراً ، وهي الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله ، وهي عذاب شديدِ للسيئات .
فيجب أن يخافه ويخاف الله فيه ، ومغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها ويرجو الله فيها ، ورضوان من الله يجب أن يقدمه لرضى نفسه .
وطباع الناس مختلفة في إيثار هذه الطرق الثلاثة واختيارها ، فبعضهم وهو الغالب يغلب على نفسه الخوف ، وكلما فكر فيما أوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من أنواع العذاب الذي أُعِدَّ لهم زاد في نفسه خوفاً ، ولفرائصه ارتعاداً ، ويساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفاً من عذابه .
وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء ، وكلما فكَّر فيما وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاءً ، وبالغ في التقوى ، والتزام الأعمال الصالحات ، طمعاً في المغفرة والجنة .
وطائفة ثالثاً وهم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفاً من عقابه ، ولا طمعاً في ثوابه ، وإنما يعبدونه لأنه أهل للعبادة ، وذلك لأنهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى ، والصفات العليا ، فعلموا أنه ربهم الذي يملكهم وإرادتهم ورضاهم وكل شيء غيرهم ، ويدبر الأمر وحده ، وليسوا إلا عباد الله فحسب ، وليس للعبد إلا أن يعبد ربَّه ، ويقدم مرضاتَه وإرادتَه تعالى على مرضاتِه وإرادتِه .
فهم يعبدون الله ولا يريدون في شيء من أعمالهم فعلاً أو تركاً إلا وجهه ، ولا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم ، ولا إلى ثواب يرجيهم ، وإن خافوا عذابه ورجوا رحمته .
والى هذا يشير قول الإمام علي ( عليه السلام ) : ( مَا عَبَدْتُكَ خَوفاً مِنْ نَارِكَ ، ولا رَغْبَةً في جَنَّتِكَ ، بل وجدتُكَ أهلاً للعبادة فعبدْتُكَ ) .
وهؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضاة ربهم ومحضوا أعمالهم في طلب غاية هو ربهم ، تظهر في قلوبهم المحبة الإلهية ، وذلك أنهم يعرفون ربهم بما عرَّفهم به نفسه ، وقد سمَّى نفسه بأحسن الأسماء ، ووصف ذاته بكل صفة جميلة ، ومن خاصة النفس الإنسانية أن تنجذب إلى الجميل ، فكيف بالجميل على الإطلاق , وقال تعالى : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) الأنعام : 102 ، ثم قال تعالى : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) السجدة : 7 .
فأفاد أن الخلقة تدور مدار الحسن ، وأنهما متلازمان متصادقان ، ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة أن ما خلقه من شيء آية تدل عليه ، وأن في السماوات والأرض لآيات لأولي الألباب ، فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى ، ولا يُحكى شيئاً من جماله وجلاله .
فالأشياء من جهة أنواع خلقها وحسنها تدل على جماله الذي لا يتناهى ، ويحمده ويثنى على حسنه الذي لا يفنى ، ومن جهة ما فيها من أنواع النقص والحاجة تدل على غناه المطلق ، وتسبح وتنزه ساحة القدس والكبرياء كما قال تعالى : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ) الإسراء : 44 .
فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريقٍ هَداهم إليه ربُّهم وعرَّفها لهم ، وهو أنها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله ، وليس لها من النفسية والأصالة والاستقلال إلا أنها كمرائي تجلَّى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي ، وبفقرها وحاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق ، وبذلتها واستكانتها ما فوقها من العزة والكبرياء .
ولا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزة والعظمة ، ويغشى قلبه من المحبة الإلهية ما ينسيه نفسه وكل شيء ، ويمحو رسم الأهواء والأميال النفسانية عن باطنه ، ويبدل فؤاده قلبا سليماً ليس فيه إلا الله عزَّ اسمه .
فقال تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا للهِ ) البقرة : 165 .
ولذلك يرى أهل هذا الطريق أن الطريقين الآخرين - أعني طريق العبادة خوفاً وطريق العبادة طمعاً - لا يخلوان من شرك .
فإن الذي يعبده تعالى خوفاً من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه ، كما أن من يعبده طمعاً في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة ، ولو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده ، ولا حامَ حول معرفته .
وقد تقدَّمت الرواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( هَل الدِّينُ إلا الحُبّ ) ، وقوله ( عليه السلام ) في حديث : ( وإنِّي أعبُدُه حُبّاً لَه ، وهَذا مَقامٌ مَكْنونٌ لا يَمسُّه إلاَّ المُطَهَّرُون ) .
وإنما كان أهل الحب مطهرين لتنزههم عن الأهواء النفسانية ، والألواث المادية ، فلا يتم الإخلاص في العبادة إلا من طريق الحب .

