الصِّراط المستقيم
ما معنى الصراط ؟
يدلّ الصراط ـ في معناه الأصليّ ـ على الطريق. وهو طريق خاصّ بسِماته ومزاياه، لا كسائر الطرق. إنّه الطريق الذي من شأنه أن يضمّ سالكيه ويطويهم في متنه. .و من شأنه ـ استمداداً من مادّة «صَرَطَ» اللغويّة ـ أن «يصرط» السائرين فيه ويبتلعهم، فلا يفكّهم حتّى يوصلهم إلى خاتمته ونهايته؛ إذ الصِّراط والسِّراط ـ ولهما دلالة واحدة ـ مشتّقان من «صرط» و «سرط» بمعنى: ابتلع وازدرد . وفي السّرط والابتلاع دلالة على التغييب والإخفاء، ممّا يوحي بأنّ الصراط يغيّب المارّين فيه ويصبغهم بصبغته المتميّزة.
الصراط في القرآن
وصف القرآنُ الكريم الطريقَ الحقَّ الذي يوصل إلى لقاء الله تعالى بالاستقامة؛ وقد ورد هذا الوصف في موضعاً منه كما نصّ على نعت «السَّويّ» للصراط في موضعين من آياته الشريفة تمييزاً لصراط الحقّ عن صراط الباطل.. الذي لابدّ أن يكون طريقاً أعوج، يبتلع أيضاً الداخلين فيه ويغيّبهم في أعماق ظلماته، ثمّ يمضي بهم في انحرافه واعوجاجه فلا يُفضي في النهاية إلاّ على بوّابة الجحيم. من هنا وُصِف الصراط الأعوج بـ «صراط الجحيم» في قوله تعالى: فآهْدوهُم إلى صراطِ الجحيم .
استقامة الصراط
اقترن صراط الحقّ بصفة الاستقامة. وهذه الصفة لها دلالة على التوسّط والاعتدال في الحركة والمسير، فلا مَزلّة إلى يمين ولا مَضلّة إلى شمال. وله كذلك دلالة على معنى السرعة في بلوغ الغاية الكبرى؛ ذلك أنّ استقامة الخطّ تجعله أقصر مسافة بين مبدئه ومنتهاه.. في حين يَسِم الاعوجاجُ الطريقَ بِسمات الطول والبطء والانحراف.
دقّة الصراط وحدّته
يوصف الصراط ـ إضافةً إلى الاستقامة ـ بصفتين أُخريَين تكشفان عن واقعيّة دقيقة، إذ قالت عنه روايات النبيّ وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين بأنّه «أدقّ من الشَّعرة، وأحدّ من السيف» . فكيف يكون صراط الله المستقيم على هذه الشاكلة من الدقّة الدقيقة والحدّة الحادّة ؟ وماذا تعني هاتان الصفتان في حاضر الإنسان وفي مستقبله حين يدخل في حقائق القيامة المنكشفة ؟
الصراط صراطان
لابدّ من التنويه أوّلاً بهذه الحقيقة، وهي أنّ الصراط المستقيم صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة. يقول الإمام الحسن العسكري عليه السّلام عن هذين الصراطين: «.. فأمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قَصُر عن الغلوّ، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يَعدِل إلى شيء من الباطل. وأمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة... الذي هو مستقيم»
وهذا ممّا يكشف لنا سريعاً عن ارتباط الصراط بالمنهج الإلهيّ الذي أعدّه الله لتتعرّف عليه البشرية وتهتدي به في الحركة الصاعدة المتقدّمة دوماً إلى الأمام، والذي كان حُجج الله من أنبياء وأوصياء سلام الله عليهم هم الداعين إليه والدالّين عليه.
صراطنا الآن
الواقع أنّ المضمون الدينيّ المقدس ـ بما يتضمّن من التزام ومن رفض ـ ينبغي أن يصبغ بصبغته الأصيلة حياة الفرد وحياة الأمة، وهو الذي يغيّبهم في نوره وسعادته إذا نَهجوا فيه.. حتّى يبلّغهم الكمال اللائق المطلوب، فإذا هم بشر أسوياء. وهذا هو صراطهم في الدنيا.
الآيات القرآنية أبانت هذه المعانيّ، وشوّقت للسلوك في طريق الاستقامة والاستواء ـ بما يستكنّ فيه من بهجة ونور ـ في مثل قوله عزّوجل: ومَن يَعتصِمْ باللهِ فقد هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيم وفي قوله على لسان أحد الأنبياء عليهم السّلام: إنّ الله ربّي وربّكم فاعبُدوه، هذا صراطٌ مستقيم وفي مثل خطابه المقدّس: وهذا صراطُ ربِّك مستقيماً وقوله مخاطباً النبيّ الخاتم صلّى الله عليه وآله: وإنّك لَتدعوهم إلٍى صراط مستقيم وكما تكون الهداية إلى الصراط هدايةَ إبانةٍ وكشف، تكون هداية إيصال وإبلاغ.. عبّر عنها قول الحقّ تعالى: وهُدوا إلى الطيّبِ مِن القولِ، وهُدوا إلى صراط الحميد
تحذير من الانزلاق
إنّ الكشف عن سبيل الحقّ والهداية إلى الصراط المستقيم يستبطن تحذيراً من مفارقة الاستقامة، وتحذيراً من التفرّق ذات اليمين وذات الشمال.. فتزلّ قدم بعد ثبوتها. إحدى آيات القرآن المجيد نصّت على هذا التحذير الناهي عن الانزلاق من جادّة الصراط والانجرافَ في تيّارات السبل الأخرى الملتوية المضلِّلة. تقول آية سورة الأنعام: .. وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعُوه ولا تَتَّبِعوا السُّبُلَ فتَفَرَّقَ بكم عن سبيلهِ
ولا ريب أنّ التفرّق عن سبيل الله هو تفرّق عن الصراط المستقيم. وهذا يستتبع ـ لا محالة ـ اتّباعَ السبل الأخرى.. ممّا يجعل الإنسان يهوي في انتكاسة وجوديّة مدمِّرة تنقله من حالة الإنسان المعتدل السويّ الناهج منهج الكمال الإنسانيّ، إلى حالة انقلاب الموازين واضطراب الرؤية والانكفاء عن الحقيقة الوجوديّة الأصيلة. وهذه المقارنة بين النهجين تكشف عنها آية من سورة المُلك: أفَمَن يَمشي مُكِبّاً على وجهِه أهدى أم مَن يَمشي سَويّاً على صراطٍ مستقيم !
لكلٍّ صراط
الإنسان المؤمن يسلك ـ إذَن ـ خلال حياته في صراط. ولكلّ فرد صراطه الخاصّ.. الذي يتّخذ سَعتَه أو ضِيقه من مدى انفتاح صاحبه ـ ظاهراً وباطناً ـ على منهج الحقّ، ومن مدى اقترانه بالصدق. والمفروض أنّ المؤمن يحسّ بصراطه ويرى درب المسير الذي يصونه من التلفّت إلى غير منهج الله. وهو يستطيع أن يقيس سعة صراطه الخاصّ وضيقه بمقدار الحقّ فيما يعتقد، وبمقدار الصدق فيما يعمل ويمارس.. أي: بمقدار استمساكه بعقيدة الولاية والبراءة الإلهيّة (أو الالتزام والرفض).. فيُعظِّم ما عظّمَ اللهُ، ويُهوِّن ما هوّن اللهُ، في تفصيلات حياته، وفي دقائق سيرته اليوميّة المتجدّدة.