الفصل الثالث : كيف يورث الحب الإخلاص ؟



عبادته تعالى خوفاً من العذاب تبعث الإنسان إلى التروك ، وهو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة ، فالزاهد من شأنه أن يتجنَّب المحرمات أو ما في معنى الحرام ، أعني ترك الواجبات ، وعبادته تعالى طمعاً في الثواب تبعث إلى الأفعال ، وهو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نِعَم الآخرة والجنة .
فالعابد من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب وهو ترك الحرام ، والطريقان معاً إنما يدعوان إلى الإخلاص للدِّين لا لِرَبِّ الدين .
وأما محبة الله سبحانه فإنها تطهِّر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا وزينها ، من ولد ، أو زوج ، أو مال ، أو جاه ، حتى النفس ومالها من حظوظ وآمال تقصر القلب في التعلق به تعالى ، وبما ينسب إليه من دين أو نبي أو ولي وسائر ما يرجع إليه تعالى بوجه فإن حب الشيء حُبٌّ لآثاره .
فهذا الإنسان يحب من الأعمال ما يحبه الله ، ويبغض منها ما يبغضه الله ، ويرضى برضا الله ولرضاه ، ويغضب بغضب الله ولغضبه ، وهو النور الذي يضيء له طريق العمل .
فقال تعالى : ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام : 122 .
والروح الذي يشير إليه بالخيرات والأعمال الصالحات ، قال تعالى : ( وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) المجادلة : 22 .
وهذا هو السر في أنه لا يقع منه إلا الجميل والخير ، ويتجنب كل مكروه وشر .
وأما الموجودات الكونية والحوادث الواقعة فانه لا يقع بصره على شئ منها خطير أو حقير كثير أو يسير إلا احبه واستحسنه لأنه لا يرى منها إلا أنها آيات محضة تجلى له ما وراءها من الجمال المطلق والحسن الذي لا يتناهى العاري من كل شين ومكروه .
ولذلك كان هذا الإنسان محبوراً بنعمة ربِّه بسرور لا غَمَّ معه ، ولذة وابتهاج لا ألم ولا حزن معه ، وأمن لا خوف معه ، فإن هذه العوارض السوء إنما تطرأ عن إدراك للسوء ، وترقُّب للشر والمكروه .
ومن كان لا يرى إلا الخير والجميل ، ولا يجد إلا ما يجري على وفق إرادته ورضاه ، فلا سبيل للغمِّ والحزن والخوف ، وكل ما يسوء الإنسان ويؤذيه إليه ، بل ينال من السرور والابتهاج والأمن ما لا يقدره ولا يحيط به إلا الله سبحانه ، وهذا أمر ليس في وسع النفوس العادية أن تتعقَّله وتكتنهه إلا بنوع من التصور الناقص .
وإليه يشير أمثال قوله تعالى : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ) يونس : 62 - 63 .
وقوله تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) الأنعام : 28 .
وهؤلاء هم المقرَّبون الفائزون بقربه تعالى ، إذ لا يحول بينهم وبين ربهم شيء ممَّا يقع عليه الحس ، أو يتعلق به الوهم ، أو تهواه النفس ، أو يلبسه الشيطان .
فإن كل ما يتراءى لهم ليس إلا آية كاشفة عن الحق المتعالي ، لا حجاباً ساتراً ، فيفيض عليهم ربهم علم اليقين ، ويكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الأعين المادية العميَّة ، بعد ما يرفع الستر فيما بينه وبينهم ، كما يشير إليه قوله تعالى : ( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) المطففين : 18 - 21 .
وقوله تعالى : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر : 5 - 6 .
وقد تقدَّم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ) المائدة : 105 ، في الجزء السادس من الكتاب .
وبالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله ، المفوضون إليه ، الراضون بقضائه ، المسلمون لأمره ، إذ لا يرون إلا خيراً ، ولا يشاهدون إلا جميلاً ، فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة والأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد ، فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم .
هذا معنى إخلاص العبد دينه لله ، فقال تعالى : ( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) غافر : 65 .

الفصل الرابع :



وأما إخلاصه تعالى عبده له ، فهو ما يجده العبد في نفسه من الإخلاص له منسوباً إليه تعالى ، فإن العبد لا يملك من نفسه شيئاً إلا بالله ، والله سبحانه هو المالك لما ملكه إياه ، فإخلاصه دينه - وإن شِئْتَ فقل إخلاصه نفسه لله - هو إخلاصه تعالى إياه لنفسه .
نعم هاهنا شيء وهو أن الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة ، فنشئوا من بادئ الأمر بأذهان وقادة وإدراكات صحيحة ، ونفوس طاهرة ، وقلوب سليمة .
فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب ، بل أعلى وأرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع والمزاحمات ، والظاهر أن هؤلاء هم المخلصون - بالفتح - لله في عُرف القرآن .
وهؤلاء هم الأنبياء والأئمة ، وقد نصَّ القرآن بأن الله اجتباهم - أي جمعهم - لنفسه ، وأخلصهم لحضرته ، قال تعالى : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) الأنعام : 87 .
وقال تعالى : ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) الحج : 78 .
وآتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملَكة تعصمهم من اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي ، وتمتنع معه صدور شيء منها عنهم صغيرة أو كبيرة ، وبهذا يمتاز العصمة من العدالة ، فإنهما معاً تمنعان من صدور المعصية ، لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة .
وقد تقدم آنفاً أن من خاصَّة هؤلاء القوم أنهم يعلمون من ربِّهم ما لا يعلمه غيرهم ، والله سبحانه يصدق ذلك بقوله : ( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافات : 159 .
وإن المحبة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلا ما يريده الله وينصرفوا عن المعاصي ، والله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه ، كقوله : ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص : 82 - 83 .
ومن الدليل على أن العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطاباً لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) : ( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) النساء : 113 .
وقوله تعالى حكاية عن النبي يوسف ( عليه السلام ) : ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ) يوسف : 33 .
ويظهر من ذلك :

أوّلاً :



أن هذا العلم يخالف سائر العلوم في أن أثره العملي وهو صرف الإنسان عما لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعي غير متخلِّف دائماً ، بخلاف سائر العلوم .
فإن الصرف فيها أكثري غير دائم ، فقال تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ) النمل : 14 .
وقال تعالى : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلَى عِلْمٍ ) الجاثية : 23 .
وقال تعالى : ( فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) الجاثية : 17 .
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : ( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافات : 159 .
وذلك أن هؤلاء المخلصين من الأنبياء والأئمة ( عليهم السلام ) قد بيَّنوا لنا جمل المعارف المتعلِّقة بأسمائه تعالى وصفاته من طريق السمع ، وقد حصَّلنا العلم به من طريق البرهان أيضاً .
والآية مع ذلك تنزِّهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به أولئك المخلصون ، فليس إلا أن العلم غير العلم وإن كان متعلق العلمين واحداً من وجه .

ثانياً :



إن هذا العلم - أي ملكة العصمة - لا يغيِّر الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية ، ولا يخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار ، كيف والعلم من مبادئ الاختيار ، ومجرد قوة العلم لا يوجب إلا قوة الإرادة .
كطالب السلامة إذا أيقن بكون مانع ما سُمّاً قاتلاً من حينه ، فإنه يمتنع باختياره من شربه قطعاً ، وإنما يضطرُّ الفاعل ويجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفي الفعل والترك من الإمكان إلى الامتناع .
ويشهد على ذلك قوله : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) الأنعام : 87 - 88 .
تفيد الآية أنهم في إمكانهم أن يشركوا بالله وإن كان الاجتباء والهدى الإلهي مانعاً من ذلك .
وكذلك قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) المائدة : 67 ، إلى غير ذلك من الآيات .
فالإنسان المعصوم إنما ينصرف عن المعصية بنفسه وعن اختياره وإرادته ، ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى .
ولا ينافى ذلك أيضاً ما يشير إليه كلامه تعالى وتصرح به الأخبار أن ذلك من الأنبياء والأئمة بتسديد من روح القدس .
فإن النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان ، ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله فإن شيئاً من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلاً صادراً عن فاعله ، مستنداً إلى اختياره وإرادته ، فافهم ذلك .
نعم هناك قوم زعموا أن الله سبحانه إنما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره وإرادته بل من طريق منازعة الأسباب ومغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان ، فيمنعها عن التأثير ، أو يغيِّر مجراها ويحرِّفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده ، كما يمنع الإنسان القوي الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه .
وبعض هؤلاء وإن كانوا من المجبِّرة لكن الأصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا وأشباهه أنهم يرون أن حاجة الأشياء إلى البارئ الحق سبحانه إنما هي في حدوثها ، وأما في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه .
فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب ، إلا أنه لما كان أقدر وأقوى من كل شيء كان له أن يتصرف في الأشياء حال البقاء أيّ تصرفٍ شاء ، من منع أو إطلاق ، أو إحياء أو إماتة ، أو معافاة أو تمريض ، أو توسعة أو تقتير ، إلى غير ذلك بالقهر .
فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبداً عن شَرٍّ مثلاً أرسل إليه ملكاً ينازعه في مقتضى طبعه ، ويغيِّر مجرى إرادته مثلاً عن الشر إلى الخير ، أو أراد أن يضلَّ عبداً لاستحقاقه ذلك سلَّط عليه إبليس فحوَّله من الخير إلى الشر ، وإن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار والاضطرار .
وهذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير والشر مشاهدة عيان أنه ليس هناك سبب آخر يغايرنا وينازعنا فيغلب علينا ، غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها وإرادة مترتبة عليه ، قائمين بها .
فالذي يثبته السمع والعقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك والشيطان سبب طولي لا عرضي ، وهو ظاهر .
مضافاً إلى أن المعارف القرآنية من التوحيد وما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله ، وقد تقدم شَطر وافر من ذلك في تضاعيف الأبحاث السالفة .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://treasure.own0.com
 
أبحاث حول التقوى الديني ودرجاته
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كنزالعلوم الاسلامية :: القسم الحادي عشر الخاص بعلم الاخلاق اضغط هنا-
انتقل الى: